في رواية "قصة مايتا"، التي تتناول حياة ثائر شعبي معروف، يقول الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا، إنه كان يجمع الكثير من المعلومات والوثائق والقصص ممن عرف الثائر المذكور، لكنه كان مضطراً للحذف والإضافة والتعديل، ما جعل معارف الثائرمايتا يتهمون الروائي بالكذب، وهو ما لم ينفه يوسا، بل أكده. وهو يدرك السبب جيداً: كان يكتب رواية فنية. وفي شهادة للروائي إلياس خوري يقول: كان غسان كنفاني يكذب كي يقول الحقيقة! ولعلها تبدو مفارقة كبيرة، أعني أن يكذب المرء كي يقول الحقيقة. لكنها في الكتابة ليست كذلك. إنها الفهم الحقيقي للكتابة الروائية تحديداً، اذ لا مجال للنقل الحرفي والتأريخ الفج، بل المجال كله مفتوح على آفاق التخييل. ولكن ما يخطر في البال على الفور هو: كيف يكذب الروائيون؟ ولماذا؟ وأين؟ في محاورة هذه الظاهرة واستنطاقها، نقول إن الوقائع الموضوعية والحكايات والشخوص كلها تختلف عندما تنتقل إلى العالم الروائي. تختلف عن صيغتها الأولى والمعروفة للكاتب وللناس. هذا إن كان في الكتابة الروائية أحداث ووقائع وشخوص ذات أصول أو جذور موضوعية. وهذا الاختلاف تحديداً هو ما يمكن تسميته بالكذب الروائي. والكذب هنا، لا يتناول الشكل الخارجي والملامح والتفاصيل فحسب، بل يتعدى ذلك كله ويصل إلى الجوهر، حيث تتحول الشخوص والوقائع روافع أساسية في البنية الروائية من جهة، وعلامات وإشارات للأفكار التي يريدها الروائي، أو يناقشها ويطرحها في عالمه الفني. الكذب هنا حرفة الكاتب المبدع الذي لا يكتفي بنقل الحكايات وتسجيلها وتوثيقها، لئلا يتحول إذ ذاك من سارد فني إلى مؤرخ وموثّق ومجرد ذاكرة. والكذب كما خبرناه في أعمال روائية، هو ما يساهم في تكوين بنية فنية تشبه الواقع الموضوعي ولا تشبهه! وينطبق هذا على نمذجة الشخوص، وتنميتها، وإعادة إنتاجها بما ينسجم ورؤية الكاتب الى الحياة ومفرداتها كلها، وليس بما ينسجم مع الحقيقة الموضوعية المعروفة في كثير من الحالات للكثيرين. فحكاية الفلسطينيين المتسللين إلى الكويت في الخمسينات من القرن الماضي إثر النكبة، كانت شائعة ومألوفة بين اللاجئين، إلى حد جعل عدداً ممن عرفتهم يقولون إن غسان كنفاني كتب عن آبائهم أو إخوتهم أو أصدقائهم. وكما نلاحظ، تحولت الواقعة الموضوعية نموذجاً فنياً وسم تراجيديا اللجوء الفلسطيني، وحوَّله من مجرد نفي ومفارقة للوطن والرحم الأولى، إلى فكرة شكسبيرية بامتياز، إذ تمكنت تراجيديا اللجوء الفلسطيني من الحفر عميقاً في الوعي العربي، وفي الذاكرة الجامعية الفلسطينية والعربية. وبالعودة إلى الحكاية الأساسية في رواية كنفاني"رجال في الشمس"، لم يكن من الضرورة أن يسجل غسان رحلة العبور الصحراوية كما خبرها الآخرون، وكما تناقلتها الألسن. عاد غسان بنا إلى طفولة بعض الرجال، وإلى حكاياتهم الأولى. أي أنه لم يبدأ من الصفر الموضوعي لرحلة العبور، بل من المربع الفني للشخوص والحكايات التي شكلت العمود الفقري للرواية. ولم يكلف أحد نفسه عناء السؤال فيما لو كانت الدقائق التي حددها أبو الخيزران كافية حقاً لموت الرجال في خزانه! أما الكذبة الأخرى فهي تتعلق بصرخة أبي الخيزران الشهيرة: لماذا لم يدقّوا جدران الخزان؟ وهي كذبة صارخة، لأنه لم يكن في وضع يسمح له بسماع دقات جدران الخزان لو حدثت. لكن الكذبة جرى توظيفها كي يتحرر أبو الخيزران من المسؤولية، بصفته"قائداً"ومسؤولاً عن مصير الرجال في رحلة العبور. من هذا الباب، باب الكذب الروائي، يمكننا الدخول إلى العالم الروائي لكثير من الروائيين الذين يجرى تصنيف أعمالهم روايات تاريخية، أو تسجيلية، أو وثائقية، أو سير/ذاتية! فهذا التصنيف يعتمد في المقام الأول بعض المعلومات التاريخية الموضوعية في العمل الروائي، الذي يجري تعميمه على الرواية كلها، بشخوصها وحكاياتها وأفكارها، وهو ما يمكن تسميته بالاختزال أو التبسيط أو التصنيف الموضوعي الذي يعد أردأ أشكال النقد في الأدب كله. وفي أحيان كثيرة، يتكئ بعض النقاد على مقولة للروائي، أو تصريح أو إشارة عابرة في حوار صحافي، كما حدث مع الروائي غالب هلسا حين أشار إلى أنه هو ذاته بطل أعماله الروائية. وما فهمه بعض النقاد والدارسين، وفسره بكونه برهاناً دامغاً على أن غالب هلسا إنما كان يكتب سيرته الذاتية! بينما تبدو رواياته في القراءة الفنية الأكثر عمقاً ودقة، من أكثر الأعمال الروائية مقدرة على الاستجابة للتخييل الفني، الذي يمتلك مقداراً كبيراً من الإيهام بالموضوعية والواقعية. وهي حال فنية لا يتمكن منها أي روائي بسهولة ويسر. فقد تمكن ناقد وروائي كبير مثل إدوار الخراط من اكتشاف لعبة غالب هلسا، حين أشار إلى أن الكتابة في رواية"الروائيون"شكلت بديلاً لممارسة الحياة اليومية، الأمر الذي تسبب في الخلط بين العالمين الفني والموضوعي، وبين الشخصيتين، المؤلف والبطل. وفي ظني أن هذا الخلط هو ما تتأسس عليه لعبة الإيهام في الكتابة الروائية أي الكذب! ومن أشكال الكذب الأخرى في الكتابة الروائية، ما يقوم على تحويل الذات الكاتبة إلى موضوع في العمل الروائي، إذ يتم التلاعب بضمائر السرد، وإيجاد مسافة بين الكاتب/الشخص، والشخصية. ما يمنح الروائي فرصة التحليق بعيداً إلى حد غرائبي حيناً، وفي الوقت ذاته فرصة الإيهام بكتابة سيرة ذاتية، أو سرد وقائع موضوعية. لكن ذلك الكذب كله عند الروائيين، مرتبط بمقدرة الروائي على الإمساك ببنيته الروائية، والتحكم بخيوط شخوصه الفنية، على رغم ما يظهر أحياناً من إشراقات وومضات غير متوقعة حتى للكاتب ذاته، ما يعني أن الكذب ليس ممارسة واعية فحسب، إنما يتعدى ذلك إلى ما هو مسكوت عنه في النص. وما يميز هذا المسكوت عنه في النص، أنه الأكثر تعبيراً عن جوهر الكاتب، والأكثر ثراء وجرأة ومغامرة. والأهم من ذلك كله، هو أنه الأكثر تعبيراً عن رؤية الكاتب للحياة، ولفهمه الحقيقي، ولوعيه غير الزائف! وفي إيجاز، فإن العمل الروائي عمل فني، يلعب المخيال الدور الرئيس في بنائه وإقامته. وما يعني أن العمل الروائي الذي يتناول مدينة أو مكاناً أو حكايات وأحداثاً معروفة، إنما هو يكتب مدينته الخاصة، ومكانه الخاص، وحكاياته وأحداثه الخاصة، حيث تصبح القاهرة في العمل الروائي قاهرة أخرى خاصة بالكاتب... أي أنها تتحول من القاهرة المعروفة كمكان جغرافي وتاريخي، إلى قاهرة الكاتب التاريخية والجغرافية والثقافية، قاهرة تنجح في التنحي عما هو مألوف ومكشوف، لمصلحة ما هو غامض وسري ومفاجئ، سواء ما تعلق بالشخوص أو الحكايات والعلاقات والمفاهيم والقيم. هكذا يكذب الروائيون، كي يكتبوا أمكنتهم ووقائعهم، وكي يرسموا شخوصهم، وينتجوا أفكارهم ويعمموا رؤاهم، حتى لو كان كل ما يكتبونه معروفاً في ظاهره لدى الآخرين.