(لذكرى محمد دكروب) «وزّ عينك، وأنا في هذا العمر أعرف صبايا أكثر منك»، هكذا مازحني محمد دكروب على الهواء مباشرة في اختتام حوار تلفزيوني ممتع معه تناول العلامات الفارقة في مسيرته الملأى منذ كان فوّالاً وبائع ترمس وبائع ياسمين وسمكرياً في مدينة صور/ جنوبلبنان، إلى أن أصبح واحداً من ألمع المثقفين العرب وأكثرهم حيوية واجتهاداً حتى بعد تجاوزه الثمانين من دون سأم أو تعب. حُبّ دكروب الثمانيني للجنس اللطيف لم يكن يُخفى على أحد، بل كان يجاهر بهذا الأمر ويفاخر به، وقد عرف كيف يحافظ على صداقات أنثوية على رغم بلوغه من العمر عتياً، لكن ميزة حبه هذا أنه كان أبوياً من دون تسلط، أخوياً من دون تعالٍ، ندّياً من دون نزق أو إفراط. كانت تختلط في نفسه مجموعة متنوعة من المشاعر التي تشحنه بطاقة هائلة من الشباب جاعلةً إياه مقبلاً شرهاً على الحياة لا طمعاً بمفاتن الدنيا ومباهجها (وهذا حقه)، بل لكثرة ما في جعبته من مشاريع وأحلام يريد تحقيقها كانت سنواته الأخيرة سباقاً حقيقياً مع الزمن. انحياز دكروب إلى الأنوثة لم يكن سمة دونجوانية لديه بمقدار ما كان جزءاً من شغفه بالحياة ورهانه على الشباب (إناثاً وذكوراً)، لذا لم يكن غريباً أن يكوّن صداقات فاتنة مع مَن كنّ وكانوا في عمر أحفاده، فكل مبدع حقيقي ينتصر للأنوثة التي في داخله عبر الاقتراب من أنوثة الحياة نفسها بكل ما تعنيه من إبداع وعطاء وخصوبة وتجدد. والأهم أنه ظل في عقله وقلبه شاباً حتى الرمق الأخير، فبمقدار ما كان شيوعياً ملتزماً ومتمسكاً بشيوعيته، كان منفتحاً على الجديد، كل جديد، وباحثاً عن أسباب تخفيفية لمرتكبي «الأخطاء»، ذلك أنه كان يرى الآخر كإنسان بالدرجة الأولى مقدّماً إنسانيته الرحبة على انتمائه الأيديولوجي الضيق. يصعب سكب الحبر على دكروب من دون اختلاطه بالدمع فصاحب الابتسامة الدائمة والدماثة الأنيقة كان قريباً من كل عارفيه، مثلما كان على نقيض بعض المناضلين الذن يربطون النضال بالعبوس والتجهم و «تربيح الآخرين» جميل نضالاتهم. كان مناضلاً مرحاً خفيف الدم والروح، صاحب نكتة غر جارحة، كأنه عن قصد أو من دونه يكسّر الصورة التقليدية النمطية للمناضلين الحجريين أو الخشبيين، إذ إنه على رغم التزامه الأيديولوجي الراسخ، وماركسيته التي لا تقبل الاهتزاز، ظل منفتحاً على الجميع، صديقاً للكل من دون مهادنة أو مساومة على الموقف. ولئن كان محمد دكروب مثالاً للمناضل العصامي الكادح الذي ترقى بجهده ووعيه وثقافته من الصفر إلى أعلى رتبة إبداعية ممكنة، فإنه في الوقت عينه كان مثالاً للغيرية في أبهى صورها وأجمل تجلياتها، بحيث أمضى جلَّ عمره يكتب عن الآخرين متوارياً خلفهم ماحياً أناه التي كانت تستحق أن يعطيها بعضاً من وقته وجهده نظراً إلى ما تزخر به سيرته من دروس وخلاصات، وحبذا لو يأتي مَن ينصف محمد دكروب الذي أنصف بقلمه الآخرين أكثر بكثير مما أنصف نفسه. في حوار إذاعي معه عبر أثير «صوت الشعب» كرر محمد دكروب أن لديه من المشاريع ما يكفيه لخمسة عشر عاماً مقبلة وأنه يحلم بالعيش مئة وخمسين سنة لكثرة ما لديه من الأحلام، ولعل أجمل تكريم يحظى به صاحب «السنديانة الحمراء» أن يأتي من يُخرج مؤلفات دكروب غير المنشورة إلى النور، نور الثقافة الحقيقية التي تتجلى بأمثاله.