تسمع مزيجاً من الأصوات حين تدخل القاعة. جمل وكلمات غير مفهومة تتردد بلا هوادة. التفريق صعب بين نبرات الصوت، ثمة أصوات مألوفة تحاول جذب انتباهك. ينتصر الصوت الأعلى، أو تنتصر الحجة، لا فرق، فالجميع هنا ماض في محاولات محمومة لاختراق عقلك والتأثير عليك. تكتشف بعد قليل أنك تقف وحيداً بين كل هذا الكم من الأصوات والصور المتداخلة. ينتابك كثير من الأحاسيس والمشاعر المتضاربة. تشعر بصعوبة الاستمرار، وتقرر الخروج، فتتبعك الأصوات إلى حيث ذهبت، كأنها تسكن خلاياك، إنها صورة قريبة ومكثفة وشديدة الوضوح لتأثير آلة الإعلام الطاغية. «كلامنولوجي»، عرض فيديو وتجهيز في الفراغ أقيم في قاعة «أفق واحد» في القاهرة للفنان المصري أحمد خالد، وهو مصور ورسام وكاتب ومخرج وصانع أفلام، تخرج من معهد الفنون الجميلة عام 2001 واتجه إلى صناعة الأفلام القصيرة والكتابة للسينما. يتمتع خالد بقدرة على قراءة الصورة بشكل مختلف، فهو تشكيلي يمارس صناعة الأفلام، وصانع أفلام يمارس الفن. لذا فهو على دراية بكل مكونات المشهد البصري، إلى جانب العوامل الأخرى المساعدة، من صوت وصورة وحركة وظلال وتراكيب بصرية. حين يقدم خالد تجربته الفردية الأولى في عرض بصري تحت عنوان «كلامنولوجي»، علينا توقع اختلاف عن كل ما نشاهده في عروض «الفيديو آرت» التي نطالعها داخل قاعات العرض المهتمة بالفنون المعاصرة، والتي يعد أحد مكوناتها الأساسية. مارس أحمد خالد صناعة الفيديو والإخراج، على نحو مكَّنه من الإلمام بتفاصيل وأبعاد تلك الصناعة. ولك أن تتوقع كل هذا الكم من الزخم البصري الذي صاحب معرضه. فيقدم خلطة فنية، ومشهداً بصرياً صادماً، يكثف من خلاله الحقيقة ويقدمها لك كما هي. يزيل عنك وهم المقدرة على التحليل والانتقاء، فلست هنا سوى كائن صغير يدور في فراغ لانهائي، يحاول الخروج فلا يستطيع. يتحول من حوض الأسماك الصغير إلى حوض آخر أكبر وأكثر اتساعاً، لكنه في كل الأحوال يظل سجيناً داخل هذه الدوائر والأطر التي تحيطه. حوض الأسماك هنا هو أحد العناصر التي استعان بها خالد لتأكيد تلك الفكرة وتكثيفها من طريق وضعه مجموعة من أحواض الأسماك أسفل كل شاشة عرض داخل القاعة. شاشات العرض ذاتها التي تغطي أركان القاعة تحمل زخماً مشوشاً لعدد كبير من الصور المتتابعة. هم نجوم الفضائيات الذين يطالعوننا يومياً على شاشات التلفزيون. وجوه مألوفة تصل إليك حتى حجرة نومك. حرب كلامية مستعرة، تجد نفسك مع الوقت طرفاً ومشاركاً فيها. بين كل هذه النجوم الإعلامية تستطيع أن تتبين صوت الرئيس وصورته، فهو عامل مشترك بين كل هذا الزخم البصري والسمعي. بين كل تلك الأفكار والميول والجمل الموحية التي تتقاطع بعضها مع بعض، هو هنا داخل العمل ليس إلا ظاهرة صوتية تحاول التأثير كغيرها على الناس. يكثف خالد في معرضه رؤيته لتأثير الصورة والكلمة -اللتين تبثان عبر الآلة الإعلامية- في حياة المصريين، خصوصاً بعد الثورة، أجواء مشحونة يتخذ فيها الإعلام دوراً مؤثراً ومحورياً في الصراع المحتدم على الساحة المصرية. لا يتبنى الفنان في هذا العمل أي جانب من جوانب الصراع على حساب الآخر، فهو يعرض كلاً منها عرضاً متوازناً. هو ينحاز فقط إلى الطرف المستقبِل، إلى الناس العاديين، المستهدفين بكل هذا السيل من المواد الإعلامية وبرامج الكلام والأحاديث اليومية. لقد حوّل قاعة العرض الكبيرة إلى طبق استقبال يلتهم كل من يقترب منه، ومع وجود بعض العناصر ذات الدلالة والمساعدة نجح في تكثيف الفكرة والوصول برؤيته إلى المتلقي من دون تصنع. شارك أحمد خالد منذ العام 1996 في كثير من المعارض والورش الفنية في مصر وخارجها. وحصل على عدد من الجوائز في الرسم والتصوير الزيتي والفوتوغرافيا. واتجه إلى صناعة الأفلام منذ عام 2003 حيث كتب وأخرج وأنتج أكثر من فيلم قصير، إضافة إلى أفلام وتقارير وثائقية وإعلانات. أخرج فيلمه الروائي القصير الأول «الجنيه الخامس» عام 2005، وأتبعه بفيلم «عين السمكة» (2007) الذي حصل عنه على جائزة شادي عبد السلام لأحسن مخرج عن العمل الأول في المهرجان القومى للسينما المصرية. كما خاض تجربة الإخراج التلفزيوني من خلال مسلسل «أبواب الخوف» الذي شارك في كتابته أيضاً.