ما من مدينة أقام بها، أو مر بها الإسلام، إلا وفيها من هذه الصروح الممتدة أعناقها للسماء بشيء من إبتهال وكثير من ضراعة. تربط عمارة المساجد وشيجة واحدة، على رغم تباعد الأمصار واختلاف الأعراق: - الصحن أو الباحة حيث يجتمع المصلون للتهيؤ لأداء الواجب. - المحراب، الذي تكون دائماً وجهته "القبلة" في مكةالمكرمة. - المنبر، وعليه يجلس أو يقف الخطيب أو الإمام. ولأن النظافة والتطهير من عناصر الصلاة، لذا فتوفير الماء لازمة من لوازم المسجد، نافورة أو بركة أو صنابير ماء قد تتوسط الباحة أو تتخذ ركناً منها. - القبة، من عناصر المسجد. لا سيماً وان الكثير من المساجد تضم رفات الخلفاء أو الامراء أو الأئمة. - المنارة أو المنائر. مشهد جوهري من عمارة المسجد. وعلى رغم من إنتشار مكبرات الصوت عند الآذان، وإنحسار الحاجة للصعود نحو قمة المنارة، إلا ان المنائر ظلت سمة مهمة من سمات بيوت الله. المسجد النبوي هذا مؤول للروح لا موطناً للقدم. وهو من الأمكنة التي لا تخرج منها إلا إليها. أهذه المعجزة المعمارية التي تبسط بركاتها على مليون مسلم وتحتل مساحة مليوني قدم مكعب، حقاً، هي إبنة ذاك المسجد، الشديد التواضع المحسور المساحة، الذي جبل طينه الرسول الكريم بيديه العاريتين. جذوع النخل أعمدته والكرب جدرانه والسعف سقفه والتراب والماء ملاطه واللبن حجارته. أحقاً... الدرب يبدأ من هنا. والنهايات ممتدة الى ما شاء الله. رحلة مديدة لا يقاس طولها بالأميال ، ولا مسيرتها بالسنين بداية لا أغرب منها الا غرابتها وإعجازها. نما المسجد الصغير كشجرة مباركة. وكان الخلفاء ومن تولى بعدهم الإمامة يتبارون في توسعة البناء ووقايته من الاندثار. من كان يصدق يومئذ، أن تلك النواة المباركة، ستوغل في شعاب الارض من القطب الى القطب. تمتد، وتعشوشب وتطرح أطيب الثمار من فكر وفلسفة وفقه وتشريع وعلوم ورياضة وقوانين وإعجاز لغة؟ كان البناء يتوسع ويتوسع، بتواضع وبساطة. وفي واحة من الإضافات ضم رفات الرسول الكريم وبعض الصحابة والخلفاء ابو بكر الصديق وعمر بن الخطاب. ظل المجد لردح من الزمن على حاله، الى أن جاء السلطان عبد المجيد فوسع في جنباته ورمم ما تهدم من جدرانه. وما آن لبوادر الإستقرار واستتاب الأمن أن تتحقق على يد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود. حتى أخذت المدينة ومثلها بقية المدن تحصد ما تحقق من امان وازدهار وثراء وكان اول من حصد الثمار المسجد النبوي. ففي عام 1950، وضع ونفذ مشروع ضخم لتوسيع المسجد وإعداده لإستيعاب الحشود الهائلة من الحجيج التي تتوافد لاداء المناسك في موسم الحج وعلى مدار العام، حتى بلغت اعدادها 100 ألف زائر العام 1955. ارتفع عدد الحجاج العام 1970حتى بلغ مليون نسمة، وكان لا بد من إيجاد سبل لاستيعابهم وخدمات تلبي حاجاتهم، في ذلك العام أحس الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز بما يعانيه الحجيج من ضيق في هجير الصيف، فأمر برفع سقائف للوقاية من الحر والشمس. وفي ظل الزخم الهائل الذي يتنافى كل عام. أوعز خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز لمجموعة من كبار المعماريين، لوضع تصاميم مبتكرة لتأمين راحة الحجاج وسلامتهم، ووضع مشروع الثلاث سنوات دراسة لوضع الخطط والخرائط والتصاميم. وما أن أقر المشروع حتى بدأوا بتنفيذه عام 1985 وأعلن عن اتمامه عام 1922. بلغت مساحة التوسعة المضافة حوالي 1078 مليون قدم مربع، تسمح لصلاة 700 الف مصل دفعة واحدة. وبلغت تكاليف المشروع حوالي سبعين بليون ريال سعودي. شملت الاضافات ثلاث جهات الحرم، وسقائف "مظلات" واضافة 27 صحناً مشروعة نحو السماء. هذه السقائف تمتد وتنحسر أوتوماتيكياً حسب تقلب الطقس والأنواء، من مطر وحر وبرد وريح. تتيح للمصلين أداء الشعائر بعيداً عن تقلب الأنواء. يتحكم في طي السقائف ونشرها مكائن الكترونية ضحمة تحتل مساحة من السرداب. كذلك تتحكم تلك المنظومة العلمية الجبارة بأمور التهوية الصحية، من تبريد وتدفئة وتنقية هواء ولعل تلك الشبكة من المعدات هي الاولى من نوعها في العالم. فلا مكان على هذه المعمورة يجتمع فيه مليونا مسلم يصلون في وقت واحد. ويقيمون الشعائر في وقت واحد من مكان بعيد، يمتد لبضعة أميال خارج المسجد، ثمة مكائن تضخ حوالي 000،17 غالون ماء. مبرد في الدقيقة الواحدة، عبر مضخات الى خزانات في السرداب حيث تتولى شبكة التهوية ضخ الهواء المبرد عبر عملية معقدة التركيب. كما أضاف المشروع ستة منائر جديدة على الأربعة القائمة طول كل منها 360 قدما، مجللة بصفائح من النحاس يبلغ وزنها خمسة أطنان، ويتوقع أن يستوعب المسجد مليوني زائر في مقتبل الايام. الأزهر...ابن القاهرة تذكر القاهرة بصروحها الأثرية، فيبزغ الأزهر من بينها، كواحد من الشواهد الأثرية، ليس بأعمدته المميزة ومعماره الفريد، وما حواه من كنوز العمارة الاسلامية، فحسب بل بما سطع فيه، ومن خلاله، من قناديل المدارس والعلوم الفقهية والتشريعية التي أرسلت قواعد مناهج ومذاهب واتجاهات لا تزال تصطرع لحد الآن. يقترن إنشاء الازهر بأنشاء القاهرة نفسها عام 361ه 972م يغلب عليه طابع العمارة الفاطمية التي اهتمت بالتفاصيل، قدر اهتمامها بجوهر الهيكل العام. الخليفة الفاطمي المعز لدين الله الذي يقترن انشاء القاهرة بإسمه يتدارس وقائد جيوشه "جوهر الصقلى" انشاء معهد جامع، يطلق عليه اسم الأزهر، تيمناً بإسم فاطمة الزهراء كريمة الرسول"ص" وقد جمع في تصميمه بين تصاميم عدة من بينها جامع عمرو بن العاص، وإبن طولون، وغلبت عليه ملامح المعمار الفاطمي الذي يضم بطابعه الكثير من معالم البناء في العالم العالم الاسلامي قاطبة. حمل الأزهر منذ إنشائه مشعل العلم، وكان إلى جانب وظيفته الدينية والشعائرية والروحية، مؤئلاً لتجميع طلاب العلوم والأساتذة من عموم العالم الاسلامي ولعدة قرون، بصفته التعليمية والتدريبية يعد من أقدم الجامعات بهذا الاتجاه. يذكر إن أول محاضرة القيت فيه كانت عام 875م ونظراً إلى مكانته الدينية والعلمية فقد اقتصر اليوم على المصلين فقط وأداء الشعائر، فيما توعت حوله الكليات من هندسة وطب وعلوم ولغات . يضم المسجد خمس منائر عاليات دقيقة الصنع. يحيط كلاً منها "درابزين" عويص التركيب عجيب البناء. وللمسجد ستة مداخل مع مدخل رئيسي يعود الى بوابة الصحن الصغير حيث تقبع مكتبة من أكبر المكتبات في العالم فيما ارتفع المحراب على دعامات ضخمة وأعمدة من المرمر الخالص يبلغ عددها حوالي 300 عمود وسارية وحوفظ على أصالة الخطوط الكوفية والنقوش عليها على رغم أن المحراب نفسه قد جدد ورمم مرات عديدة وخلال عصور متعاقبة. مسجد الكاظمين أشهر المساجد في الجانب الغربي من بغداد، وابهاها، واسع الاكناف، عالي المنائر يتسع صحنه لصلاة الآلاف ويعتبر آية من آيات العمارة الاسلامية. ويتجلى بهاؤه بما تتوشح به سقوفه وابوابه وما تغشى جدرانه من حلل البللور والذهب والفضة، وعشرات الآلاف من المرايا الصغيرة، يخطها النقوش الزخرفية، وتزينها الآيات القرآنية. جاء على ذكره ابن جبير كأحد المشاهد الفريدة التي مر بها، منائره الأربع يبلغ طول الواحدة خمسون ذراعاً، الى جانب منائر أخرى أقصر قامة، وكلها مكسوة بالذهب الخالص، تتضارع وضياء الشمس عند الظهيرة والعصر. وينسب للسلطان محمد شاه، رأس الدولة الغاجارية، فكرة تزيين المنائر والقبب بالذهب. سمي المسجد بالكاظمين، لأنه يضم رفات الامام موسى بن جعفر الصادق، الذي كان يسمى بالزاهر، والصابر، والنفس الزكية، لكنه اشتهر بالكاظم، لكثرة كظمه الغيظ وعفوه عن الناس وصبره على ما لقي من عنت وأذى. ودفن الى جانبه ولده محمد الباقر بن زين العابدين، لذلك سمي بالكاظمين، ويذهب مؤرخون آخرون الى ان المسجد مثوى لرفات الخليفة الامين وامة زبيدة، والخليفة المنصور. حين استباح هولاكو بغداد، أمر بنهب المسجد وحرقه-عام 656ه-1258م ويذكر ان الغنائم التي نهبها المغول لم تكن تقدر بمال، وكانت كواهلهم تنوء بما حملوا من نفائس وجواهر وفرش، حتى انهم صاروا يطعمون سروج خيولهم بالذهب واللؤلؤ والاحجار الكريمة. المسجد الأقصى وقبة الصخرة ها نحن أمام أثر سام "نحسه" أكثر مما هو معمار نراه، شاهد عدل يمثل أرفع المقامات التاريخية والدينية والمعمارية على مر العصور. لم يبهت بريقه على مدار الثلاثة عشر قرناً وتزيد، استمد اسمه من الآية الكريمة "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى، في تلك الليلة المباركة المعروفة بليلة الأسراء. أهمية القبة لا تنبع من معمارها أو وشيها أو زخارفها، بل من قدسيتها وقدمها ورسوخها، وتمردها على الموات ومحاولات التخريب والمحق، وعلاقتها بالأديان السماوية الثلاثة. معمار القبة فريد، فلها بطانة وقشرة، مرفوعة على عمد ودعامات يتجاوز عددها الأربعين عموداً وسارية، وما يزال المشهد يحمل الكثير من ملامح معمار العصر الأيوبي. واذا كان المقام الرفيع هو ذاته الذي صلى فيه الخليفة عمر ابن الخطاب، عندما زار بيت المقدس، وسلم مفاتيح المدينة، فان المسجد والقبة ليسا كذاك الذي كان، ولا ذاك الذي عمره الخليفة عبد الملك بن مروان، ولا من تلاه من خلفاء المسلمين فيما بعد، فقد حاقت بالمسجد والقبة الكوارث والخطوب، فضربته الزلازل، وتعهدت الحروب التي أشعلتها البشر بالباقي. حلت الزلازل بالمنطقة أربع مرات في عصور المنصور والمهدي والمأمون والخليفة الفاطمي الظاهر. وفي كل مرة، يعاد للمسجد بعض رونقه كيما تستمر الصلوات في محرابه، ثم تعرض للتقويض على يد الفرنجة في الحروب الصليبية، حيث جعلوه مربطاً لخيولهم ومأوى لجنودهم ومشاجب لأسلحتهم. ثم أعيد بناؤه بأمر من صلاح الدين الأيوبي إلى أن أحرق من قبل الاسرائيليين عام 1969، ليعاد تجديده بمبادرات من الدول العربية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية. تركيا... منائر الكبرياء من أيما مكان دلفت الى المدن التركية، يطالعك صرح جامع أونصب منارة. فالجوامع في تركيا-واسطنبول على وجه الخصوص- احدى معالمها المميزة، ومعظمها آية في الروعة والفخامة واستنطاق المعادلات الجبرية والهندسية وقمم المعمار في العالم. الأزرق، والسليماني، والسليمانية أبرزها. تنتصب منائره الأربع بكبرياء واعتداد يبلغ حد الزهو. ولا عجب، فهو مدرسة معمارية بحد ذاته، أبدع مهندسه سنان ومعاونوه في تقطير كل فنون العمارة السائدة آنذاك. ففي القرن التاسع عشر، وبعد انهيار حكم الساجقة وأيلولة الحكم لآل عثمان. بدأت خميرة العمارة البيزنطية والسلجوقية والفارسية، تتفاعل، فجادت تلك الجوامع بما هي عليه من فخامة وروعة أبهة. يبدو البناء من بعيد وكأنه معلق في فضاء أو عائماً فوق سديم. لكنه هندسياً، راسخ رسوخ جبل، تسنده دعامات غليظة وركائز غاية في المتانة، في توفيق هندسة مذهل "تركيب كتلة دائرية كروية محكمة، داخل مربع محكم". يبلغ ارتفاع القبة 181 قدماً وعرضها 84 قدماً، ترفعها قوائم اربع مزدانة. واذا كان المهندس سنان، قد تأثر بمعمار الكنائس البيزنطية السائدة، وأبرزها كنيسة "سانت صوفيا" فانه استقل بطابعه الخاص، وتميز بمناراته الأربع ذات "النطاقات" "الدرابزين" تحيط بالمنائر احاطة السوار بالمعصم، والنوافذ التي أربت على 140 نافذة مزدانة بزجاج ملون يعكس النور في المساء والضياء عند الصباح بألوان لا عد لها ولا حصر. ويقال أن منارات الجامع الأربع تشير الى أن السلطان سليمان القانوني هو رابع سلاطين بني عثمان والنطاقات العشر، أو أحزمة المنارات تدل على كونه السلطان العاشر في السلالة العثمانية. ايران ان رصد الجوامع والمساجد في ايران يحتاج لضليع في العد يحصى عددها صحيحاً في هذه المدينة أو تلك. واذا كان مسجد الجمعة في أصفهان أقدمها-بني في القرن العاشر الميلادي- فان أحدثها ما يزال على قيد البناء. الصحن الرئيسي في مسجد الجمعة يعتبر أكبر باحة لجامع في ايران، تتوسط الصحن نافورة تتوسط بركة من الرخام، مزدانة حفافيها وجدرانها بنقوش الورد والآس، والطيور والطواويس، يترجرج مرآها كلما هبت نسمة مشاكسة على وجه الماء الساكن. يضارع مسجد الجمعة مسجد الشاه في أصفهان أيضاً. ويعتبر أكبر الجوامع وأضخمها، ويؤمه عدد غفير من المصلين في أيام الجمع والأعياد والمناسبات الدينية، ومحرابه- كما في كل بيوت الله- متجه الى القبلة في مكة. بدأ العمل به عام 1612. لكن التوسعة والاضافات والكساء والترميم ما برحت قائمة لحد الآن. واذا كان بناء الايوان والصحن تقليدياً، الا أن ما يكسو جدرانه وسقوفه وباطن قبته وأروقته من فنون النقش والحفر والخطوط والآيات القرآنية والمنمنمات وسجف المرايا والبلور، ونافورته الدائمة التدفق وبركته الملأى بالماء على مدار السنة وحشود المصلين فيه الى مصاف الجوامع الكبرى