لم يذهب «أبو موسى» - وهو العقيد سعيد موسى الضابط «الأردني» السابق ومخلف جيش المملكة الأردنية الهاشمية وراءه غداة ايلول (سبتمبر) 1970، وصاحب حركة منشقة عن «فتح» ياسر عرفات في اثناء الاستقرار الفلسطيني في «حكم» لبنان أعلن عنها غداة رحيل المنظمة، وقائد بعض الهجمات الدامية على بلدات لبنانية مسيحية في عصر «المقاومة» اللبناني الذهبي، ورأس «فتح الانتفاضة» التي ولدت في اقل من أسبوع «فتح الإسلام» في مخيم نهر البارد الشمالي – أبو موسى هذا لم يذهب مذاهب شتى في بيانه «المقاوم» بصيدا، في 18 كانون الثاني (يناير). فهو قال من غير لبس: السلاح الفلسطيني خارج مخيمات اللاجئين الفلسطينيين بلبنان «وجد (حيث هو) ليس ضمن معادلة لبنانية – لبنانية، بل ضمن معادلة صراع عربي – صهيوني، وما خلف الصهيونية»، أي السياسة الأميركية أولاً، والأطلسية ثانياً، وربما الأوروبية ثالثاً. ويرى رأس الانتفاضة على «فتح»، قبل 25 عاماً من انتفاضة «حماس» عليها، ومستظل فيء خالد مشعل بدمشق، ان «الصراع مع هذا العدو لم ينته بعد». وهو يوم زار رئيس بلدية صيدا، حليف أسامة سعد (منافس بهية الحريري وفؤاد السنيورة، الحريريين «التاريخيين»)، كان خارجاً لتوه من الملتقى العربي الدولي لدعم المقاومة ببيروت. وخطباء الملتقى الثلاثة البارزون هم حسن نصر الله، ورئيس الوزراء اللبناني سابقاً سليم الحص، وخالد مشعل الحمساوي الدمشقي. وفي بيانه الختامي، «نداء الحرية» على قول الملتقين، دعا هؤلاء الدول العربية الى «إعلان فشل مشروع التسوية (و) إسقاط كل الاتفاقات المبرمة مع الكيان الصهيوني...»، تحت لواء بند البيان الأول: «ان مقاومة الاحتلال والعدوان حق ثابت للشعوب أكده القانون الدولي، وشرعته الأديان السماوية، ونص عليه ميثاق الأممالمتحدة...». ولا يطعن في الانتصار بالقانون الدولي والأممالمتحدة استعانة «اسرائيل المهزومة» ب «المجتمع الدولي وبمجلس الأمن وبالمؤسسات الدولية...»، على قول خطيب الاحتفال الأول، حسن نصر الله، ولا مساواة الخطيب، في الجملة الخطابية نفسها، الهيئات الدولية ب «بعض الأنظمة العربية والمخابرات العربية وإقامة الجدران الفولاذية وحملات الترهيب والتشويه والحصار». فهذا شأن وذاك آخر، ولكل مقام، وصاحب مقام، مقال أو مقالات. ويحتج العقيد «الأردني» السابق لسلاحه القليل وسلاح زميله ورفيقه الأقرب أحمد جبريل، ولسلاح «حماس» المستتر والمتفجر وغير المحتاج الى الاحتجاج له ما دام يستظل جناح «الذين خبروا ساحات الجهاد وذاقوا طعم النصر الإلهي» في الشريط الحدودي اللبناني (سابقاً) وغزة دائماً، على قول صاحب «المقاومة الإسلامية» مؤبناً 2600 قتيل لم يخرج معظم أهلهم من بين الأنقاض بعد. وحجة سعيد موسى هي ما يسميه رفاق دربه مرجعيته العربية والإسلامية. وهو رتب مرجعيات الصراع والسلاح على مرتبتين: الأولى، وهي الأدنى والأخف، لبنانية وطنية، والثانية، وهي الأعلى والأرجح، «عربية»، على معنى سورية وربما سورية – إيرانية. ويأمل العقيد السابق، شأن زملائه في الملتقى العتيد وعلى ما قالوا، في انضمام تركيا الى نموذج «المقاومة»، العربية على الدوام ومن غير تدافع ولا استحالة. وأبو موسى المتحدر من «مرجعية» عربية، وليس فلسطينية، يزن المرجعيات بميزان «المقاومة» ودوائرها وديراتها. فالسلاح الفلسطيني داخل المخيمات لا يدين للبنانيين، ولا لغيرهم، بدخول المخيمات وتغذية الاقتتال بين الفلسطينيين وعلى اللبنانيين، على أرضها. والمسلحون الفلسطينيون خارج المخيمات يدينون بسلاحهم، ومرابطتهم على الأراضي اللبنانية، إما لقتالهم «التاريخي»، في 1968 – 1982، الدولة اللبنانية وجماعات لبنانية كثيرة وتصديهم لبعض العمليات الإسرائيلية البرية، وإما للسياسة السورية وأدواتها الفلسطينية واللبنانية المسلحة والسياسية. فما يزعمه السياسي والعسكري الفلسطيني المتقاعد، والمستيقظ من سباته في مناسبة مؤتمرية وخطابية، «معادلة صراع عربي – صهيوني، وما خلف الصهيونية» إنما هو تجديد لنهج السياسة السورية في سبعينات القرن الماضي. وتوسل النهج هذا يومها ب «تخزين» الفلسطينيين (صلاح خلف) في لبنان المختلط، الحلقة الأهلية والقمعية العربية الضعيفة، وبالاستعاضة به، وبالمنظمات الفلسطينية واللبنانية المسلحة، عن قتال إسرائيل الصعب. وكانت الحروب الأهلية الملبننة والطويلة ثمن نصب الحكم السوري وطبقته المسيطرة، نفسه مرجعية عربية، ومماشاة سياسات عربية ودولية «شجاعة» الحكم هذا على فعلته. وتماسكت هذه السياسة بعض الشيء قبل انهيار «جبهة الصمود والتصدي»، الأسدية والصدامية والقذافية، غداة ولادتها في 1978، وتوقيع مصر اتفاقية «اسطبل داود» على ما سمى العقيد الآخر معمر القذافي معاهدة كمب ديفيد في 1979، وعقد منظمة التحرير الفلسطينية اتفاق أوسلو في 1993 والمملكة الأردنية الهاشمية معاهدة وادي عربة في 1994، واقتراح قمة بيروت العربية في شتاء 2002 مبادرة سلام جددت قمة الرياض غداة 5 أعوام التمسك بها. وعلى هذا، فالمعادلة أو المرجعية العربية المزعومة التي تستظلها دعوى العقيد السعيد، ومسلحو زميله المقدم «السوري» السابق أحمد جبريل (والمقدم الطيار سابقاً شاكر العبسي)، فاتت، على قول ياسر عرفات، بالفرنسية («كادوك»)، في برنامج منظمة التحرير وبند تدمير إسرائيل. فالصفة العربية التي يضيفها الى المعادلة لم يبق منها، بعد انسحاب مصر والأردن و «فلسطين» (ولو بين مزدوجات) وإقامة لبنان على التمسك بهدنة 1949 والقرارات الدولية 425 و426 و1701، إلا معاهدة الأخوة والتنسيق والتعاون السورية أولاً وأخيراً والمجلس الأعلى السوري. والحق ان ما بقي من المرجعية العربية المزعومة، هو الجزر الفلسطينية المسلحة على الحدود اللبنانية – السورية الشرقية، وفي بعض مخيمات الشمال واخيراً على سفح الشوف «العربي». وأدت الجزر هذه دوراً مشهوداً في عرقلة مراقبة قوات الدولية ترسيم الحدود غداة اغتيال رفيق الحريري. وقتل مسّاحان لبنانيان تهددا الأرض العربية السورية في وحدتها وعروبتها، على مشارف هذه الجزر. وهي اضطلعت بمهمات أمنية عظيمة منذ قيامها، و «استقلالها» بنفسها، الى اليوم. والأرجح أن اغتيال الجنود الإسبان قبل نحو عامين، ورمي الصواريخ المختلسة من الجنوب حين يحم خطب «المقاومة» فلا يرى الشيخ نعيم قاسم ان على اصحابه تولي حراسة حدود إسرائيل – إلى الإنجاز الأعظم و «الغامض» أي إشعال القتال بين الجيش اللبناني وبين مخيم نهر البارد -، هي من فروع المهمات هذه وشُعَبها الكثيرة. ولا تنسب «المقاومة الإسلامية»، أي حرس الولاية الملهمة والثورية، نفسها الى المرجعية العربية. وهي تزدريها وتحتقرها، على ما تصرح خطب خطباء الثورة الحرسية في لبنان. ولكنها، أي «المقاومة»، تتحدر من المرجعية العتيدة وركنها الوحيد، ومن حضانتها، وتتغذى من طرق إمدادها وتموينها. فبعث المرجعية «العربية» الخاوية من رميمها، يشبِّه ويخيِّل عروبة من غير عرب (على معنى سعيد موسى). وهي العروبة السورية التي تكني عن الكل المترامي والمعقد بالجزء الضئيل والفقير التركيب، وتتسلط بذريعة الكناية غير المستقيمة على ما وسعها من الأجزاء الضعيفة. ولكن التذكير بخواء الكناية وكذبها، والحؤول دون مفاعيلها التسلطية، يقعان على عاتق العرب، دولاً وشعوباً، على نحو ما يقعان على عاتق الشعوب الضعيفة والمنقسمة، أي اللبنانيين والفلسطينيين، وذلك على رغم ان مصدر ضعفها الأول وانقسامها هو إقحام «القضية العربية الأولى» عليها (وعلى الشعب الفلسطيني أولاً)، على صيغة إقحامها الأهلية العصبية والاستخبارية الأمنية المسلحة. والتصدي الفاعل لهذا المثال من المرجعية العربية أو الإسلامية وجه حيوي من وجوه إرساء دوائر إقليمية متماسكة تتمتع بقدر معقول من الانكفاء يحمي الدوائر أو الأنظمة الفرعية هذه من تحكيم قوى خارجية متنازعة في منازعاتها وخلافاتها. وشرط حماية الانكفاء والتحكيم الداخليين تقييد المرجعية المفترضة بمعايير عمل وقواعد. وهذا على خلاف ما تطلبه «المعادلة العربية»، السورية، اليوم، على لسان أبو موسى، وعلى خلاف تاريخ التربع السوري في المرجعية المزعومة، في لبنان وفلسطين والأردن والعراق. ويقود الزعم ان مرجعية عربية (-إسلامية) تقودها دولة منفردة تحرك جماعات محلية موالية، باسم قضية «مقدسة»، ويستغرق سياساتها دفاعُ طبقتها الحاكمة عن نفسها في وجه معظم محكوميها ومعظم المجتمع الإقليمي والدولي – يقود الزعم هذا الى ارتكاب ضروب الإرهاب المتفرقة من غير رادع. واغتيال رفيق الحريري، شأن استدراج الإسرائيليين الى الحرب او استدراج الشيعة العراقيين الى القيام على السنّة، وحمل العراقيين جميعاً على رذل دولتهم وإداراتهم، والبشتون الأفغان على كابول والطاجيك والشمال والتحالف الدولي (ما دام امير «المقاومة» الشيعية المسلحة يدخل افغانستان في باب المقاومة ويدعو الى «دعمها»، شأن محمد رضا ميرتاج الدين معاون أحمدي نجاد أو نائبه للشؤون البرلمانية)، هذا كله وغيره مثله سائغ ومشروع على حسب منطق المعادلة العربية ومرجعيتها غير المقيدة. فهي تذكي الاقتتال الداخلي، وتميز العدو من الصديق تمييزاً عصبياً حاداً ومصطنعاً، وتعزل الداخل من الخارج الدولي عزلة مدمرة، وتهدم العلاقات السياسية الداخلية وتخرجها من مبانيها الدستورية والمدنية، وتسلط حال طوارئ مضمرة أو معلنة على الدولة والمجتمع، وتسلم إدارة الطوارئ الى طغمة متسلطة ومغلقة تنصّب تسلطها مرادفاً حرفياً لحماية القضية ومناعتها. والحق ان سند «خروج» سعيد موسى هو تاريخ السياسة السورية الأسدية (والفلسطينية المسلحة والعراقية الصدامية والليبية القذافية والخمينية الإيرانية، إلخ) الطويل في الشرق الأدنى ولبنان على الخصوص. ويقود التاريخ الطويل هذا الى أحلاف وكتل من النوع الذي برز، على شكل دعاوي وخطابي، في الملتقى الدولي العربي لدعم المقاومة، ببيروت العروبة («الحضارية؟») طبعاً. ف «الملتقى»، وهو دعا إليه مناضلون بعثيون «عراقيون» ثم «عرفاتيون» ثم «سوريون» و «إسلاميون»، جمع المقاومات الشيعية اللبنانية والإيرانية الحرسية والحماسية الفلسطينية والإسلامية العلمائية العراقية (الشيخ حارث الضاري، مادح «الشيخ» أسامة بن لادن) والبعثية السورية (السيدة شهناز فاكوش عضو القيادة القطرية). و «الملتقى» الخطابي مظهر ثانوي لتنسيق وثيق وقديم، استخباري أمني ومالي وعقائدي سياسي، بين القطبين الحاكمين في إيران وسورية وبين حركات وتيارات وأحزاب أهلية بعضها يشارك في السلطة، بلبنان وفلسطين، وبعضها ينتظر الانتصار على دوله، وهي شطر أساسي من أعدائه، على شاكلة الوفد العراقي. ولعل ازدواجية القطبين، الإيراني والسوري، على نحوين مختلفين، وهي من أبرز سمات «الملتقى» العتيد. فالقطب الإيراني يذهب، على لسان معاون رئيس الجمهورية، الى ان السياسة الخارجية الإيرانية تقوم على «دعم الهدوء والأمن والاستقرار في دول هذه المنطقة ولدى شعوبها كافة»، من وجه. ويرى ان هذه السياسة «تتجلى بالاحتضان والمؤازرة لكل حركات المقاومة والممانعة ضد أعداء الأمة العربية والأمة الإسلامية». ومثال الجمع بين شعبتي هذه السياسة هو، من غير ريب، انشقاق «حماس» واستقلالها بغزة، والاستبداد بحكم اهلها، ودعوتها الى استجابة السعي الإسرائيلي في نقض هدنة الصواريخ، واستباقه، واستدراج القوات الإسرائيلية الى دخول غزة وشن حرب على الجبهة الجنوبية، السنية. ولكن السياسي الإيراني يلوح، في الوقت نفسه، بالمثال اللبناني. فالإذعان للاحتضان والمؤازرة (أي الوصاية) وللهزيمة العسكرية والسياسية في الداخل والرضا بها، قد يحملان المرجعية «الإسلامية» على «دعم الهدوء والأمن والاستقرار» على شرط إرساء هذه على الشق الأول. وفي الأحوال كلها، يدعو بيان «الملتقى» الختامي الدول العربية، أي مصر والأردن والسلطة الفلسطينية أولاً، الى «إعلان فشل مشروع التسوية»، أي إلى إلغاء المبادرة العربية (السعودية) وإعلان حال حرب عامة في المنطقة الآمنة والمطمئنة («إسقاط كل الاتفاقات المبرمة مع الكيان الصهيوني وقطع أشكال العلاقة معه»). ويتذرع الحكم الإيراني ب «الملتقى» إلى إدراج ممثل الشق القاعدي السني من الحلف القاعدي – البعثي العروبي بالعراق في صف «المقاومة». ويحضن القطبان الإيراني والسوري حلقة عراقية وسيطة بين الجناحين الإرهابيين الصريحين، القاعدي والصدامي، يصالح «الجهاد» الإيراني في العراق مع الحركة القومية البعثية المحلية التي يحضن الحكم السوري أقطابها، ويصالح القيادة «القومية» السورية مع بعض الجهاديين. ويحل هذا معضلة الموازنة الدقيقة بين تيارات «المقاومة» العراقية، وإنجازاتها العظيمة. ويربط المقاومة ذات السجل المروع بنظام المقاومة العربي والإسلامي. واحتضان حسن نصر الله، وحده، «الأفغان الأفغان»، وإغفال بيان «الملتقى» ذكرهم، واقتصاره على المثلث «العربي»، قد يكون قرينة على الإعداد لمناقشات قادمة في ملتقيات تستقبلها بيروت في الأشهر الآتية (ولمفاوضات اقل علانية إعلامية «مقدسة» وأكثر أمنية ومالية). وتلوح السياسة السورية بازدواجها، على أضعف تقدير، من غير حرج. فكلمة سورية على لسان عضو ثانوي في القيادة القطرية (وليس القومية)، توجب «خطأ التصور ان السلام يأتي بالتفاوض»، وتوحد «المقاومة والسلام» في «محور واحد»، بينما ترفع سورية الوساطة التركية والمفاوضة والرعاية الأميركية المرجوة الى مرتبة جواهر ميتافيزيقية. ولا يخلو الكلام السوري، على عادته، من غمز من المقالات الأخرى في «الملتقى»، ومن أصحابها. فالقول ان «المقاومة حاضرة دائماً في غياب الحلول الأخرى» يخالف غلو «الجهاديين». والقول ان «حرب تموز (يوليو) 2006 الإسرائيلية... وحرب إسرائيل على غزة غيرتا خريطة المنطقة»، يثلج صدور «الجهاديين» أنفسهم. والقول اخيراً «ان لنا عدواً واحداً على الأرض العربية هو المحتل الإسرائيلي»، ينبغي ان يحدو جيفري فيلتمان على عناق فيصل المقداد حين يرد الأول زيارة الثاني الى واشنطن ويحط بدمشق التي عزلت واشنطن، على قول سفير هذه السابق في بيروت. * كاتب لبناني.