وزير الطاقة يجتمع مع نظيرته الأمريكية ويوقّعان «خارطة طريق» للتعاون في مجال الطاقة    «الداخلية» تطلق ختماً خاصاً للمستفيدين من مبادرة «طريق مكة»    تحت رعاية ولي العهد.. انطلاق الملتقى العربي لهيئات مكافحة الفساد ووحدات التحريات المالية    «أثر نلمسه».. إصدار يرصد إنجازات التحوّل الوطني    "GREAT FUTURES" تعزز الشراكة الاستراتيجية بين المملكة وبريطانيا    واتساب يختبر ميزة تلوين فقاعات الدردشة    المزروع يشكر القيادة بمناسبة ترقيته للمرتبة 14    «نافس».. منافع لا تحصى لقياس الأداء التعليمي    المنتخب السعودي للعلوم والهندسة في سباق للمجد.. الجمعة    "تاسي" أحمر والراجحي وأكوا باور يرتفعان    الشيخ خالد بن حميد يشكر القيادة الرشيدة بمناسبة ترقيته للمرتبة الخامسة عشرة    لقاح جديد لحمى الضنك    نائب أمير الشرقية يستقبل منتسبي "طويق"    واشنطن مستمرة في دعم إسرائيل بالأسلحة    ولي العهد يهنئ رئيس وزراء سنغافورة    خادم الحرمين يصدر أوامر ملكية    قمة البحرين ظروف استثنائية لحلحلة الأزمات    بجامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل يختتم دورة "تدقيق سلامة الطرق    المدربات السعوديات يكتسبن الخبرة الإفريقية    الأهلي يتمسك بذهب السيدات    أمير منطقة تبوك يتفقد مبنى مجلس المنطقة وقاعة المؤتمرات    فالفيردي: نلعب باسترخاء كبير في الوقت الحالي ونتطلع لنهائي دوري الأبطال    حالة رئيس وزراء سلوفاكيا حرجة بعد تعرضه لمحاولة اغتيال    الأحزاب المصرية: تصريحات متطرفي إسرائيل محاولة يائسة لتضليل العالم    افتتاح منتدى كايسيد للحوار العالمي في لشبونة    غوارديولا: لولا تصدي أورتيغا لكان أرسنال بطلا للبريميرليغ    4 أحزمة ملاكمة تنتظر من يحملها على أرض "المملكة أرينا"    القبض على مقيم لارتكابه أفعال خادشة للحياء    رئيس سدايا: السعودية مثال دولي في الذكاء الاصطناعي المسؤول والأخلاقي    «البلسم» تختتم حملتها الطبية في اليمن وتنجح في إجراء 251 عملية قلب مفتوح و«قسطرة»    زين السعودية تعلن عن استثمارات بقيمة 1.6 مليار ريال لتوسعة شبكتها للجيل الخامس 5G    «الموارد»: تمكين 22 ألف مستفيد من «الضمان» في سوق العمل خلال الربع الأول من 2024    الجامعة العربية تدعو مجلس الأمن لاتخاذ إجراءات سريعة لوقف العدوان الإسرائيلي ضد الفلسطينيين    مدير تعليم الأحساء يكرم الطالبة الفائزة ببرونزية المعرض الدولي للاختراعات    رئيس جمهورية المالديف يُغادر جدة    ضبط 264 طن مأكولات بحرية منتهية الصلاحية    وزير العدل يلتقي رئيس المجلس الدستوري في فرنسا    «النيابة»: باشرنا 15,500 قضية صلح جنائي أسري.. انتهاء 8 آلاف منها صلحاً    زلزال بقوة 5.1 درجات يضرب جزر قبالة سواحل نيوزيلندا    أمير تبوك يثمن للبروفيسور " العطوي " إهدائه لجامعة تبوك مكتبته الخاصة    «الصحة» تدعو الراغبين في الحج إلى أخذ واستكمال جرعات التطعيمات    نيمار يبدأ الجري حول الملعب    فيغا يعود للتدريبات الجماعية للأهلي    وزير الحرس الوطني يرعى تخريج 2374 طالباً وطالبة من «كاساو»    أمير حائل يكرم عدداً من الطلاب الحاصلين على الجائزة الوطنية بمبادرة «منافس»    ..أنيس منصور الذي عاش في حياتنا 2-1    تمكين المواهب وتنشيط القطاع الثقافي في المملكة.. استقبال 2200 مشاركة في مبادرة «إثراء المحتوى»    إطلالة مميزة وطراز معماري فريد.. قصر العان.. قيمة تراثية ووجهة سياحية    أمير تبوك ينوه بالخدمات الراقية لضيوف الرحمن    اطلع على تقرير« مطارات الدمام» واعتمد تشكيل «قياس».. أمير الشرقية يؤكد على تجويد الخدمات ورضا المستفيدين    حجز العربات الكهربائية عن طريق "تنقل".. وصول أولى رحلات مبادرة «طريق مكة»    حمام الحرم.. تذكار المعتمرين والحجاج    تفقد محطة القطار ودشن «حج بلياقة».. أمير المدينة المنورة يطلع على سير الأعمال بالمطار    طموحنا عنان السماء    انطلاق برنامج الرعاية الأكاديمية ودورة البحث العلمي في تعليم الطائف    ( قلبي ) تشارك الهلال الأحمر الاحتفاء باليوم العالمي    الكلام أثناء النوم ليس ضاراً    تأثير العنف المنزلي على الأطفال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"صانعو الكيان" يفقدون توازنهم السياسي مع الطوائف الاخرى . موارنة لبنان : من صدام الزعامات الى غياب القيادات
نشر في الحياة يوم 06 - 03 - 2000

عندما انتخب قائد الجيش العماد إميل لحود رئيساً للجمهورية في 15 تشرين الاول أكتوبر 1998، قيل انه اصبح ثمة رئيس قوي للمسيحيين، وللموارنة خصوصاً. كان المغزى من هذه الصفة اجراء مقارنة حسية ومباشرة بينه والرئيس القوي للشيعة نبيه بري في رئاسة مجلس النواب، والرئيس القوي للسنّة رفيق الحريري في رئاسة مجلس الوزراء. كان المغزى الآخر ان الياس الهراوي، رئيس الجمهورية آنذاك، لم يكن الرئيس القوي للمسيحيين، وأن المسيحيين بين العامين 1992 و1998 - وهي الحقبة التي احدث فيها اتفاق الطائف انقلابه الدستوري والسياسي الكبير في البلاد ووضعه موضع التنفيذ بإجراء اول انتخابات نيابية عامة في البلاد العام 1992 وتكريسه طبقته السياسية - كانوا يفتقدون وجود رئيس قوي في منزلة زعيم كبير كنبيه بري ورفيق الحريري، القادرين على تحريك طائفتيهما واجتذابهما الى قرارتهما الكبيرة والصغيرة بسهولة ومرونة بارعتين، يحدوهما الى ذلك انهما صنعا لطائفتيهما مكانتيهما في المؤسسات الدستورية والادارة والجيش، ولم يتخليا عن حصصهما.
في المقابل كان ثمة خلاف على الياس الهراوي، المنقسمة عليه طائفته والمشتتة من حوله، من غير اغفال مقدرته، وبكثير من الواقعية، في ان يكون قوياً وبلا ادنى التباس في رئاسة الجمهورية، خارج طائفته وبمعزل عنها. اذ كان قرار الياس الهراوي ان ما يجعله رئيساً قوياً في الحكم وفي وسعه ممارسة السلطة في ظل تفكك البلاد وانهيارها آنذاك 1989 كسب ثقة الرئيس السوري حافظ الأسد، لا طائفته المارونية المتهاوية الموزعة على عصبيتي ميشال عون وسمير جعجع. وهذا ما كانت تعنيه القرارات الخطيرة والقوية خصوصاً التي اتخذها الياس الهراوي على امتداد سني ولايته من غير التنصل من تبعة تحمله مسؤولياتها التاريخية. فأظهرته رئيساً قوياً من دون ان يكون بقراراته تلك زعيم طائفته، او من دون ان يكون قد استجاب مصالحها عندما اتخذها. ولهذا وصفه سياسيون لبنانيون وسوريون كثر بالرئيس الشجاع الذي يقرر ما ترفضه طائفته. ومن هنا لم يكن نبيه بري شجاعاً الى هذا المقدار وتبعاً لهذا المعيار، ولا رفيق الحريري ولا وليد جنبلاط.
من ذلك، اذاً، القول ان بعض تلك القرارات اضعف طائفته لأنه كان، شأن مسؤوليته عن الهجوم العسكري الذي نفذه الجيش السوري بالتعاون مع الوية عسكرية لبنانية لم تكن تأتمر بأوامر عون لإخراج رئيس الحكومة العسكرية الانتقالية ميشال عون من قصر بعبدا 1990، ومسؤوليته عن ابرام المعاهدة اللبنانية - السورية ثم الاتفاق الامني اللبناني - السوري 1991، ومسؤوليته عن اجراء الانتخابات النيابية العامة 1992، ومسؤوليته عن دخول سمير جعجع الى السجن 1994، ومسؤوليته عن اقصاء قيادات مارونية ذات حضور تمثيلي عن السلطة وفي الحكومة، خصوصاً استبدالها بأخرى اوصلها الى الحكم تحالفها مع سورية فحسب. فضلاً عن مسؤوليته عن تردّي العلاقة بينه والكنيسة المارونية ومنع عودة أمين الجميل وميشال عون من المنفى. وعلى طرف أو نقيض من نبيه بري ورفيق الحريري ووليد جنبلاط الذين حرصوا على التقاط مكاسب تسوية الطائف، بدا الياس الهراوي يقود طائفته الخارجة من حرب السنوات ال20 مهزومة، ومن حيث لا يريد هو، الى الابتعاد عن الدولة والانكماش والانسحاب من كل مؤسساتها وادارتها والانكفاء عن التطوع في الجيش. كان ذلك وراء ثقة دمشق به في تلك المرحلة الاقليمية الدقيقة لتطبيق اتفاق الطائف، واحداث توازن سياسي جديد في البلاد تنبثق منه طبقة سياسية على صورة هذا التوازن.
ثمن هذا الاختيار دفعه الى القول في الشهور الاخيرة من ولايته الرئاسية وبعد خروجه منها انه تسلّم اشلاء ودماراً وسلّم الى خلفه دولة. التعزية الوحيدة لرئيس لم توصله طائفته الى رئاسة الجمهورية كأسلافه، ولا تمسكت ببقائه في منصبه كبعض اولئك.
بسبب ذلك كله، قيل ان انتخاب إميل لحود رئيساً للجمهورية اعطى المسيحيين رئيساً قوياً، مع ان الرجل حصل اولاً، على تأييد سورية، وتحديداً تأييد الدكتور بشار الأسد نجل الرئيس السوري، قبل ان يكون مرشح عشرات استطلاعات الرأي التي رجحت كفته على سواه من الاسماء المتداولة، والمحتملة آنذاك لخلافة الياس الهراوي في رئاسة الجمهورية. على ان اهم ما في الحملة الانتخابية لإميل لحود - ولم يُقل مرة عنه انه زعيم وأنه خارج من بيت سياسي - هو بناء صورة الرئيس الجديد للجمهورية تبعاً لمواصفات شخصية لا لأهلية في الحكم: مواصفات الاستقامة والنزاهة ونظافة الكف كما لو ان الحكم يُدار بهذه فقط. الا انها كانت حتماً اشارات ادانة صريحة الى العهد السابق. والى اليوم ثمة وزراء في الحكومة الحالية يسمعون من مسؤولين سوريين كبار أن إميل لحود لم يُراجعهم حتى اللحظة في مطلب شخصي واحد، يعنيه هو بالذات. ولذا يمحضونه ثقة كبيرة. الرئيس السوري، بعد نجله بشار، قال تكراراً انه أحب إميل لحود وارتاح اليه بعد بضعة لقاءات معه، ووثق بوضوحه وتصرفه الصريح والمباشر. ولذا دعم وصوله الى رئاسة الجمهورية.
وفي كل حال لم يقل احد ان إميل لحود - ابن البيت السياسي التقليدي - زعيم شعبي، وهو زعيم سياسي اولاً. بل قيل ان دوره في اعادة بناء الجيش ومواصفاته الشخصية والنفوذ السوري في لبنان اوصلته الى الرئاسة. وقيل ايضاً ان استطلاعات الرأي هي التي صنعت صورة التأييد المسيحي الكبير له لإكسابها شعبية، ملحقة بشعبية اسلامية لم تكن تنقصه بفعل ارتباطها بمنصبه، لا بصلته بالناس والرأي العام، وفي مرحلة عرفت عن الرجل عزلته والابتعاد عن الوسط السياسي وعن المشاركة في الاحتفالات والمناسبات والظهور الاعلامي، مكتفياً بإيفاد ممثل عنه بصفته قائداً للجيش، ونادراً ما سُمع صوته يتكلم، او أطل بلباس مدني. لكنه لم يكن وحده الرئيس الماروني الذي يُنتخب قوياً.
بل ان معظم الرؤساء اللبنانيين المتعاقبين بلغوا الحكم أقوياء وشعبيين ايضاً على نحو الرئيس الحالي، الا انهم لم يخرجوا كذلك من السلطة. كان بشارة الخوري وكميل شمعون وسليمان فرنجية رؤساء منتخبين اقوياء وشعبيين وخرجوا من الحكم ضعفاء. وكان فؤاد شهاب والياس سركيس وأمين الجميل ورينيه معوض والياس الهراوي رؤساء اقوياء منحتهم هذه الفرصة الظروف الاقليمية الدقيقة وتدخّلها في انتخابات رئاسة الجمهورية، من غير ان يكونوا شعبيين.
ووصل شارل حلو الى الرئاسة يستمد قوته من فؤاد شهاب الذي سمّاه خلفاً له وليصير من ثم الرئيس - الظل للرئيس الذي يحكم دستورياً، الا ان شارل حلو لم يكن شعبياً. وكان بشير الجميل قوياً قبل ان يصل الى رئاسة الجمهورية، شعبياً لدى طائفته ليصبح في الايام القليلة الفاصلة بين انتخابه واستشهاده رئيساً قوياً وشعبياً.
بذلك يتبين القاسم المشترك بين هؤلاء جميعاً، وهو انهم كانوا رؤساء اقوياء للبلاد، ومعظمهم كان زعيماً شعبياً لطائفته على نحو ما كان عليه رئيس مجلس النواب الشيعي ورئيس مجلس الوزراء السنّي في مرحلة ما قبل اتفاق الطائف. مع بشارة الخوري كان صبري حمادة زعيماً شيعياً قوياً ورياض الصلح زعيماً سنّياً قوياً، ومع كميل شمعون كان عادل عسيران وسامي الصلح زعيمين قويين، ومع فؤاد شهاب كان صبري حمادة ورشيد كرامي وصائب سلام زعماء اقوياء، ومع شارل حلو كان صبري حمادة وعبدالله اليافي ورشيد كرامي زعماء اقوياء، ومع سليمان فرنجية كان كامل الأسعد وصائب سلام زعيمين قويين. وفي كل حال غالباً ما استمد رئيسا مجلس النواب والحكومة في المرحلة السابقة قوتهما في الحكم من هيبة رئيس الجمهورية او بحكم تحالفهما السياسي معه آنذاك. كانت هيبة الرئيس اولاً، ومقدرته على اطاحة كل منهما من منصبه ثانياً بفعل وفرة البدلاء.
لكن ذلك ليس وحده التناقض الحاد بين مرحلتي ما قبل تسوية الطائف وما بعدها. فمنذ غياب سليمان فرنجية 1992، وفي استمرار قرار ريمون إده البقاء في منفاه الاختياري في باريس منذ 1976، أضحى المسيحيون، والموارنة خصوصاً، بلا زعيم مسيحي كبير قوي وشعبي، وتحديداً بعدما صار سليمان فرنجية زعيماً شمالياً يُوازن الزعامة الجبلية التي كانت لبيار الجميل قبل وفاته 1984 ثم لأمين الجميل إبان ولايته الرئاسية في ما بعد. اذ كان المسيحيون قد انقسموا على بعضهم في تلك المرحلة. شاخ الزعماء الكبار، وخرج منهم الجيل الثاني ليخوض غمار السياسة في ظلهم او مستقلاً عنهم. ولذلك لم يرث هؤلاء الزعامة، وانما نشأوا على فكرة القيادة التي خرجت بهم من الشارع، خصوصاً عشية الحرب الاهلية وفي حمأتها: طوني فرنجية يقود ميليشيا والده سليمان فرنجية، وبشير الجميل يقود ميليشيا والده بيار الجميل، وداني شمعون يقود ميليشيا والده كميل شمعون. والثلاثة قضوا قتلاً في حرب هي التي صنعت قيادتهم. كان ذلك ايذاناً بانقضاء آخر فرصة لإعادة بناء الزعامة المارونية بعدما تقدم آباؤها في السن.
وفي الواقع لم تعد منذ ذلك الحين ثمة زعامة مارونية بالملامح التي رسمتها الاربعينات والخمسينات والستينات حتى منتصف السبعينات. بل بات يصح القول انه حتى الثمانينات كانت هناك وجوه أمين الجميل وسمير جعجع والياس حبيقة وبيار حلو وجورج سعادة ومخايل الضاهر وميشال عون، وللتسعينات سليمان فرنجية الحفيد وجان عبيد ونسيب لحود وفارس بويز وكميل زيادة ونايلة معوض وبطرس حرب. الا ان بعض هؤلاء لا يجد نفسه في صدام مع آخر، ولا مع ارث لم يرثه، ولا مع ماض ينتسب اليه، خصوصاً ماضي الحرب. والآخرون يعرفون تماماً ان واقع الدور السوري في لبنان ادخلهم في صلب المعادلة السياسية الوطنية وفي صلب التوازنات الجديدة التي اوجدها اتفاق الطائف.
كانت الحقبات المارونية على امتداد عقود ستة 1934 - 1987 تجد نفسها في سجال وصدام دائمين بين زعمائها الى حد انقلاب احدهما على الآخر، وخصومته الدائمة فالمزمنة فالعداء الشخصي الذي غالباً ما يُطوى - فقط - بموت احدهما، لا بتخليه عن الحكم او بإقصائه: تلك هي حال إميل إده وبشارة الخوري في الثلاثينات حتى العام 1949 بوفاة الاول، وحال كميل شمعون وحميد فرنجية في الخمسينات وكميل شمعون وفؤاد شهاب من الخمسينات حتى 1973 بوفاة الثاني، وحال ريمون إده مع كميل شمعون وبيار الجميل مذ فضّوا "الحلف الثلاثي" مطلع 1970 وحتى غياب الاخيرين، وحال سليمان فرنجية العام 1978 حتى غياب الثاني.
في غياب اولئك، وتعثر الموارنة الجدد في التقاط فرصة الزعامة، وتهاوي الاحزاب المسيحية وتفككها لمجرد غياب مؤسسيها ومن ثم تشتتها، بدا ان ثمة ما يخلي موقع الزعامة لبكركي وبطريرك الموارنة.
ابان "ثورة 1958" اتى الى بيروت موفد أميركي خاص هو روبرت مورفي، نيطت به مهمة توصيل قائد الجيش آنذاك فؤاد شهاب الى رئاسة الجمهورية خلفاً لكميل شمعون طبقاً لاتفاق أميركي - مصري بين حكومته وجمال عبدالناصر. بعد جولة على الزعماء اللبنانيين، وبينهم بطريرك الموارنة بولس المعوشي، اختصر مورفي نتائجها بعبارته الشهيرة الآتية: "وجدت ثلاثة اشخاص في مواقع غير مناسبة". وهي العبارة التي قصد بها انه قابل رئيساً للجمهورية في شخصية قائد جيش، وقائداً للجيش في شخصية بطريرك، وبطريرك في شخصية رئيس للجمهورية في بكركي. اما مغزى هذه العبارة، فهو اكتشاف الموفد الاميركي وجود مرجعيتين سياسيتين للمسيحيين اللبنانيين، لا سيما الموارنة. احداهما رئيس الجمهورية والاخرى البطريرك.
وهو في الواقع دور سياسي كبير اضطلعت به البطريركية المارونية عقوداً طويلة قبل نشوء دولة لبنان الكبير 1920 ومن ثم قبل اعلان الجمهورية اللبنانية 1926 ثم حكماً قبل ولادة الاستقلال 1943، اذ اتخذت موقع الدفاع عن الموارنة والمسيحيين اللبنانيين على مر اجيال. يلتفون حولها لتكون مصدر استقرارهم وحمايتهم وعضدهم في مواجهة الاخطار. الى ان ظهر موقع رئاسة الجمهورية في نطاق الدولة اللبنانية الدستورية، مع ان هذا المنصب قد اعطي اول الامر لأرثوذكسي هو شارل دباس 1926 قبل ان ينتقل ويمسي عرفاً غير مدون في نصوص الدستور للطائفة المارونية. على ان منصب رئاسة الجمهورية لم ينتقص من المرجعية التاريخية والتقليدية للبطريرك الماروني، الا انهما وجدا نفسيهما، البطريرك والرئيس، كل منهما في مواجهة الآخر، وغالباً اختلفا وتنازعا بضراوة: الرئيس بشارة الخوري والبطريرك أنطون عريضة، الرئيسان كميل شمعون وفؤاد شهاب والبطريرك بولس المعوشي، الرئيس الياس الهراوي والبطريرك نصر الله صفير.
منذ ذلك الحين، وفي ظل رؤساء جمهورية اقوياء بدءاً من إميل إده، قاسم كل رئيس جمهورية متعاقب على المنصب البطريرك على زعامة الطائفة، وعلى القيادة السياسية، خصوصاً الشارع الماروني الذي بات اسير هاتين المرجعتين القويتين.
على ان "نبوءة" مورفي، وهي في الواقع كانت رد فعله على ما لمسه خلال مساعيه العام 1958، سرعان ما باتت من حقائق الحياة السياسية بدخول قائد الجيش في دائرة الصراع على النفوذ السياسي داخل الطائفة المارونية والمسيحية، مذ حكي عن دور سياسي لقائد الجيش للمرة الاولى العام 1952 في خضم الصراع بين بشارة الخوري وخصومه في المعارضة المنبثقة من انتخابات 1951 وأبرزهم كميل شمعون وكمال جنبلاط، وارغامهما اياه ورفاقهما في "الجبهة الاشتراكية الوطنية" على الاستقالة من منصبه 18 أيلول/ سبتمبر 1952. سنتذاك طُرح لبعض الوقت اسم قائد الجيش فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية بعدما احجم عن استجابة طلب رئيس الجمهورية والتدخل لقمع التظاهرات والاضراب العام اللذين دعت اليهما المعارضة عشية استقالة رئيس الجمهورية. لكن المنصب آل الى كميل شمعون.
وما لبثت هذه السابقة ان تكرست بعد ست سنوات، على ابواب نهاية ولاية كميل شمعون الذي سعى بدوره العام 1958، على غرار بشارة الخوري، الى تمديد ولايته الرئاسية. فكان ان جبهته المعارضة بأبرز رموزها كمال جنبلاط وصائب سلام ورشيد كرامي وصبري حمادة وسليمان فرنجية وأحمد الأسعد وسواهم، فضلاً عن البطريرك الماروني - أصلب خصوم كميل شمعون - الذي خاض معه معركة شرسة لمنع تجديد ولايته. لتتكرر مجدداً واقعة 1952: رفض فؤاد شهاب - وكان لا يزال قائداً للجيش - قمع المعارضة، وأبقى الجيش على حياده من دون الانحياز الى كميل شمعون على نحو ما فعل مع بشارة الخوري، فأوصله حياده هذا الى رئاسة الجمهورية، لتنشأ منذ ذلك الحين سابقة امكان وصول قائد للجيش الى رئاسة الجمهورية، بل ليصير هذا الطموح هدفاً لكل قائد للجيش.
قيل هذا الكلام في ما بعد عن قائد الجيش إميل البستاني الذي رمى الى محاولة مماثلة لاستمالة جمال عبدالناصر ليدعمه، بعيد توقيعه "اتفاق القاهرة" مع المقاومة الفلسطينية في 1969 ثم أقصي بعد اشهر. وذهب الى هذا الخيار ايضاً قائد الجيش ميشال عون في الاشهر الاخيرة من ولاية أمين الجميل في 1988 بعدما ترددت في تلك الاشهر اخبار عن دعم أميركي لمساندته، ثم تحول ميشال عون مع الفراغ الدستوري بخلو منصب رئاسة الجمهورية مشكلة على اثر تعيينه رئيساً لحكومة عسكرية انتقالية الى حين اطاحته 1990. ووصل قائد الجيش إميل لحود الى رئاسة الجمهورية 1998 بدعم سوري خلفاً لالياس الهراوي بعد ولاية طويلة في قيادة الجيش، موازية لولاية رئيس الجمهورية.
والواضح ان ما صح عن ميشال عون وإميل البستاني لا يصح - في الضرورة - عن إميل لحود الذي نجح، اثناء وجوده في قيادة الجيش، في ابعاد السياسة عن العسكر، منصرفاً الى اعادة بناء الجيش اللبناني. على انه سرعان ما بات جزءاً من المعادلة السياسية في البلاد. اذ لم يكن الرجل مجرد ضابط كبير وموظف من الفئة الاولى يعينه مجلس الوزراء، ولم يتحول - في المقابل - رئيس ظل، او رئيساً موازياً، تماماً كحال نبيه بري ممثلاً الشيعة في رئاسة مجلس النواب، ورفيق الحريري ممثلاً السنّة في رئاسة مجلس الوزراء ووليد جنبلاط ممثلاً الدروز وزيراً كبيراً ذا كلمة نافذة. كان إميل لحود في عهد الياس الهراوي في موقع غامض سياسياً: قائداً للجيش الذي يمدد له مدة مماثلة لتمديد ولاية رئيس الجمهورية تسع سنوات، بحيث يتبين انهما اتيا معاً الى منصبيهما ويغادرانهما معاً. لكنه يُنبئ في الوقت نفسه بمرحلة سياسية جديدة بعد انطواء ولاية الهراوي. ولذا كان على امتداد ولاية رئيس الجمهورية المرشح القوي والوحيد تقريباً لخلافته على نحو ما حصل العام 1995، ثم مرشح اجماع 118 نائباً في انتخابات 1998.
بعد انتخاب إميل لحود فقد منصب قائد الجيش بريقه السياسي وتأهله التاريخي والتقليدي لمنصب زعامة سياسية محتملة، ليقتصر على مهمته الحَصْرِيَّة. ولم يعد في الامكان في ظل إميل لحود الا ان يكون الامر كذلك، تماماً على غرار ما حصل مع فؤاد شهاب من قبل، عندما اعاد الى قيادة الجيش، بعدما عيّن لها نسيبه الشهابي عادل شهاب، دورها مجرداً من كل نفوذ سياسي ومن موازنة الموقع الذي كان لقائد الجيش بذاك الذي كان لرئيس الجمهورية بشارة الخوري ثم كميل شمعون.
تلك الوقائع حولت استنتاج مورفي في 1958 حقيقة واقعة: ان تكون ثمة ثلاث مرجعيات للموارنة تقودهم في السلم والحرب، هم بطريرك الطائفة ورئيس الجمهورية وقائد الجيش.
عنت هذه المواقع الثلاثة حتى مرحلة ما قبل تسوية الطائف مهمات مختلفة لكل منهم: فرئيس الجمهورية كان لا يزال حتى ذلك الحين يرث دستورياً صلاحيات المندوب السامي الفرنسي، والبطريرك الماروني كان يعتبر نفسه وصياً على حماية الكيان الذي اوجده الموارنة للبنان بدءاً من البطريرك الياس الحويك ولذا غالباً ما احتفظ بطريرك الموارنة ورئيس الجمهورية ب"كلمة السر" في كل انتخابات رئاسية لاختيار الخلف، وغالباً ما اقتصرت عليهما اشارات التأثير الاقليمي في هذا الاختيار. اما قائد الجيش فكان بدوره معنياً بالمحافظة على الدولة وعلى توازن القوى السياسية فيها. ومن ذلك خشية كل رئيس للجمهورية من وجود قائد للجيش قوي الى جانبه، ومن ذلك ايضاً محاولة الرئيس دائماً موازنة دور قائد الجيش بدور مدير المخابرات الذي يكون اختياراً شخصياً لرئيس الجمهورية ليكون عيناً ساهرة عليه. وفي الواقع لا يبدأ قائد الجيش يستشعر قوته الا في الاشهر الاخيرة لولاية رئيس الجمهورية، فيقرر المجازفة بالدخول الى المعادلة السياسية واستحقاقاتها. بعد اتفاق الطائف تبدلت تماماً المواقع: فقد رئيس الجمهورية معظم صلاحياته الدستورية، وأضحى قائد الجيش يأتمر بقرار من مجلس الوزراء. أما بطريرك الموارنة، خصوصاً البطريرك الحالي نصر الله صفير، فقد بات رمزاً للاستقطاب في ظل غياب الزعامات المارونية ومحاوراً معترضاً. لم يفقد دوره في موالاة الرئيس وفي معارضته، ولا في البقاء مرجعية الموارنة على الاقل بشهادة قيادته معركة مقاطعة الانتخابات النيابية في 1992، الا انه لم يعد يمتلك "كلمة السر" في الكيان والدولة التي باتت في العقدين الاخيرين في يد سورية وحدها.
انه الفراغ الهائل في الزعامة المارونية. لم يعد ثمة احد يعيد الى هذه الطائفة على الاقل توازنها السياسي مع سائر الطوائف الاخرى. اذ لم يعد هناك ايضاً من يلتقط اللحظة الاقليمية واللحظة الدولية، كالبطريرك الياس الحويك او كبشارة الخوري، ليجعل من وجودها في لبنان - ويجعل من لبنان خصوصاً - كياناً ضرورياً لا يمكن الاستغناء عنه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.