لا يصدق شارون كل الاتفاقات التي أبرمت. يراها مجرد حبر على ورق. وان ما جاء فيها لا يعكس النيات الحقيقية للأطراف الاخرى التي وقعت مع اسرائيل. لا يرى الضمانة في النصوص سواء كانت اتفاقات ثنائية ام قرارات دولية. المظلة الوحيدة التي يثق بها ويطمئن اليها هي قوة الجيش الاسرائيلي. لا يثق ابداً ان الفلسطيني يقبل التعايش مع اسرائيل بفعل قناعته بمثل هذا التعايش. يرى في كل توقيع من الطرف الآخر رضوخاً موقتاً في انتظار الفرصة الملائمة للانقضاض. لا يعتقد بأن اتفاق اوسلو غيّر مشاعر الفلسطينيين. وجاءت الانتفاضة الحالية لترسخ اقامته في مشاعر العداء والشكوك المتواصلة والحذر الدائم. لا يرى حلاً الا في ظل وجود اسرائيل قوية. قوية الى درجة خلق يأس حقيقي لدى الفلسطينيين. يأس من قدرتهم على زعزعة اسرائيل او اقتلاعها. ولعل اخطر ما يراه في الانتفاضة الحالية شعور الفلسطينيين بقدرتهم على تهديد أمن الاسرائيليين واظهار ان الدولة العبرية لن تنعم بأمن واستقرار ما لم ينل الفلسطينيون حقوقهم. جاء أرييل شارون الى رئاسة الحكومة لقلب المسار وتغيير الصورة. راهن على قدرة الآلة العسكرية المتطورة على إشعار الفلسطينيين ان لعبة تهديد أمن الاسرائيليين باهظة الثمن وتفوق قدرتهم على الاحتلال. وراهن على تغيير الصورة التي رسختها عملية انسحاب الجيش الاسرائيلي من جنوبلبنان بلا ثمن مقابل وتحت ضربات المقاومة. وليس سراً ان شارون حقق شيئاً من النجاح على الجبهة مع لبنان. تمكن من إسكات الجبهة، على الاقل في الوقت الحاضر، بعدما بدا مستعداً للذهاب الى حد مواجهة عسكرية مع سورية على الأراضي اللبنانية. لكن مثل هذا النجاح موقت. ويستطيع "حزب الله" وضعه تحت عنوان عدم اعطاء اسرائيل ذريعة لتحويل الأنظار عما يدور في الاراضي المحتلة. والأكيد في هذا السياق ان معركة شارون الكبرى ليست في لبنان او مع لبنان. ذهبت المواجهة الفلسطينية - الاسرائيلية مع الانتفاضة الحالية الى ابعد مما كان متوقعاً. صارت العودة منها صعبة. لا يكفي الحديث عن وقف لاطلاق النار، ولا يكفي تدخل مدير ال "سي. اي. ايه" والصياغات المتعلقة بتوصيات لجنة ميتشيل. لا يستطيع عرفات اعادة شعبه من الانتفاضة للاقامة في ظل وقف النار. تحتاج العودة الى ما هو اكثر من تعهد بالامتناع عن بناء مستوطنات جديدة او توسيع القائم منها. تحتاج الى أمل بالعودة الى عملية السلام وفي مناخات تسهل التقدم فيها. وهنا تكمن العقدة فشارون ليس الطرف الصالح لاتخاذ "القرارات المؤلمة" التي لا بد منها. وضعت الانتفاضة الفلسطينية والاسرائيليين في مناخ جديد. تجاوزت الأحداث حبر اوسلو وما تضمنه من وصفات وضوابط. عاد النزاع الى عمقه وجوهره. لهذا لم يتردد شارون في القول في احتفال عسكري "ان ما يحصل يدل على ان حرب الاستقلال لم تنته بعد ... ما زال نضالنا في سبيل حقنا في الوجود مستمراً فهذا الوجود يعاد النظر فيه باستمرار". يشبه كلام شارون الى الاسرائيليين نداء جنرال قلق من ارض معركة حاسمة. انه نوع من المطالبة بالحصول على تفويض لاتخاذ قرارات بحجم الاخطار التي يراها. وفي هذا النداء محاولة لتوحيد الاسرائيليين واعادتهم الى رهان وحيد هو الرهان على جيشهم. نجحت الانتفاضة في اعادة النزاع الى جوهره وعمقه. وبديهي ان يشعر شارون بالقلق حين يقرأ ان مستوطناً من كل خمسة يفكر في مغادرة الاراضي الفلسطينية. وان بعض المستوطنين يتركون منازلهم ليلاً ويفضلون النوم في العمق الاسرائيلي الذي بدا هو الآخر معرضاً لضربات الانتفاضة. لم يُسقط شارون ما سماه سياسة "ضبط النفس". وواضح ان هذه السياسة مكنت اسرائيل من تحقيق مكاسب اعلامية وديبلوماسية. ولعل شارون يفضل انتظار نتائج رحلته الاميركية قبل الخروج على هذه السياسة والعودة الى الرهان مرة اخرى على آلة البطش القادرة على الحاق أفدح الأضرار بالفلسطينيين من دون ان تتمكن من اخضاعهم. وهكذا تبدو المنطقة مرشحة للمزيد من التوتر الا إذا اختارت الادارة الاميركية وضع يدها على الملف وبما يتخطى مجرد البحث في تثبيت وقف اطلاق النار.