كانت دموع الفرح تملأ عينا عمير عندما وصل إلى بلدته هذا الشهر عائدا إليها بعد غياب دام اثنتين وعشرين سنة، قضاها في مخيم للاجئين الأفغان في بيشاورالباكستانية الواقعة على الحدود الأفغانية، وتعكس عودة السيد عمير الحلم الذي كان يراوده طوال حياته هو والكثيرين مثله ممن أضناهم العيش واتعبتعهم السنون من جراء العيش في المخيمات البائسة، وبدا سعيدا منتشيا وهو واقف على ظهر الحافلة التي قامت بنقله هو وأفراد عائلته وقال مشيرا بيديه نحو حقول القمح: انظر إلى حقول القمح هذه، انظر إلى هذا الجمال، إنني لا أكاد اصدق أنني موجود الآن على تراب وطني «وقد بدأت زخات خفيفة من المطر بالانهمار راسمة بذلك قوس قزح جميلاً فوق قرية استالي، لقد اضطر السيد عمير إلى مغادرة بلدته في عام 1979 بعد ثلاثة شهور تقريبا من بدء الاجتياح السوفيتي لأفغانستان، حيث اضطر هو وعائلته إلى النزوح إلى بيشاور مبتدئا بذلك عقدين من الزمن عمل خلالهما في كثير من المهن البسيطة مثل عامل بناء وانتهى به المطاف إلى أن أصبح صاحب بقالة بسيطة تدر عليه حوالي50 سنتا في اليوم، لقد كان عمير عندما نزح من بلاده يبلغ من العمر38 عاما، أما اليوم فهو يبلغ 70 عاما وهكذا فقد أمضى معظم أيام شبابه في المهجرقاطعا الأمل في العودة يوما ما إلى بلاده. ويقول واصفا الحياةالتي عاشها في باكستان: «لا يمكن لأحد أن يتصور الحياة الشاقة والبائسة التي أمضيناها في بيشاور، فقد كنا تقريبا لا نملك شيئا ولم نكن نحلم أبدا بالعودة إلى أرضنا ولكننا الآن على تراب وطننا الغالي وقد تركنا سنوات العذاب واليأس خلفنا»، وعندما وصلت الشاحنة إلى القرية بدأ عمير وعائلته بإفراغ مقتنياتهم البسيطة والمتواضعة التي جلبوها معهم من باكستان مثل أدوات الطبخ البسيطة وأكياس الملابس وغيرها من مستلزمات الحياة اليومية. وبعد فترة بسيطة تجمع أهل القرية للترحيب به، حيث جلس يحتسي الشاي وقد أحاط به العديد من أبناء قريته مثل المعلم و النجار والخباز وغيرهم، حيث قال لهم انه يود إيصال رسالة شكر إلى الاميركيين الذين استطاعوا ابعاد حركة طالبان عن السلطة وسمحوا لنا بالعودة إلى ديارنا، هذا وقد وصل حوالي 000.300 أفغاني قادمين من باكستان منذ حوالي شهرين وذلك عندما بدأت وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة بمساعدة جميع الأفغان اللاجئين الموجودين في إيران أو باكستان بالعودة إلى ديارهم، ويتوقع المسئولون في الوكالة عودة ما يقارب 2. 1 مليون أفغاني في نهاية المطاف، ومع تزايد القلق حول قلة أعداد العائدين من إيران حيث يغادرها في اليوم بضع مئات مقابل 15000 شخص يوميا من الباكستان، ومع ازدياد تدفق عودة اللاجئون إلى ديارهم إلا أن المناطق الحدودية مثل بلدة شامان الواقعة قرب قندهار تشهد أيضا حركة معاكسة، حيث يقوم الآلاف من الباشتون بالفرار خوفا على حياتهم جراء البطش الذي يتعرضون له من قبل قوات التحالف وتجدد اندلاع أعمال العنف العرقية ضدهم، ويتوقع مسئولو الأممالمتحدة استمرارتدفق عودة اللاجئين لمدة ثلاث سنوات أو أكثر قبل أن يتمكن الخمسة أوالستة ملايين لاجىء أفغاني المتواجدون في الدول المجاورة من العودة إلى بلداهم، هذا ويكثر عدد الأفغان في باكستان وقد كان عددهم في بيشاور وحدها مساوياً لعدد الباكستانيين أنفسهم وفي إيران أيضا يوجد هناك الكثير من المهاجرين الأفغان من الأجيال الجديدة، حتى إن البعض منهم يرفض العودة بعد انه تزوج من عائلات باكستانية أو إيرانية واستقروا في أماكن وجودهم، والبعض الآخر قد فقد الحماس والرغبة في العودة إلى أفغانستان، ولا يزال أعداد الذين اختاروا الرحيل كبيرة وذلك في ظل الإشارات المتزايدة التي تشير إلى بقاء الوضع غير مستقر نسبيا في معظم أنحاء أفغانستان حيث يخشى الجميع من عودة انتشار الفوضى إذا أخفقت الحكومة الانتقالية الجديدة في كابول في كبح جماح جنرالات الحرب وقادة الفصائل المتناحرة الذين يسيطرون على البلد كما أنهم يخشون أيضا من أن تقوم حركة طالبان وتنظيم القاعدة بإعادة تجميع قواها من اجل شن حرب عصابات جديدة، ولكن يبدو أن جميع العائدين إلى ديارهم يتجاهلون كل هذه الأمور ويفضلون العودة إلى بلادهم، بالرغم من قيام المسؤولين التابعين للأمم المتحدة بالطلب منهم التوقيع على تعهد يقرون فيه أنهم يدخلون البلاد على مسؤوليتهم الخاصة وأن الأممالمتحدة غير مسئولة عن سلامتهم في حال تجدد اندلاع أعمال العنف العرقية. وتقوم المراكز الحدودية التابعة للأمم المتحدة فيما بعد بمنح العائدين مبلغا من المال يبلغ حوالي 20 دولاراً للشخص تشجيعا لهم على العودة، ويقول أحد الضباط الموجودين عند احد المراكز الحدودية معلقا على ذلك: «إن رسالتنا واضحة تماما وهي اذا أراد الناس العودة إلى ديارهم فانه يتوجب عليهم اتخاذ القرار بأنفسهم وتحمل مسؤولية تبعاته»، وعندما سألناه هل هو راض عما يقوم به؟ أجاب انه من الممكن أن ما يقومون به خطأ وأن الوضع غير آمن تماما ولكن الناس يقولون إنهم يعرفون بلدتهم أفضل منا، هذا وقد فاقت أعداد تدفق اللاجئين كل توقعات مسؤولي الأممالمتحدة وذلك بعدالإعلان عن برنامج العودة الخاص بتوطين اللاجئين الأفغان في بلادهم، فقد كان من المتوقع عودة 000.400 لاجىء من باكستان في الفترة الواقعة من مارس حتى ديسمبر، إلا انه تم الوصول إلى هذا الرقم في منتصف ابريل ويقوم المسوؤلون الآن بالاستعداد من اجل استقبال 000.800 عائد من باكستان وحوالي 000.400 من ايران، وعلى الرغم من أن البلدان الصناعية قد تعهدت بمنح أفغانستان مساعدات تصل إلى 5.4 بلايين دولار في شكل مساعدات تنموية إلا أن أعضاء الأممالمتحدة كانوا بطيئون في الاستجابة للنداء الذي وجه لمنح 271 مليون دولار من اجل تمويل برنامج عودة اللاجئين، وحتى هذا الرقم يبدو بعيدا جدا عن الحاجة الفعلية، فالدفعات النقدية وطرود المساعدات التي تتضمن 330 رطلاً من الحنطة لكل عائلة إضافة إلى أدوات إغاثة ومساعدات عينية تعتبر قليلة جدا، وقد صرح لوبير الذي يترأس وكالة اللاجئين في مؤتمر صحفي في إسلام آباد: ب «أن الموضوع مخيف نوعا ما، فبالرغم من أن الموضوع يسير على ما يرام إلا انه لا يزال علينا إن نتدبر امرنا يوما بيوم، وتجري عملية تزويداللاجئين بالإعانات ومساعدتهم على إعادة أعمار منازلهم وأوضاعهم وذلك تجنبا من انزلاقهم نحو التطرف السياسي والانضمام إلى الحركات المتطرفة، يقول السيد لوبير بأن العائدين يعتبرون ضحايا لدوائر العنف الأولى في السياسة الافغانية وسيكونون ضمن الأوائل لمقاومة الجهود لتحريك المشاكل الأخرى، ويخشى بعض المسؤولين من ان عودة اللاجئون ممكن أن تعطي إحساسا مبالغا فيه من حب الأفغان من اجل بدء حياة جديدة.ويوجد هناك دائما الآلاف من العائدين إلى أفغانستان في الربيع وذلك من اجل زراعة المحاصيل في قراهم أو هربا من حر الصيف في باكستان قبل العودة مرة ثانية إلى باكستان بعد الانتهاء من الحصاد، أما في هذه السنة فقد تم إغراؤهم بالمبالغ المالية النقدية التي دفعت لهم من قبل منظمات الإغاثة العالمية وبعض هؤلاء المهاجرين يمكن اعتبارهم عائدين دائمين، أما الآخرون فقد يكونون ضمن العائدين المزيفين الذين برعوا في جمع تلك الأموال التي تدفع من قبل المنظمات العالمية ثم يعودون بعدها إلى باكستان مرة ثانية، ولهذا فانه يتم رفضهم ويوجد حوالي 000.70 من العائدين تم رفضهم لغاية الآن عند مراكز التسجيل الحدودية ويتم اعتبارهم محتالين على القانون ولهذا تم اعتماد أسلوب التوقيع على وثيقة التعهد تلك. إن المسؤولين الباكستانيين تواقون جدا من اجل التعجيل في عملية إعادة الأفغان إلى بلادهم وتوطينهم فيها وقد اتخذوا الإجراءات اللازمة من اجل ضمان عدم عودة هؤلاء اللاجئين إلى باكستان مرة أخرى، ومن أكثر الإجراءات التأديبية التي تم فرضها كانت في مخيم ناصر باغ في بيشاور حيث أمضى السيد عمير وعائلته حوالي خمسة عشر عاما من الكد والعناء، وهناك لحظات قاسية في رحلة العودة حيث إن القيادة عبر طرق وعرة وتمر عبر ممر خيبر حيث يتم حشر اللاجئين في مساحة ضيقة من الأرض تضم جميع اللاجئين حيث يوجد أيضا عدد من المباني المهدمة والهياكل الصدئة للدبابات الروسية إضافة إلى أعلام جنرالات الحرب المتنازعين و جموع غفيرة من النساء والأطفال الذين يستجدون الناس، وعلى متن الشاحنة التي أقلت السيد عمير وعائلته كان هناك ثلاثة أشخاص آخرون يرغبون في العودة الى بلادهم، كل واحد منهم يحمل ماضيا حزيناً اومؤلما من الفقروالمعاناة ولدى السيد عمير خمسة أبناء أنجبهم في الغربة إضافة إلى أحفاده السبعة جميعا الذين لا يعرفون بلادهم وهذه هي المرة الأولى التي تطأ فيها أرجلهم تراب الوطن. وقد بدأت ملامح التعب والقلق وعدم الارتياح بالزوال مع اقتراب نهاية الرحلة الطويلة الشاقة حيث قال السيد شمشور رحمان أحد أقرباء عمير مخاطبا طفله الرضيع: «انظر يا بني هذه بلدتك وهذا تراب وطنك»، وقد أمضى عمير وعائلته ليلتهم الأولى في منزل أخيه الأكبر صالح البالغ من العمر سبعين عاما والذي يعمل مزارعا وكان قد قدم من باكستان قبل حوالي خمسة أعوام. إن المجمع العائلي الذي سيسكنه عمير يضم عدة بيوت داخل جدران عالية كان قد تم قصفه من قبل الطائرات السوفيتية عندما تم استخدام القرية كقاعدة من قبل المقاتلين في الثمانينات حيث اضطر ثلاثة أرباع سكان القرية البالغ عددهم 000. 20 شخص إلى الهروب. * خدمة الجزيرة الصحفية * النيويورك تايمز.