القى د. محمد فاروق النبهان ورقته أمس ضمن جلسات ندوة «الاسلام وحوار الحضارات» بعنوان:«التصور الاسلامي لمنهجية الحوار الحضاري» قال فيها: إذا كان الحوار الحضاري هو الوسيلة السليمة للتقارب بين الديانات والثقافات لمنع التشابك والتصادم فإن هذا الحوار يجب ان يعتمد في أسسه ومنطلقاته على القيم الحضارية الراسخة، لإيجاد القواسم المشتركة التي تساعد على نجاح الحوار، وبخاصة في معالجة القضايا الانسانية التي تهدد التعايش بين الشعوب. والقيم هي المنطلق الأهم لركائز الحوار الحضاري، وبخاصة في ظل الحاجة الى ثوابت راسخة في السلوكيات والميول الانسانية، فالقيم ثابتة وغايات نهائية مرغوبة، وهي بهذه الصفة توجه السلوك الانساني، وتحقق التوازن بين الانسان وذاته والانسان والآخر، وتختلف القيم عن الاتجاهات والميول المرتبطة بالمصالح الآنية، فالحوار الذي توجهه الميول الشخصية والمصالح المادية سرعان ما يصل الى الطريق المسدود، لأن المصالح تتصادم على الدوام، أما القيم فهي ذات بعد انساني ولا تبرز المصالح فيها بطريقة مباشرة، وهي تحكم قبضتها على السلوك وتحقق ذلك الانسجام بين الانسان والآخر بحكم ارتباطها بالمواقف ذات البعد الأخلاقي والانساني، والقيم في حال صفائها ونقائها تعبر عن الوجدان الداخلي غير الملوث بالميول الشخصية، ومن هذا المنطلق تصبح القيم ضرورة لنجاح أي حوار حضاري، لأنها توفر الأرضية المريحة لحوار هادف بناء. وعندما تبرز أزمة القيم وتتفاعل توجد خللا واضحا في العلاقات الانسانية، ويهتز الواقع الاجتماعي بتأثير التدافع الغريزي الذي تحكمه «الأنا» وتوجهه النزعات الفردية، ويبحث الفرد عن ذاتيته المطلقة، وينظر للأمور من معايير ضيقة، وتتكاثر الأزمات المعبرة عن الخلل في العلاقات الانسانية، على مستوى السلوك اليومي في اطار الأسرة الواحدة والمجتمع الواحد أو على مستوى العلاقات بين الشعوب والدول، وتقف القوانين والأنظمة عاجزة عن ايجاد القواسم المشتركة للتعاون، فيصبح الحوار صراخا وصداما للتعبير عن حالة الاختناق والاحباط، وتبرز تيارات التطرف التي تقود الى العنف السلوكي. وهذه الظاهرة تعبر عن أزمة في القيم وغفوة في الوجدان الداخلي، ومدافعات غير محمودة غايتها التغلب والسيطرة والهيمنة، ومن اليسير ان ندرك اليوم ملامح هذه الأزمة في السلوك العام، وفي جميع أشكال العلاقات الانسانية سواء في علاقة الرجل بالمرأة أو في علاقة الفرد بالسلطة أو في علاقة الانسان بالآخر. والقيم مصدرها الأهم هو الدين الذي ينمي الفطرة السليمة وينقيها ويدعو الى صفاء القلوب لكي ترضخ للحق، وتلتزم بسلوكية الفضيلة في سلوكها العام، والسبب المباشر لتأثير الدين في تكوين القيم رسوخ العقيدة الدينية المؤثرة في النفس الانسانية، وتغذيتها الدائمة المستمرة للقيم السلوكية. والحوار الحضاري لا يمكن ان يؤتي أكله إلا في ظل رسوخ القيم الانسانية التي تبحث عن الهدى ورفض الضلال، وتدعو الى التزام العمل الصالح كهدف وغاية في كل دعوة للتلاقي والحوار. وهذا ما دفع الإمام الغزالي لكي يصف المناظر والمحاور كناشد ضالة لا يعرف بين ان تظهر الضالة على يده أو على يد الآخر، وهذا شرط ضروري لنجاح الحوار، فالالتزام بالقيم الحضارية التي تدعو الى احترام الحق هو المنهج الاسلامي في الحوار. والفرق بين القيم المستمدة من الدين والقيم المستمدة من العقل المجرد ان العقل يستمد تصوره من عاملين أولهما الغريزة، والعقل الغريزي هو المؤثر المباشر في صياغة الرؤية العقلية، وتجعل القيم المستمدة من العقل محكومة بالمصالح المتصادمة والمعبرة عن حاجات شخصية، بخلاف القيم المستمدة من الدين بمفهومه الشامل فهي قيم ثابتة وراسخة وتبرز فيها الملامح الانسانية التي تؤمن بالحق وتدعو الى الفضيلة وتحترم الكرامة الانسانية وتغذي الدعوة الى التعايش والسلام في ظل احترام الجميع مبادىء العدل والحق. والقيم الحضارية يجب ان تتجه الى الأفضل والأسمى انسانيا، والاسلام ينمي هذا التوجه ويغذيه الى ان يصبح المنهج المختار والمرجح لمسيرة القيم من الأنانية الى الغيرية، ومن النظرة الضيقة الى سعة الأفق الانساني بامتداده العريض وظهور ملامح الاشراق فيه، بحيث تصبح الكرامة الانسانية هي الغاية والهدف، والكرامة لا تتحقق إلا في ظل الاعتراف بكل حقوق الانسان في الحرية والكفاية والمساواة في نظر القانون، وتكوين معايير أخلاقية للتفاضل والتمييز تقوم على أساس العمل الصالح والالتزام بالحق والعدل. والأسرة هي الحقل الأول الذي تبرز فيه القيم الحضارية وتنمو فيها المعايير الانسانية، فإذا صلحت الأسرة والتزمت بهذه المعايير كانت النواة الأولى لتكوين المجتمع الصالح. من المؤسف ان الدعوة الى الحوار بين الحضارات جاءت في ظل أزمة داخلية في المجتمعات الاسلامية تتمثل في حالة البحث عن الهوية، وهذه أزمة حقيقية أدت اليها عوامل تاريخية موروثة وواقع حضاري معاصر، ومعايشة لمعاناة قاسية تمثلت في موقف الغرب بشكل عام من قضايانا المشروعة، وأهمها ما يتعلق بهويتنا الثقافية والحضارية والدينية بالاضافة الى فترة الاستعمار التي تمثلت في سياسات استفزازية ومواجهات دامية وسلب منظم لثرواتنا الوطنية، وتجاهل لمطامحنا القومية المشروعة. إننا مع التواصل الانساني مع الحضارات والثقافات والأديان ولكن يجب ان نهيىء الظروف النفسية لهذا التواصل، على مستوى الشعوب وليس على مستوى المتحاورين في المجالس المغلقة.