ولى زمن كانت الفضائيات تُستدعى أو تُدعى أو تُستَعدى من أجل تغطيات تلفزيونية للقاءات سياسية ولقاءات مصورة عن قضايا آنية ومحاور استراتيجية وملفات أمنية، وحان وقت تبلور وتجلي الدور المحرك والعقل المدبر لما يجري من حراك – وفي أقوال أخرى خراب - وما يدور من أحداث – وفي أقوال مغايرة كوارث- في المنطقة. لم تعد القنوات التلفزيونية تنضح بالأخبار المنقولة عن الساسة ومن مواقع الأحداث، بل بات مؤكداً إنها صانعة الأحداث، ومؤججة التوجهات، ومحركة المجريات. لم يعد الأمر مجرد تراشق بالاتهامات، أو أوصاف بالمؤامرات والخيانات، أو حتى معايرات وتنابذات، بل بات ما تبثه الشاشات هدماً للأوطان، وتشتيتاً للشعوب، وتهميشاً للقوميات. وعلى رغم عنصر المفاجأة وعامل المباغتة وتوقيت المطالبة، فقد وجدت الشاشات نفسها في خانة «اليك» أو ربما في موضع الشك حين خرج بيان خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في شأن اتفاق الرياض، وما ورد فيه من أن مصالح دول مجلس التعاون الخليجي وكل شعوب الأمة العربية والإسلامية تقتضي «أن تكون وسائل الإعلام معينة لها لتحقيق الخير ودافعة للشر». تفكير وتدبير فتحت هذه الكلمات الباب على مصراعيه أمام دور الإعلام العربي، الحكومي والخاص، المحلي والإقليمي، الموجه للخارج والموجه للداخل، حيث سجالات ونقاشات، ومراجعات وتبادل اتهامات، وتفكير وتدبير قبل إطلاق العنان لما جرى العرف عبر شاشات الإعلام أن يكون بذاءات يومية وصفاقات دورية موجهة من هذه الشاشة لذلك النظام، أو مصوبة من تلك الفضائية لهذا الشعب، أو مبتدعة قصصاً وحكايات وعارضة إياها باعتبارها وقائع ومعلومات، أو خائضة في الأعراض والخصوصيات، وذلك منذ صعود نجم الإسلاميين في مصر والمدعوم إعلامياً من خارجها، والمتأجج منذ ثار المصريون على حكم الإخوان في 30 حزيران (يونيو) 2013. المراقبون غير العالمين ببواطن الأمور وخفايا القلوب يرون أن حرباً إعلامية ضروساً تجري رحاها في دول المنطقة، بين فريقين. الأول شاشات داعمة لحكم الإسلاميين تارة عبر التعبير عن «مظلومية» منسوبة، أو التبجيل لعناصر دينية مرغوب بها، أو تصوير واقع إخواني افتراضي خيالي باعتباره مليونيات شعبية تهز أرجاء مصر ليلاً ونهاراً. والثاني شاشات خاصة أطلقت العنان لمذيعيها توجه السباب والتهكمات والسخريات لرموز حاكمة بعينها معروف عنها دعمها لجماعة الإخوان المسلمين سياسياً ومالياً وإعلامياً وإيوائياً، وربما تمويلياً. وأخذت كرة الثلج الإعلامية تكبر وتنمو وتتوحش، حتى تم اختزال الشد والجذب بين دولتين عربيتين هما مصر وقطر، واختصار المعركة السياسية الطاحنة الدائرة رحاها بينهما مباشرة أو غير مباشرة في قناة «الجزيرة» وعدد من القنوات الشبيهة التي بدا إنها جاهزة للقيام بالدور ذاته من تشويه النظام المصري الحالي، وتقبيح سياساته، وتأليب شعبه عليه، لا سيما في حال اضطرت «الجزيرة» للاحتجاب أو الاحتراز أو الاحتراس. وحرصاً على إبداء «حسن النوايا» عمدت «الجزيرة» إلى وصف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ب»المنتخب» مع الإبقاء على محتواها الإعلامي المعادي للإرادة الشعبية المصرية «كما هو». على الجانب الآخر، وجد العديد من الإعلاميين المصريين أنفسهم في وضع لا يحسدون عليه. فبعد أشهر طويلة من إطلاق العنان لكل ما تجول به أنفسهم ونفوس من حولهم تجاه قطر وموقفها المعادي لثورة قطاعات عريضة من المصريين على الحكم الديني، وتفويضهم للقوات المسلحة المصرية لإنقاذ وطنهم من مغبة الدولة الدينية، وجدوا أنفسهم مطالبين – ولكن بصورة غير مباشرة – بالتفكر والتدبر والتعقل قبل إطلاق النعوت وتفجير الأوصاف. وإلى أن يهدأ روع الإعلام على الجانبين المتناحرين قليلاً، ويصل أعضاء الطرفين إلى وسيلة مثلى للتعامل مع «التهدئة» المفاجئة، يمكن استثمار الوقت في الخروج بنتائج عدة بناء على المشهد الإعلامي العربي المتأجج. لقد نجحت الشاشات التلفزيونية في أن تتحول من ناقل للأخبار ومفند للأحداث إلى صانع للتوجهات، أو على الأقل مهيئ للرأي العام لتقبل التوجهات السياسية مهما بلغت من جذرية، أو لا عقلانية أو غير منطقية. وكما يقول المثل الشعبي «الزن على الودان (الآذان) أمر من السحر»، فقد اتبعت شاشات عدة هذا المثل، ونجحت في أن تحول أو تغير أو على أقل تقدير تهيئ الرأي العام في بلدان عربية عدة لتوجهات بعينها، وهو ما أثبتته رياح الربيع التي هبت على غير دولة. وعلى رغم إن بعضهم يجادل بأن قيام شاشات بعينها بهذا الدور التهيئي ما هو إلا تفعيل لأوامر عليا، سواء من داخل الدولة أم من خارجها، إلا أن الواقع أثبت أن في إمكان قناة ما أن تصبح أكبر من الدولة نفسها، بل وتجبر الدولة على التحرك في اتجاهات ترسمها القناة وليس العكس. الكذب بحنكة وعكس ما قد يعتقد بعضهم من أن الكذب – وإن طال- وتغيير الواقع – وإن تم بإبداع وحنكة- قادران على هدم دول وتغيير أنظمة، إلا أن واقع الحال يشير إلى أن الرأي العام نفسه هو أول من يكشف البغي الإعلامي والبهتان المعلوماتي، وهو ما يتضح جلياً من تحولات جذرية في نسبة المشاهدة لقنوات اعتبرها الرأي العام نموذجاً للصدقية ونبراساً للمعلومات، ثم باتت اليوم نموذجاً لما لا ينبغي أن يكون بأمر المشاهد. وعلى الجانب الآخر، فإن المشاهد الذي أقبل قبل سنوات قليلة على صرعة تلفزيونية عنوانها تأجيج المشاعر وتهييج الكراهية، وذلك باستخدام لغة الشارع في الشتم ومفردات الحارة في السب، هو أيضاً الذي يمل الصرعات ويعود أدراجه إلى الحق الذي هو أحق أن يتبع، حتى وإن كان قابعاً في قنوات مسرحيات زمان، أو أغاني الزمن الجميل أو أفلام «بوليوود»، ولو موقتاً. توقيت مناشدة الإعلام مراعاة المصلحة العامة بالغ الحيوية، إلا أن تعريفات المصلحة العامة تظل كثيرة ومختلفة، وهو ما يبدو واضحاً على الشاشات بعد المناشدات. فما قد يراه هؤلاء مصلحة عامة متمثلة في التوقف عن السب والشتم يراه آخرون متمثلاً في المضي قدماً في تشويه سمعة «العدو». وما قد يعتبره أولئك مصلحة عامة متجسدة في تصوير «العشريات» باعتبارها مليونيات، ووصف الثورات على إنها انقلابات، وعناد الإرادات الشعبية لأنها تعرقل المخططات الإقليمية يصفه المجابهون بأنه رقص على سلالم الكذب الإعلامي ولعب بنيران التمويه الإخواني. أما أحاديث المهنية الإعلامية، ومناقشات مواثيق الشرف التلفزيونية، وجدالات الحيادية المعلوماتية فلا مجال لها على الشاشات هذه الأيام. إنه الصراع التلفزيوني بين المصلحة العامة والطالح الخاص. المطلوب هدنة تلفزيونية بين الفرق السياسية من أجل المصلحة العامة.