للمرة الأولى في موسم الحج تاكسي جوي    مجموعة السبع: اتفاق لدعم أوكرانيا بأصول روسية مجمدة    القصبي يشارك في احتفال (UNCTAD) بالذكرى ال 60 لتأسيسها    «الأخضر» في مواجهة أستراليا وفلسطين وأفغانستان وماكاو    بنك البلاد يطلق مبادرة "هدية الحاج " لخدمة ضيوف الرحمن    دون اتفاق على إنهاء القتال.. لا يوم تالياً للحرب    الاجتماع التشاوري بشأن السودان يؤكد دعمه ل"منبر جدة" باعتباره مفتاحًا لحل الأزمة السودانية    أرامكو توقع اتفاقية مبدئية لشراء الغاز من منشأة أمريكية    إلزام 10 مستثمرين ومستثمرة بدفع 101.7 مليون ريال وسجن أحدهم    اسطول متنقل للحجاج المرضى    رئيس هيئة الأركان العامة يتفقد وحدات القوات المسلحة وقطاعات وزارة الدفاع المشاركة في مهمة الحج    تتويج الاتحاد بدوري الدرجة الأولى لكرة قدم الصالات    المملكة ترحب بالمستثمرين الدوليين بقطاع السياحة    "الداخلية" تصدر قرارات إدارية بحق (26) مخالفًا لأنظمة وتعليمات الحج لنقلهم (124) مخالفًا    إيقاف 12 محطة وقود وإغلاق نصف مضخات 185 أخرى    الصحة للحجاج: حرارة الجبال بالمشاعر المقدسة تصل إلى 72 درجة    صحفيو مكة يشيدون بمضامين ملتقى إعلام الحج    النفط يتراجع بعد الزيادة المفاجئة في المخزونات الأمريكية ووفرة إمدادات الخام    الربيعة يستعرض جهود مركز الملك سلمان للإغاثة في قطاع غزة    المملكة تستعد للمشاركة بمعرض سيئول الدولي للكتاب 2024    البسامي يتفقد جاهزية قوات أمن الحج    «حفل بذكرى زفاف أقصر زوجين    الأرصاد: لا يستبعد تكون السحب الرعدية الممطرة المصحوبة برياح نشطة على الرياض والشرقية    اعتماد مهبطي الطائرات العمودية في أبراج الساعة للإسعافات الجوية    وزير الحرس الوطني يطّلع على استعدادات القوات المشاركة بموسم الحج    تقرير: 4.5% وزن الأسهم السعودية في MSCI    كيف أُحبِطُ مَنْ حولي ؟    الذات والآخر    «قوات أمن الحج»: تسخير تقنيات الذكاء الاصطناعي حفاظاً على سلامة الحجاج    مهمة سهلة للكبار في دور ال 32    «المهدرجة».. الطريق إلى أزمات القلب وسكتات الدماغ    فاطمة تنال الماجستير من جامعة المؤسس    مدير مدرسة هشام بن حكيم يكرم الكشافين المتميزين    آل الفرحان يحتفلون بزفاف 3 عرسان في ليلة واحدة    سطوة ريال مدريد    أشعة الرنين المغناطيسي تكشف تعرّض "العويس" للإصابة في العضلة الخلفية للفخذ    مركز الملك سلمان يواصل مساعداته.. وصول الطائرة السعودية ال 53 لإغاثة الشعب الفلسطيني    ولي العهد يعزي ولي عهد الكويت في ضحايا حريق المنقف    25 فعالية لمركز "إثراء" في عيد الأضحى    دورة تأهيلية لجامعي البيانات لموسم حج 1445ه    منتجات فريدة للإبل    العقيد الطلحي يتفقد مركز(911)    خدمات متكاملة لراحة ضيوف الرحمن    الأمين العام للأمم المتحدة: مستوى الدمار في غزة وأعداد الضحايا لم يسبق لها مثيل    القيادة تهنئ رئيسي روسيا والفلبين    فريق طبي ينجح في إزالة ورم من رحم مواطنة في مستشفى الولادة والأطفال بالدمام    كشفته دراسة عالمية شملت 356 مشاركًا.. إدمان «ألعاب الفيديو» يؤثر على جودة النوم    الهلال يفتقد البليهي في السوبر السعودي    المملكة تعزي في ضحايا حريق «المنقف» في الكويت    لا حج بلا تصريح    تجمع الشرقية الصحي يشارك في مبادرة "خدمتكم شرف "    دموع رونالدو والنصر    «البريكس» بديل عن نادي باريس !    «إش ذي الهيافة»    الطواف صلاة ولكن !    تحريف الحج عن مقاصده التعبّدية !    الرئيس الأوكراني يصل جدة وفي استقباله نائب أمير مكة    مركز 911 تلقى أكثر من مليون مكالمة في الحج الفائت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ربعي المدهون في رحلة البحث عن الهوية
نشر في الحياة يوم 22 - 01 - 2010

يُشيّد ربعي المدهون في روايته «السيدة من تل أبيب» (المؤسسة العربية للدراسات 2009)، معماراً من السرد غير المألوف، يتجاوز ما درجت عليه الأعمال الروائية الفلسطينية السابقة، وما اعتادت على إفرازه الخطابات الأدبية. وفي وسع متتبع الأدب الفلسطيني والعربي المعاصرين، أن يلحظ من رواية المدهون، سرداً متدفقاً ينقلنا إلى صلب التخيل الروائي، وتفكيكاً لزمن مستمر يضرب في أغوار الواقع ومكره.
في العادة نقول: قرأت كتاباً، من دون أن تقودنا تلك القراءة إلى الانسلاخ عن العقائد والأعراف والأنظمة الفكرية وما يسيطر عليها من تقليد سائد. لكننا أثناء قراءتنا ل «السيدة من تل أبيب»، نجد أنفسنا متورطين مباشرة ومتفاعلين مع ما تفتحه لنا أبواب السرد ودلالاته، من حوار متداخل وتجربة مستقلة للقراءة والتلقي. على القارئ أن يستعد للاستسلام الى متعة القراءة التي تنتظره، والرحيل في المجهول بعيداً من سلطة الكلام، قريباً من حرية المشاركة والتساؤل المستمرين.
تبدأ رواية المدهون من حكاية تتتبع مسار شخصية كاتب فلسطيني يدعى وليد دهمان يحمل الجنسية البريطانية، نتعرف اليه في لحظة يستعد فيها لولوج مرحلة تنطوي على دلالة كبرى، ولغد يعود فيه الى غزة لتناول وجبة إفطار مع أم تنتظره منذ ثمانية وثلاثين عاماً. تولّد حكاية وليد دهمان حكايات أخرى وشخصيات أخرى، يتوارى خلفها الراوي، تقتحم سياق السرد بنفسها. وتتجلى طقوس الكلام في حركية ذاتية شيقة، تنساب بين المسالك الخفية للأحداث وسحر القراءة ومتعتها. هو: وليد دهمان. هي: دانا أهوفا. كاتب فلسطيني مغترب، وممثلة إسرائيلية تحمل في اسمها «أهوفا» (بالعبرية المحبوبة)، قدراً من معاني الهوى المضمر والمفضوح: علاقة حب قديمة بينها وبين ابن زعيم عربي، لا تزال تستولي عليها. علاقة ملتبسة لا يُعرف لها سر. وليد دهمان ودانا أهوفا، يلتقيان في طائرة أقلعت من لندن باتجاه تل أبيب. كلاهما يراقب من حوله، ما يمكن وما لا يمكن الخوض فيه. بين السماء والأرض، تُشدّ أحزمة الطائرة ولا تُشدّ أحزمة المآسي المضمرة: فلسطين، إسرائيل، التاريخ، الجغرافيا، الوجود، الشرعية، الاحتلال، المعاناة، الحقيقة، الخيال، الأرض، الظلال، العودة، الشتات، الحب الجارف، الكراهية المطلقة، التاريخ الشخصي، التاريخ العام، السلاح الجبار، القيم الأخلاقية، العسكر، المليشيات، الأنا، الآخر، أحزان الموت، بهجة الحياة.
هو: «أتفحص بعينيّ الركاب واحداً تلو الآخر. يقلقني سؤال من سيحتل المقعد المجاور لي لصق الشباك؟». أبحث بين وجوه تتقلب أمامي مثل صفحات كتاب خُطّت بلغات مختلفة، عن جاري المحتمل. جاري الذي سيكون، في معظم الأحوال، يهودياً».
هي: «تهزني المفاجأة، وتسري في جسدي كله رعشة غريبة باردة. أنا التي تقف أمام الكاميرا تتعرى بمرح صبية تكتشف جسدها على عتبة البلوغ، يرعشني الجلوس الى جوار رجل بعض ما فيه يشبه نور الدين».
هو: «أنا الذات التي تقلق وجودها، وهي الوجود الذي يقلق ذاتي. لسنا بعضنا لكي نهدئ بعضنا. بل نحنُ نحنان، «نحنٌ» تحتل «نحناً»، وهي من نحنُ (هم) لا من نحنِ (نا)».
هي: «هل يكون جاري فلسطينياً من إسرائيل؟ لماذا لم يحدثني بالعبرية التي يتحدثون بها مثلنا إذاً؟ هل يكون من المناطق؟ لا، لا، ... هؤلاء لا يمرون، بحسب علمي، عبر مطار تل أفيف... من هو جاري إذاً؟».
هو: «يفاجئني السؤال الذي شغلني منذ لحظة جلوسي في مقعدي حتى لحظة جلوسها، وسحبني من مشاهد الحرب الى حافة الإجابة: (من أين أنت؟)».
هي: «هذه هي المرة الأولى التي ألتقي فيها فلسطينياً، وأتحدث إليه عن قرب. سيفتح أمامي ملفه الشخصي ويسمح لي بالاطلاع على ما أجهله. أشعر بارتياح لهذا الرجل الذي بدأ يصالحني مع نفسي، وقد يصالحني مع ماضي، وربما مع حاضري الذي صار هو نفسه جزءاً منه، حتى اللحظة على الأقل».
ضمن هذا وغيره مما يقوم عليه بناء رواية المدهون، يكتشف القارئ وحده، ما لا تقوى الشخصيات على البوح به بعضها بعض.
ما هي حكاية وليد دهمان؟ وما الذي يطمح إليه في روايته الجديدة «أرض الظلال»، التي تحكي قصة مغترب آخر يعمل محاسباً في ألمانيا، قبل أن يرحل عنها إلى قطاع غزة؟ إنه عادل البشيتي. نموذج لفلسطيني منفي، يدرك بعد قضاء فترة طويلة في ألمانيا، تجنس فيها وتزوج وطلق أيضاً، أن لا مقام له فيها، وأن لا مناص من الرحيل والعودة الى غزة. كأنما تعثرت هويته، بعد أن دوخه المنفى، إذ لم يعد أمامه وخلفه إلا صورة فتاة غزاوية أحبها قبل 38 سنة، وقد أصر اليوم، على رغم تقادم العهد، أن لا تستقر له نفس إلا بالبحث عنها.
في غزة يلتقي الكاتب دهمان بعادل البشيتي، بطل الرواية التي تتجلى أحداثها في مختلف أشكال السرد، والتي يضفي عليها الحوار بالمحكية الفلسطينية، بعداً جوهرياً يشدها بقوة إلى الواقع. واقع تفلح فيه شخصية الكاتب، في قيادة شخصية البطل الى حبه الأول القديم. وسرعان ما تنقلب لعبة السرد، وتبدو رواية المدهون وكأنها تكتب نفسها بنفسها. تنكتب أمام أعيننا من دون سلطة تمارس علينا، لأننا قد نشارك فيها لحسابنا الخاص.
بعد عودة الكاتب الى لندن، وربما قبل ذلك بقليل، تأخذ الرواية منحى بوليسياً محبوكاً بطريقة فطنة، تضفي على الرواية حيوية مذهلة. فهي تجعل مشروع المدهون الأدبي، يقتاد لعبة السرد برؤية جديدة، تعيد النظر في تقييم الواقع، بتقييم الأساليب المعبرة عنه. يطرح تمازج الأجناس الأدبية تساؤلاً ذكياً عن حدودها التي تداخلت في ما بينها، في ازدواجية تكاد تكون ازدواجية الواقع الراهن نفسه. وهي إشكالية نقدية طمح الباحثون في العقود الراهنة إلى التعبير عنها. نذكر، في فرنسا على سبيل المثال، محاولة الباحثة جوليا كريستيفا التي كشفتها في دراسة أدبية أخيرة لها.
رواية ربعي المدهون «السيدة من تل أبيب»، إضافة إلى تفردها الإبداعي، تجعلنا نطل عبر مهارة خالية من التأليف، بعيدة عن البهرج والزخرفة، على تردي واقع المجتمع الفلسطيني ومأسويته. في مغامرة البحث عن ماهية الهوية وماهية مكوناتها الحكائية. نكتشف فعل قول المدهون وكأننا في مختبر رهيب، نسائل أنفسنا عراة مجردين من كل حجاب ميثولوجي. الأبطال، الزعماء، الإسرائيلي، الفلسطيني، الشيوخ، الطفولة، الأم، المنفى، تسقط كل الرموز أمام القارئ ويظهر البشر بطباعهم الإنسانية فقط.
تذكرني طريقة المدهون في تلمس الواقع والتعبير عنه، بما شكله في عهد بعيد، الرسام الألماني هانس هولباين الصغير، في لوحته التي تستحضر المسيح في قبره مجرداً من الميثولوجيا، قابعاً في شكل رهيب في طبيعته البشرية. «السيدة من تل أبيب»، فضاء جديد في عالم السرد، وتجربة فريدة على طريق البحث الدؤوب عن فهم للذات الفلسطينية والعالم. فليستعد القارئ، من دون نيات مسبقة، لأن يشتعل بحرية قد تتمزق فيها قوالب المعاني السائدة.
* أكاديمي مغربي، مقيم في فرنسا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.