ينشغل ترافليان ساكو عازف البيانو والمؤلف الموسيقي العراقي المهاجر الى كندا منذ 15 سنة، بضخّ روح بلاده الاولى ورموزها التاريخية والانسانية في مؤلفاته، بل حتى في مقطوعات البيانو التي يستعيد فيها أنغاماً شعبية من نينوى. فهو يرفع الذكريات الشخصية والتاريخية الى مصاف العمل الموسيقي الرصين. ففي عمله «نغم من نينوى»، يعيد تقديم لحن أغنية شعبية نادرة في المنطقة التي تعني له الكثير. فهو متعلّق ليس فقط بالبيئة الجغرافية والاجتماعية للكلدان والأشوريين العراقيين، بل بذاك الاتصال التاريخي بعمق «بلاد ما بين النهرين». لذا كتب لنينوى مؤلفاً موسيقياً مميزاً لا لكونه نادراً فحسب، بل لما تضمنه من إشارات تدلّ على رؤية جمالية عبر النغم لحلم طويل يمتد من اثر البلاد المتعبة في يومياتها الراهنة الى صورتها يوم كانت مهداً حضارياً اسمه «ميزوبوتاميا»، وهو الذي حضّر عنواناً لعمله «رابسودي ما بين النهرين» الذي جاء تعريفاً غنياً بموهبة ساكو مؤلفاً لعمل موسيقي يستحق الدرس وليس مجرد الاصغاء. و «الرابسودي» هو «مصطلح إغريقى الأصل يعني قصيدة تلقى بشكل غنائي ملحمي بواسطة الشعراء الجوالين في اليونان القديمة»، لكنه صار لاحقاً شكلاً موسيقياً آلياً من حركة واحدة طويلة. و«الكلدوآشوريون» هم السكان الأصليون لبلاد ما بين النهرين «ميزوبوتاميا» التي لها تاريخ يمتد 6700 سنة. وأقاموا الإمبراطورية الآشورية القديمة كواحدة من أقدم الحضارات الانسانية. وعلى رغم أنها انتهت قبل ستة قرون، فإن سجلها التاريخي مملوء بتفاصيل وثقت لحكاية حضارة وسمت الشرق الأدنى بأكمله، وعلى الأخص منطقة «الهلال الخصيب». والعمل الموسيقي لإبن هذه الحضارة ترافليان ساكو، بدا نشيداً إنسانياً للتذكير بأمجادها. وجاء اختيار ترافليان ساكو «الرابسودي» مهماً، لأنه يوفر جواً من العفوية والارتجال، بما يجعله أكثر حرية من الأشكال الموسيقية الاخرى، وهذه «الطواعية» جعلته يقارب برشاقة لحنية، معالم القوة الابدية، عظمة الخلق، والإرث الرافديني العميق، عبر سرد حكائي سريع تتولى ضربات البيانو ترجمته كأنه الراوي لتلك السيرة المصيرية المنتقلة من الفرح النادر الى التراجيديا الطويلة. وصوّر آلات الكمان هنا، مع بعض التراجع ولكنه ليس الانكسار. وعبر دقائق قليلة يستغرقها العمل الذي يفتتح عبر الأبواق الصادحة، ثم تدخل الكمانات والبيانو وخلفية صوتية لكورال من هتاف بل نشيد للفرح وللأمل، يمكن المستمع الوقوف بتمهل عند انتقالات عاصفة بين القوة، الجمال، والسمو الانساني من رحلة عبر التاريخ. ترافليان ساكو الذي عرف شخصياً مسارات حياتية صعبة، عبر دراسته الموسيقى في بغداد في أجواء من التضييق السياسي على عائلته، ثم العيش في ظروف ليست سارة اثناء إقامته سنوات طويلة في العاصمة الاردنية والعمل في الموسيقى عزفاً وتدريساً، لم يتوقف في مؤلفاته عند حكاية الإرث التاريخي الحي لبلاده. وراح يتصل بإشارات واقعية كما جسدها في مؤلفه للبيانو «خلف القضبان». فبين الفرح والتحليق والانكسار، تتتابع الأنغام لتجسد حالة «البريء» المتطلع الى حريته. وفضلاً عن لحظات غضب تصل الى حد تخبط الروح فتنكسر الى وحدتها ووحشتها، يظل هناك موضع للأحلام وهي تداعب المنكسر الوحيد، فتعيد له نبض حلم بالحرية نبضاً ايقاعياً بهياً حيوياً يجسده ساكو عزفاً عذباً صافياً على مفاتيح البيانو التي لا تهدأ إلا حين تلتمس روح الوحيد في سجنه بعض الهدوء، لتعاين محنتها وصبرها وما تبقى لها من آمال. ولا يتوقف عمل ساكو عند التأليف، بل إن عزفه على البيانو هو من النوع الخاص، يحيل الى فكرة مفادها: ما العازف ان لم يكن روحاً قبل ان يكون مهارة تقنية وبراعة أسلوب؟ انه يكسب روحيته في طريقة عزفه ومقاربته على البيانو حتى لأعمال اساطين الموسيقى الغربية الكلاسيكية. لكن هذه «الروحية» تتضح كثيراً في عزفه لأعمال معاصرة، تحتمل الحرية وإضفاء التنويعات على اللحن الاصلي. وهو ما أنجزه بعزف شخصي على البيانو، يستعيد فيه النغم الأساسي (ثيم) للفيلم الاميركي الشهير «قصة حب»، إذ أضفى شخصيته الموسيقية على اللحن الاصلي بما يجعل المتلقي كأنه يسمع اللحن بنسخة أكثر صفاء وعذوبة. ترافليان ساكو (45 سنة)، يوثق خلال إقامته الكندية، قصة نجاح أخرى لموسيقيين عراقيين ضاقت بهم بلادهم، وتوزعوا، منذ عقود، على أرجاء المعمورة في نشيد متّصل بحثاً عن «ميزوبوتاميا» أقرب الى الضائعة.