في الشرق الاوسط يبقى باب المفاجآت مفتوحاً. أرض الأوهام خصبة، وآبار الخوف قادرة على ارتكابات فظيعة. لهذا حين اعلنت نتائج الانتخابات وتوّج ارييل شارون رئيساً للوزراء بدا ان الناخبين قدّموا هدية مسمومة لاسرائيل وحلفائها وخصومها. لا بل بدا ان هذا الجنرال الذي صنع مسيرته الدامية في عقود القرن الماضي نجح في ارتقاء سلالم الخوف وتسلل الى قرن لم يعد يتسع لذوي التاريخ المُثقل بالمجازر والرهان الصارخ على القوة وحدها. ولا غرابة ان تثير إطلالة شارون ذكريات الماضي بكل شجونها خصوصاً ان تصريحاته ومواقفه لم تكن احياناً أقل قسوة من حروبه. هدية مسمومة لاسرائيل لأنها اختارت مداواة مخاوفها بما يعزّز المأزق ويُضاعف المخاوف ولأنها عادت الى تجريب ما جرّبته سابقاً. طبعاً مع الفارق ان بعض الأوهام التي انبعثت لم تعد قادرة على العيش طويلاً. فوهم شطب الشعب الفلسطيني من المعادلة سقط الى غير رجعة. وحري بشارون نفسه ان يدرك هذه الحقيقة. فهو راقب من مبنى في بيروت في 1982 صعود ياسر عرفات وأفراد المقاومة الى السفن. وظن يومها ان رحلة التيه ستبدّد المقاومة وستضمن ضياع قضية الشعب الفلسطيني الموزّع بين المناطق المحتلة والمنافي. لكن عرفات يقيم اليوم على ارضه. على الارض الفلسطينية. وهو يفاوض من هناك لاستعادة الأرض التي سيُعلن قيام الدولة الفلسطينية عليها. والأمثولة الصارخة من المسافة الممتدة بين حصار بيروت والانتخابات التي أنجبت شارون هي استحالة اعادة عقارب الساعة الى الوراء وإن أمكن ارتكاب مغامرة جديدة بأوهام قديمة. واضح ان شارون جاء من الخوف. خوف الاسرائيليين الذين رأوا ايهود باراك يقدّم تنازلات بلغت في نظرهم حدّ التفريط فيما أدت الانتفاضة الى إثارة الذعر لدى المستوطنين وأيقظت هاجس انعدام السلامة والامن لدى اكثرية الاسرائيليين. كشفت رقصة باراك التي لم تكتمل ان السلام الحقيقي متعذّر من دون تفكيك أحلام وأوهام كان الاسرائيليون اعتقدوا انها فرضت نفسها ولم تعد قابلة للانحسار او الالغاء. وأظهرت تجربة باراك عملياً استحالة انتزاع سلام دائم، بمعنى انهاء النزاع، مع احتفاظ اسرائيل بالقدس كاملة "عاصمة أبدية" لها، ومن دون مناقشة "حق العودة". وواضح ان العودة الى طرح "حق العودة" جدّدت الحديث حول شرعية وجود اسرائيل نفسها فضلاً عن انها جعلت المستوطنات أسيرة هاجس الهجمات والتفكيك. ولم يكن الخوف مقتصراً على الجانب الاسرائيلي فحين دنت ساعة الحقيقة اعلن عرفات ان القدس موضوع فلسطيني وعربي واسلامي وان أي تنازل فيه يحتاج الى مظلة واسعة وتفويض. وبدا ايضاً ان المفاوض الفلسطيني لا يستطيع التخلي عن "حق العودة" في مقابل كامل غزة و95 في المئة من الضفة. وهكذا ظهر ان إنهاء النزاع متعذّر من دون الأخذ في الاعتبار الحقوق التاريخية وقرارات الشرعية الدولية وأي قبول جدي لها يفكّك الأوهام الصهيونية وينذر بتقليص اسرائيل خصوصاً اذا التفتنا الى ما أصاب علاقة الدولة العبرية بفلسطينيي 1948. جاء شارون من الخوف لكنه لا يملك حلاً. فماذا يستطيع الجنرال ان يفعل بالانتفاضة؟ وكيف يمكن اقناع المفاوض الفلسطيني بالعودة الى التفاوض وتجاهل ما قدّمه باراك وهو لم يكن كافياً؟ وكيف يمكن إقناع سورية ولبنان بالتفاوض في ظل المواقف المعلنة لشارون؟ لا الدخول في حرب جديدة ممكن او مجد ولا انهاء الانتفاضة ممكن، أي ان ورقة القوة معطّلة سلفاً. وفي المقابل تبدو خيارات شارون الاخرى محدودة وصعبة. فتشكيل حكومة "وحدة وطنية"، وهو يبدو مستبعداً، يضرب رصيد شارون لدى المتشددين، والاستناد الى الصقور ينسف فرص التفاوض ولا يضمن للحكومة استقراراً امام الكنيست. يضاف الى ذلك ان رئيساً للوزراء اسمه ارييل شارون سيصعب تسويقه في المنطقة وخارجها حتى ولو دعت الولاياتالمتحدة الى اعطائه "فرصة". واضح ان انتخاب شارون يشبه زرع عبوة في قلب عملية السلام. ولا شيء يدعو الى الاعتقاد ان الجنرال المفرط في الوحشية سيتحول في مقعد رئيس الوزراء الى حكيم مستعد لاتخاذ "القرارات المؤلمة" التي لا بد منها لابقاء عملية السلام حيّة والسعي الى استكمالها. ماذا يفعل العرب؟ لعل أفضل الخيارات هو استكمال ترتيب البيت العربي وإبقاء جذوة الانتفاضة حيّة وتأكيد الخيار الاستراتيجي بالسلام وارساء حوار مصالح مع الادارة الاميركية الجديدة. والأكيد ان انتظاراً من هذا النوع لا يوفّر لشارون فرصة المزيد من تدمير فرص السلام يكفي لجعل رقصة شارون قصيرة الأمد