يعرف كتاب هشام جعيط "الفِتنَة: جدلية الدين والسياسة في الاسلام المبكّر" نجاحاً واسعاً، فقد أعادت أخيراً "دار الطليعة" في بيروت، اصداره للمرّة الرابعة خلال عقد واحد 1991، 1993 و1995. ومما لا شك فيه ان لموضوع الكتاب دوراً في هذا النجاح، لكن عمق المعالجة التي يتميّز بها المفكر والمؤرخ التونسي، تجعل منه مؤلّفاً مرجعياً على أكثر من صعيد، في سياق الأبحاث والدراسات التي قاربت الموضوع، سواء باللغة العربية او بالفرنسية التي وضع فيها جعيط معظم كتبه فيها، ومنها "الفتنة" الذي قام بترجمته الى العربية الدكتور خليل أحمد خليل. ولقارئ مؤلفات هشام جعيط الذي حقق في خلال مسيرته العملية مكانة مرموقة بين المثقفين والمفكرين العرب، ان يدرك ان علميته ودقته وارتباطه العضوي بالثقافة العربية الاسلامية، من العوامل التي حصّنت الباحث من الانزلاق الى مستنقع السياسة والايديولوجيات. وكتاب "الفتنة" ينتمي الى أحد اتجاهين في مسار هشام جعيط، وهو اتجاه نحى فيه منحى المؤرخ الصارم للاسلام المبكر. وبذلك يلتقي مع "الكوفة ونشأة المدينة العربية الاسلامية" 1986. اما الاتجاه الثاني فهو فكري فلسفي عالج فيه القضايا الكبرى المطروحة على الضمير العربي في السياسة والمجتمع والدين، كما في كتبه "الشخصية العربية الاسلامية والمصير العربي" و"أزمة الثقافة الاسلامية". ولا شكّ في أن سعة الاطلاع على المراجع العربية والغربية، والالتزام بمنهجية تاريخية، مكنتا المؤلف من الابتعاد عن التأويلات الواهية... خصوصاً أن الفتنة ما تزال حاضرة في الوعي الاسلامي، كعلامة تاريخية كبرى، من دون أن تكشف آلياتها وتطوراتها. ويطرح جعيط مجموعة من الاسئلة : ما الذي كان يسري تحت "الفتنة"؟ هل يمكننا ان نتفهمها بتحليل دقيق نقدي للمصادر؟ ما هي التغيرات الاجتماعية، وتصورات السياسة والقوى الدينية على السواء؟