لم تكن «سخيفة» نسبة المشاركة في التصويت لتولي عبد ربه منصور هادي الرئاسة الانتقالية لسنتين: 60 بالمئة من الناخبين أدلوا في 21 شباط (فبراير) الجاري بأصواتهم، وذلك كمعدل وسطي عام. بلغت النسبة أعلى مستوياتها في صنعاء وتعز وهما قلب الثورة، فكادت تصل الى 80 بالمئة، ولكنها حافظت على ال50 بالمئة الضرورية رمزياً وسياسياً في عدن عاصمة الجنوب، رغم أن العصيان المدني المواجه للانتخابات والداعي لمقاطعتها، لم يكن مدنياً ولا سلمياً، وهذه نقطة فشل لأصحابه. وكذلك في صعدة معقل الحوثيين. هكذا ينفتح السبيل أمام مرحلة جديدة لهذه البلاد المهددة وجودياً بفعل عوامل الافقار المريع لأهلها. لقد أهملت السدود التي حولت اليمن في التاريخ الغابر الى اسطورة. وذبلت الزراعة والرعي، واستنفدت المياه الجوفية في عديد المدن التي تشهد تزايداً سكانياً هو من أعلى المعدلات في العالم: لن يكون هناك مياه في صنعاء بعد عشر سنوات، وثلاثة ارباع اليمنيين يعيشون حالياً تحت خط الفقر. واليمن تقع على خط زلازل سياسية. فهي أكبر البلدان الخليجية المتاخمة للسعودية، وتمتلك علاوة على مساحتها وعدد سكانها، تاريخاً عريقاً. وكل ذلك يجعل منها كياناً بالمعنى الفعلي للكلمة. ولكنها منبوذة من قبل مجلس التعاون الخليجي، ربما لفقرها، أو لأنها جمهورية بعد انقلابها على النظام التقليدي الذي كان قائماً فيها، والذي لو بقي لتحول من الامامة الى الملكية، أو، وهو الأرجح، لإلفتها مع تقاليد من النشاط الصاخب، السياسي والفكري، وتحوله أحياناً الى مسارات مفاجئة. ولعل استبعاد اليمن من المجلس منحة للبلاد، تجعلها قائمة بنفسها (كما هي فعلاً)، وبعيدة عن توسل الحلول السهلة التي تتكشف غالباً عن هشاشة كرتونية. هكذا اختارت اليمن مساراً انتقالياً من حالة بائسة بكل المعايير أرساها علي عبد الله صالح، الى غدٍ يريده ابناؤها كريماً. وقد تميزت انتفاضة هؤلاء بصفات فرضت الاعجاب. فهم قاوموا بنجاح كل محاولات جرهم الى العنف، وقابلوا عنف السلطة بإعلان التمسك بسلمية حراكهم وممارسته فعلاً. وتمكنوا من التواصل مع المنطقة الجنوبية، وهي التي ادمتها حرب 1994، ثم مسلسل عنيف من التدابير الانتقامية. فصالح لم يكتف بفوزه في تلك الحرب بل أمعن طوال العقدين الماضيين في التمييز ضد ابناء الجنوب والسعي لإذلالهم. وعلى مدى أشهر من الانتفاضة، سادت حالة من وحدة الحال بين كل أرجاء اليمن، ومن التواصل في المطالب والتحركات، ومن نبذ العنف، وصفها البعض بالرومانسية، وهي على الارجح طوباوية بالمعنى الثوري النبيل للكلمة. وقد وصف ذلك الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني، والقيادي المؤسس لإطار «اللقاء المشترك»، الدكتور ياسين سعيد نعمان، مسجلاً أن الثورة اليمنية تمكنت من التخلص من «فخ» العنف «رغم توفر شروطه»، وعلى رأسها ممارسة النظام لعدوانية هدفت الى استيلاد عنف مقابل، بحيث يغذي واحدهما الآخر. وأضاف أن نظام صالح ليس مؤسساتياً حتى ينهار بانهيار مؤسسات الدولة، وأن للرجل مرتكزاته القبلية والامنية، وقدرته على ممارسة الرشوة، بحيث يمثل الانزلاق الى العنف خشبة خلاص بالنسبة إليه. ونعمان هنا يتكلم عن اليمن! فكأنه يتكلم عن سورية مثلاً، أو عن العديد من الاوضاع العربية الأخرى. لكن المعجزة الاضافية التي سجلتها الانتفاضة، وقادت اليمن الى نقطة الانطلاق الجديدة اليوم، تتمثل في تمكنها من تحقيق إجماع إقليمي ودولي داعم للعملية الانتقالية. لقد تم ذلك عبر توظيف ذكي للمعطيات المحيطة، يوفر لكل طرف حداً من مصالحه، أو يحول على الاقل دون إحساسه بوجود تهديد لها. وهكذا، مثلاً، جرى اقناع روسيا بأن المرحلة الانتقالية ستراعي أيضاً زاوية نظرها. ولولا ذلك لبقيت موسكو متمسكة بصالح الذي تعرف كيفية التعامل معه، على تطور كان كل شيء يوحي بأنه قد يتجاهلها، ولما أمكن تحويل المبادرة الخليجية الى مبادرة محتضَنة أممياً. لقد تقدمت جميع الاطراف الخارجية في هذا المسار وهي مترددة ومتوجسة. ولعل قوة تصميم الشباب المنتفض، واتساع دائرة التأييد الشعبي للانتفاضة، وحفاظها على سلميتها، هو ما سجل الفارق هنا. وهو ما ارتكزت اليه العملية السياسية التفاوضية، التي ارتضت، بحكم كونها تسوية، بالكثير من التنازلات ابتغاء تحقيق هدف مركزي هو انجاز خطوة تنحي صالح وإطلاق المسار اللاحق. ومن غير المفهوم لماذا يعتبر ذلك انجازاً وعقلانية وحكمة هنا ولا يكون شبيهه كذلك في سورية مثلاً، مع التنويع الضروري في الاخراج والتفاصيل. لماذا نمجد العملية الانتقالية في جنوب افريقيا ولا نستلهمها في بلداننا؟! وهناك جواب: هنا تطغى عقلية ضيقة، تبحث عن المصالح الفئوية، وعن تحقيق منجزات لهذا الطرف أو ذاك. وهذا يعني أن محركها ليس المصلحة الوطنية بمعناها الشامل. لولا الخيار الذي انتهجته القوى الاساسية للانتفاضة، لحصل استعصاء مشابه في اليمن لذاك القائم اليوم في سورية. لو أن الامور عادت الى رئيس جنوب اليمن السابق، علي سالم البيض، مثلاً، لتمزقت اليمن! وهذا الأخير يقول بنفسه إن جنوب اليمن اليوم مقسوم الى شرق وغرب تفصل بينهما حضرموت، و «فبركة» القاعدة في محافظات ابين ورداع الذي قامت به السلطة السابقة. والبيض هو صاحب تيار «فك الارتباط» بين الشمال والجنوب عوض البحث عن صيغ لمعالجة الظلم اللاحق بالجنوب من ضمن الافق الوطني العام. وكما يقول الدكتور نعمان، لم يسبق أن نجحت ثورة في بلد منهار ومفكك. وانه ليس من الثورية في شيء «حل بعض المشكلات بصورة مستقلة عن قضية التغيير الكبرى». ما زالت أمام اليمن ايام صعبة. أولها أن صالح يتصرف كبلطجي بكل معنى الكلمة. وهو لم يكتف بالحصول على الحصانة، وهذه نقطة تنازل كبيرة ارتضاها اللقاء المشترك لتسهيل رحيل الرجل، ولكنها ليست لب الموضوع، بل هو يعد (يهدد؟) بأنه سيعود. وإنْ فعل فليقاتل من أجل حرف المسار الانتقالي، دفاعاً عن مواقع ابنائه واخوته الذين لم يكتفوا كما يبدو. وثاني التهديدات عقلية رائجة كثيراً لا تميز بين الخطابة الراديكالية اللفظية وبين الحفر في الواقع. ولو توافرت الفرص لأعلى الخيارات الثورية، لقال المرء حبذا. ولكن نماذج البلدان الغارقة في دماء ابنائها ليست جذابة، ولا تجربة تفكك السودان والحرب المقبلة فيه جذابة هي الاخرى. فلنتمنّ لليمن مساراً آخر. وهو لو نجح، لاهتدى به سواه.