لن نطاول الجبال ولن نزدري الجمال

دوائر العقل .. إبراهيم التركي

يرتكز إبراهيم التركي في أطروحاته على أمثلةٍ من التاريخ، دون الحاجة إلى الاستشهاد بما يروّج البعض من محاولة لاستنساخ تجارب غربية قد لا تراعي طبيعة المنطقة، وذلك يعني تمكّنه من قراءة التاريخ «بأسوده وأبيضه ومناطقه الرمادية»، دون أن يعني تصنيماً لرموزه أو تقزيماً لها، بل قراءتها بحجمها الطبيعي وأبعادها الطبيعية، كما أنه لا يرى مبرراً لمن يتخذ التاريخ حجة لتحجيرنا وتحويلنا إلى مجرد بيادق على رقعة الشطرنج، نقف طويلاً في مواقعنا دون إحراز تقدم، وبالتالي تغدو الدعوات إلى نبذ كل شيء والتمسك بالتاريخ والتراث والماضي ضرباً من العبث، فالحلول التي يقدمها ذاك الزمان تناسبه ولا تناسبنا لتغير الزمان أولاً وطبيعة المشاكل ثانياً، ما يمكننا الاستفادة منه هو المنهجية التي عُولجت بها تلك المشاكل دون الحلول. وقد كان لنا هذا الحوار الإلكتروني معه.
الأب المفقود
* قيل لجورج طرابيشي في أحد حواراته: «تتحدث في كتاباتك عن التراث بصفته الأب، هل تعتقد أن المثقف العربي اهتدى إلى أبيه المفقود؟».. يبدو أن التراث يشغل المثقفين بطريقتين: منهم من يتمسك فيه حد الانفصال عن الواقع جاعلاً منه الدواء الشافي لكل داء، ومنهم من يرى فيه عائقاً ومعضلة لا بد أن نتخلص منها كي نتقدم، أنت كيف تقف من التراث وهل هو حقاً أب مفقود؟
* من يغلو في التراث يرفعه للمقدس، ومن يهبط به يدنيه من المدنس، وبين الغالين والقالين مسافة تحتمل تحييده عن ثوابت الدين، كي لا يصبح مزارًا عاطفيًا نسفح فيه الدموع على الغائب والمغيب، كما لا تراه ذرائعيةً جديدة يفترض سدها خوفًا من تكهفنا في مسارات حجريةٍ أو متحجرة، ولعل معضلة التراث سواء من الملتجئين به أو المستعيذين منه أنهم لم يروه بحجمه وأبعاده فلن نطاول به الجبال كما لن نزدري بعده الجمال.
النخب لم تسقط
* يرفض الجيل هذه الأيام الأبوية أو الوصاية أو السلطوية بكافة أشكالها، فهل يكون ذلك شكلاً من أشكال سقوط النخبة؟.. أو أن النخبة سقطت لأنها لم تؤد ما كان يُفترض منها؟.. وهل يمكن لها أن تستعيد موقعها؟
* النخب لم تسقط بمجملها لكن بعضًا منها توارى وبعضًا يتفرج، ومن بقي فقد استمرأ الدور الذي وجد فيه نفسه في وسطٍ شبابي لاهث يستعيد به أو معه لياقته الذهنية إن لم تسعفه لياقته البدنية، والحكم الآن متعجل فالصورة لم تكتمل والتأريخ لم يكتب، وفيما نراه بقايا قد تأذن بظهور مجتمع ثقافي جديد يرفض صومعة الإنتلجنسيا كما العادية العامية والتبعية القطيعية، وفي نظري سيكسب الجولةَ من أبقوا على نافذة زجاجية شفافة تصلهم ولا تفصلهم.
البحث عن الزمن الضائع
* الجيل الذي عايشته كان جيلاً منفتحاً بالتزام، ملتزماً بانفتاح كما وصفته وكانت ساحته خاليةً من النزاعات الحادة وإن لم تخلُ من الاختلافات الحادة أيضاً، وهي بذلك تشبه فترة من تأريخنا العربي حين كان الاختلاف فعلاً لا يفسد للود قضية.. كيف نستعيد «هذا الزمن الجميل» لنتحرر من صراعاتنا الفكرية؟
* لن نستعيده فما مضى قضى بما له وما عليه، ولو عاد فلن يحمل ملامحه التي رأيناها جميلة ومن سيجيء بعدنا سيرى هذا الزمن جميلًا ويحن إلى ما نفر منه، والقضية متصلة بخيرية الأزمنة المتضائلة مع الوقت كما أن معادلي « التربة والتربية» كفيلان بتعديل بعض المسارات المنحرفة بزوايا حادة وبخاصة ما يتصل بالحوار الذي نتمناه هادئًا هانئًا كما نزعم أنا كنا نعيشه أو نعايشه.
* في كتابك «وفق التوقيت العربي» تصف مرحلة [التسامح] إن صح التعبير وتتساءل: «هل كنا (وآباؤنا وأجدادنا) على خطأٍ طيلة الفترة السابقة؟.. وهل يأخذ التحول الذي نعيشه طابع الديمومة؟ أو أنه تحول طارئ - مؤقت - أملتْه متغيراتٌ داخلية وخارجية لأسباب سياسية واجتماعية مستجدة؟».. هل يمكن لنا وفق ما تراه في ساحتنا العربية.. هل يمكن لنا أن نعود إلى هذه الفترة؟
* ربما تحمل إجابة السؤال الماضي ملمحًا حول نظرية المتغيرات التي طرأت على جيلنا الفتي بعد اجتماع حركتي الخميني الشيعية وجهيمان السلفية، فصار ما بعد عام 1980 م مختلفًا جذريًا عما قبلها ولم نعد نعرف وجوهَنا الطيبة المتسامحة التي رصدت جوانب منها في كتابي: «وفق التوقيت العربي: سيرة جيل لم يأتلف»، ويبقى لكل زمن براءته ولكل قوم براعتهم.
الهوامش والمتون في التربية
* قال الفيلسوف الفرنسي ليبنتز لأميرٍ ما معناه: سلّمني قياد التربية جيلاً واحداً من الزمان أغيّر لك وجه الحياة»، وفي حين أن هذه المقولة صدقت في اليابان وماليزيا مثلاً إلا أنها تبدو مستحيلة في بلداننا، كيف يمكن للتربية أن تؤسس لفكر جديد أو على الأقل متصالح مع ذاته والآخرين؟
* التربية لغة وليست لغوًا ولو تواضعنا على تحكيمها في مفاصل حياة الطفل والصبي والعالم والمتعلم فنفذت نظرياتها المعرفية داخل مؤسساتنا ومدارسنا وتكويننا البيئي والمجتمعي التجريبي والإنساني لربما تغيرت أشكال الأشياء والأشخاص حولنا، ومجمل المشكلة تحول التربية إلى اجتهادات وأدلجات تمنح مواسم التفوق لمن تشاء كما تشاء ثم نكتشف أن الهزيع الأخير من الليل لا يزال يمنع الضوء حتى من نهاية النفق.
* استطاع النظام التعليمي في منتصف القرن الماضي أن يحدث إلى جانب محاولة القضاء على الأمية فعلاً تنويرياً أسهم إلى حدٍ بعيد في تشكيل نخبة أو طبقةٍ مثقفة «شمولية» يمكن الاتكاء عليها في تأسيس مشروعٍ ثقافي أصيل، لماذا نفتقد مثل هذا النظام ومثل هذه النخب اليوم؟
* انحسر التعليمُ الجاد مع مستجدات الترف ووسائط التقنية والاكتفاء بالهوامش عن المتون وصار الباحث الحقيقي الذي يتعب ذاته في التأسيس والمثابرة والمواصلة والانقطاع لوجه الدرس والطِّرس عملةً نادرة، والمبرر فيما أراه خاضعٌ لنظرية توينبي «التحدي والاستجابة»؛ ففي الزمن التنويري مثَّلَ التعليمُ تحديًا فاستجابت له العقول السامية ثم صار ترفًا يسوم جانبًا بارزًا منه مفلسون فغاب التحدي وانحسرت من ثم الاستجابة.
مأزق الشعر
* كان الشعر العربي في أواخر الحكم العثماني والاستعمار الغربي للدول العربية محفزاً على إشعال الثورات واستنهاض همم الشعب المستكين للثورة على المحتل، وكان في عهودٍ أسبق وسيلةً يعبر فيها الشاعر عن ميله نحو حزبٍ دون آخر كما في العهد الأموي مثلاً، لماذا انحسر دور الشعر ولم يعد عاملاً مؤثراً في ثورات الربيع العربي؟
* أظن أن انحسارَ الشعر مرتبطٌ بتدنّي المستوى الإبداعي فالشاعر النابهُ نادرٌ والشعر الجميل ناءٍ والساحة في معظمها للنظَّامين، وهو ما جعل محبي الشعر ينصرفون عن رديئه ولا يجدون جيده، وفقدان أعلامه في السنوات الأخيرة مبررٌ آخر، عدا اللهاث العابر خلف ملهيات الحياة وملهبات الأحياء، وحين يولد الشاعر المتميز سيعود بعض جمهور الشعر، وفي البعض غناءٌ عن كثير.
«النكرات» و»المعارف»
* بالعودة إلى موضوع الثقافة «شغلنا الشاغل» كيف أسهمت المتغيرات الثقافية في أن يردّد المثقف رأي الجمهور؟.. وكيف ترى وقوع أغلب المثقفين في هذا المزلق وبيع أصواتهم مقابل حشد التأييد؟ هل ترى التأييد حقيقياً أم أن حقيقته التلاشي؟
* لو كان التحشيدُ مقياسًا ثقافيًا أو لو كان الرقمُ علامةَ تميز لاصطّفت رؤوس القادرين والعاثرين في مسارٍ واحد؛ فالإعلام الرقمي جعل بعض النكرات معارف والمنكرات مشارف وتبادل العلوُّ والسقوط أماكنهَما، لا شك أن ثمة من يستحق التحشيدَ والتأييد وفي مقابلهم من واقعهم الترديد وحقهم التنديد، وفي إشارة قرآنية لطيفةٍ أشار إليها بعض المفسرين فإن جملة (أكثر الناس) ملازمة لمن (لا يعلمون - لا يؤمنون - لا يشكرون - لا يعقلون...) بينما القلة تجيء في مقام الإيجاب (وقليلٌ ما هم - وما آمن معه إلا قليل - وقليلٌ من عبادي الشكور)
* يذكر د. إحسان عباس في سيرته «غربة الراعي» أن الثقافة العربية لا توصل الدارس إلى العلوم الحديثة ولهذا يظل صاحبها بعيداً من زاوية علمية عن الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والأنثروبولوجية، بل والألسنية الحديثة وعن المدارس الفلسفية الحديثة»، إلى أي مدى تتفق أو تختلف مع د. عباس؟
* لم يعدُ حقًا ولو عاش أستاذنا مزيدَ وقتٍ وتداخَل في وسائط الإعلامِ الرقمي وشاهد الأسماء الكبيرة ممن يسّمون مثقفين وأكاديميين وهي تخطئُ في أبجديات اللغة والمنهج والمنطق لتنازل كثيرًا عما اشترطه واكتفى بمحو أميتهم فزمنُ الكبارِ لا يستعيده خبط وخلط الصغار، ويبقى أن لدينا شبابًا وكهولًا خارج هذه المعادلة لكنهم محبطون مما يرون وهو ما يجعلهم يتوارون.
* يلاحظ «كي لا أدخل في شرك التعميم» أنّ بعض المثقفين أو من ُيفترض بهم ذلك يبخسون حق المتلقي في مدى قدرته على الفهم كذاك المسؤول الذي عارض طرح برنامج قناديل لأنه أعلى من مستوى المتلقي - كما ذكرت في ندوة «الكتابة بين اقتناع الذات ورؤية الآخر» - أو ما نراه في بعض الكتب من حواشٍ تشرح أموراً بدهيةٍ للغاية، أليس في ذلك نوعٌ من استغباء القارئ واستعلاء المثقف؟
* حقيقةٌ كشف عوارَها سقوطُ النخب وبروز العامة وما تبعها من انحسار المسافات بينهما حتى صار قاسمَهما المشتركَ الطرحُ العاديُّ السريع فتوارى من يُظن به العلمُ ليقينه ألا جمهور يتابعه ولا مبرر لوقتٍ يزجيه، وتبقى المنتديات الخاصة والروابط المحدودة مع من نثق بمعارفهم وسيطنا لاستنهاض بيئات ثقافيةٍ شبابيةٍ قد تكون الملجأ من القفر والمنجى من الفقر.
لا رقيب إلا الضمير
* تحدّثت مرةً عن مسألة الرقيب والرقابة في الكتابة، لكن يخطر لي أن الأمورَ غائمةٌ في مسألة الرقيب الداخلي فقد يكون قد زُرع بفعل الرقيب الخارجي «أعني الذي من خارج الذات» بمعنى ما يمارسه المجتمع منذ أجيال، وقد يصبح الرقيب الداخلي نسخة طبق الأصل عن الخارجي فكيف تكون أناي حقيقية؟.. كيف وهذه هي الحال أميز بين حريتي في الكتابة عن تلك التي يفرضها المجتمع؟.. بمعنى آخر كيف أميز أن هذا رقيبي فعلاً وليس صورةً مصغرةً داخلي عن الآخر «الرقيب»؟
* أمّا في الكتابةِ المجردِة فالتمييزُ يسير فلا رقيبَ خارجيًا غير ضميرك ومهنيتك وصدقك مع الله وذاتك، وحين نحكي عن النشر فإنهما يختلطان ولا يخلطان، والمؤمن بأهدافه قادرٌ على التجاوز بالصمت غالبًا والالتفاف والالتفات نادرًا، ومراقبةُ الله وحدَه كفيلةٌ بحلّ التداخل عند من لا تعنيهم إيماءات الأصابع ومدرّجات المنابر وأضواءُ النجومية المؤقتة فما عند الله خير وأبقى، والظل قد يكون أجمل.
مآزق الثقافة
* السؤال الأكثر إلحاحاً وتكراراً ربما، ما هي برأيك أبرز «المعضلات» التي يعاني منها المشهد الثقافي العربي بشكلٍ عام، ثم المشهد السعودي على وجه التخصيص؟
* سؤالٌ يحتاج إلى كتاب؛ فهل أحيلك إلى كتابي (فواصل في مآزق الثقافة العربية)؟.. لا أظنكِ أ. بثينة تريدين هذا؛ فلعلي ألخّص أدواءها أو معضلاتها في التبعيّة القطيعيّة والتسطيح النخبويّ والضمائر الغائبة والادعاءات التكاذبية والتصديق لمن لا يصدُق والتصفيق لمن لا يستحق.. ولو واصلتُ فلن أقف فعسى الله أن يرحمَ الأجيال الجديدة ويعوّضها خيراً.