تطور الوضع الأمني في اليمن منذ اعلان الوحدة في 1990، من بادرة عنف نادرة الى ظاهرة عامة وقضية وطنية وسياسية ثم الى مشكلة كبيرة. وخلال السنوات الاخيرة أدت تطورات الحالة الأمنية الى تبلورها في ثلاثية الخطف والتفجيرات وانتشار السلاح، على رغم اختصاص ظاهرة امتلاك السلاح بنوع من المشروعية، لعدم مخالفتها لنص قانوني حتى الآن. الا ان المسؤولين اليمنيين لا يختلفون عن المراقبين في التأكيد بأن السلاح هو السبب والوسيلة والمحرض على الظاهرتين الاخريين وغيرهما من الحوادث واختراقات الأمن. ولعل ما هو اخطر من هذا الدور للسلاح وانتشاره في اليمن، انه صار يمثل عائقاً كبيراً امام اجهزة الأمن وسلطات الدولة في سبيل مواجهة ومعالجة الظواهر والحوادث الأمنية، وعاملاً رئيسياً في ظهور وتطور ظاهرة الثأر بين القبائل، وسبباً فاعلاً ووحيداً في كثير من الحالات في حوادث القتل العمد والخطأ التي اصبحت وتائرها شبه يومية، وفي تطوير الخلافات على مستوى الافراد والجماعات الى اشتباكات تسفر عن وقوع ضحايا من اطراف الخلاف ومن الأبرياء، وكثيراً ما حوّل اطلاق النار في المناسبات، الأفراح الى مآتم وأحزان برصاصات طائشة. اضافة الى ما سبّبه وجود السلاح، من اضرار اجتماعية واقتصادية فادحة مباشرة وغير مباشرة. ومن ذلك ما ينعكس عنه من آثار سلبية على السياحة من جهة. كما انه اضحى، من جهة اخرى، تجارة رائجة ورقماً وبنداً يتسع في قوائم الاستيراد بالعملات الصعبة على الساحة اليمنية. في هذا الواقع الذي تفاقم فيه خطر السلاح والظواهر المرتبطة به، بدأت قوات الأمن حملة جديدة ضد السلاح تستهدف منعه في العاصمة صنعاء وعواصم ومدن المحافظات الاخرى،. وظهرت البداية صعبة وساخنة، لما تخللها من حوادث واشتباكات. الا ان ما حدث ويحدث هو بحسب المعنيين، أمر طبيعي ومتوقع ومحسوب سلفاً، وفي خطة الحملة التي تمثل مطلباً شعبياً وتحظى بتأييد شعبي واسع، خصوصاً في المدن التي حظيت بالقدر الأكبر من حوادث السلاح وأضراره. فكيف تطورت هذه الظاهرة وانتشرت وتحولت مشكلة؟ لا يبتعد عن الحقيقة كثيراً من يقول ان السلاح عريق في حياة اليمنيين، كغيرهم من قبائل الأقطار العربية، ولعل الفارق ان القبيلة في اليمن ظلت عبر عقود النصف الثاني من هذا القرن متماسكة، ومتمسكة بتقاليدها وأعرافها، بصرف النظر عن الأسباب التي يعزوها بعضهم الى ضعف نظام الدولة، او الى تشجيع القادة المتعاقبين على الحكم للقبيلة لتكون حامية للدولة او لقادتها، حتى امكنها ان تملك السلاح وتدخله، بمرور الزمن، في نظامها وعاداتها الموروثة. وباختصار يمكن القول ان السلاح بدأ لدى القبائل اليمنية منذ اواخر القرن الماضي بالذات، واقتنت انواعاً منه لا تزال معروفة بأسمائها حتى الآن، مثل "السك" و"الطلياني" الايطالي و"السلطاني" العثماني و"الميزر" و"الجرمل" الألماني وهو اكثرها رقياً وغلاءً. وهي اسماء تشير الى الفترات التي عاش اليمن والمنطقة عامة خلالها صراعات مع هذه البلدان. وعبر فترات الصراعات والحروب، زاد انتشار السلاح في اليمن، وتكرس ضمن العادات والأعراف والمصطلحات القبلية. الا ان انتشاره تضاعف عشرات وربما مئات المرات خلال العقود الأربعة الاخيرة حتى وصل عدده طبقاً لاحصاءات رسمية الى اكثر من 50 مليون قطعة سلاح. وهو رقم عال يعني معدله ثلاث بندقيات آلية لكل مواطن يمني. ونتيجة لما شهدته فترة ما بعد الوحدة من احداث وصراعات وحروب اضعفت هيبة الدولة، ظهر كثير من القادة والمسؤولين والمشائخ والشخصيات الاجتماعية بمجموعات حراسة مرافقة تحمل السلاح خارج نطاق الحراسات الرسمية تحولت في جانب كبير منها مظهراً ووسيلة للتعبير عن اهمية "المحروس". وهذا الانتشار بالتالي، حوّل السلاح الى تجارة رائجة مع الذخيرة وما يتعلق بها. وأدى في كثير من الحالات الى مظاهر تجاوزت حمل الآلية الخفيفة الى القنابل اليدوية و"البازوكا" وال"آر بي جي" وما شابه ذلك. حتى صار بامكان احدى القبائل، في المحافظات الشمالية ان ترفض اوامر السلطات عند اي خلاف معها وتحمل السلاح في وجهها. وصار اطلاق الأعيرة النارية جزءاً من مناسبات الأفراح كالأعراس والأعياد ومناسبات الأعراف واللقاءات القبلية الاخرى. في سني الوحدة الاولى، ادركت الدولة خطورة السلاح وتطور انتشاره وضرورة الحد منه. وأدركت، في الوقت نفسه، صعوبة او استحالة معالجته كظاهرة ومشكلة، دفعة واحدة، وان المعالجة يجب ان تبدأ ولكن تدريجاً وعلى مراحل. وصدر مطلع العام 1994 قرار بمنع حمل السلاح في المدن الا بتراخيص لكل قطعة. ورافقت القرار حملة تفتيش في مداخل وشوارع المدن لسحب اي سلاح غير مرخص. واجهت الحملة صعوبات كثيرة ثم تلاشت شيئاً فشيئاً كحملة عامة وظلت في شكل اجراءات يومية عادية، وربما كانت هذه اولى المحاولات. تلاها في العام 1995 صدور مشروع قانون "تنظيم حمل السلاح والاتجار به"، ووجه بكثير من النقد من قبل سياسيين وقانونيين، "لأنه يعطي للمرة الأولى، شرعية لحمل السلاح والاتجار به في وقت لا تستطيع فيه حصر السلاح الموجود وتطبيق نظام التراخيص". ومات المشروع لفترة عامين تخللتهما حملات تفتيش من وقت لآخر، خصوصاً عند حدوث اشتباكات او تظاهرات ضد الحكومة. وفي حزيران يونيو 1997، أقرت الحكومة مشروع قانون لتنظيم حمل السلاح، واحالته الى مجلس النواب البرلمان وبدأ طرحه للمناقشة، ولكنه "عاد لينام في أدراج المجلس حتى الآن" حسب تعبير أحد النواب ل"الوسط"، وبدأ الآن الحديث عن هذا المشروع لمناقشته واصداره "بعد ادخال بعض التعديلات عليه". وكان قد صدر في آب اغسطس 1998 قرار الرئيس اليمني علي عبدالله صالح بتشكيل "اللجنة الأمنية العليا" برئاسة وزير الداخلية اللواء حسين عرب وعضوية كل من رئيس جهاز الأمن السياسي ومدير الاستخبارات العسكرية في وزارة الدفاع وقائد الشرطة العسكرية. كانت مهمة اللجنة معالجة مشكلة السلاح، وفي اول اجتماع لها في 13 آب الماضي اتخذت قراراتها الأولى وقضت بمنع التجول في المدن بالسلاح الناري إلا بترخيص من وزارة الداخلية للمدنيين ومن الشرطة العسكرية للعسكريين، وألغت كل التراخيص السابقة، وأعلنت "ان الترخيص لا يمنح الا للحراسة الشخصية وحالات الحاجة للدفاع عن النفس". ومع تصاعد سخونة الأوضاع الأمنية في اليمن في الأسابيع الأخيرة وأحداث الانفجارات التي بلغت ذروتها في آب الماضي التي بلغ عددها من 26 الى 29 آب، 20 انفجاراً في مدن صنعاء وعدن وزنجبار والضالع بدأت حملة التفتيش الحالية عن السلاح، وقدم حوالي 50 نائباً الى رئاسة مجلس النواب، في 2 ايلول سبتمبر الجاري، اقتراحاً بطرح مشروع قانون السلاح للمناقشة والاقرار. ومع ان المحاولات السالفة لم تحقق نتائج تذكر، إلا انها، طبقاً للمراقبين، أكدت في مجملها مفهوماً عاماً مفاده ان الدولة لم تعد راضية عن هذا الوضع وأنها ستعمل على تغييره، كما ان هذه المحاولات مثلت ارهاصاً للحملة الجديدة. مما سلف تتضح مناعة ظاهرة السلاح في اليمن، وان هذه الحملة ليست الأولى ولا يبدو انها ستكون الأخيرة. فقد بدأت في 30 آب الماضي، عقب الانفجارات باعلان من وزارة الداخلية. وفي اليوم الثالث ناقش مجلس الوزراء رسالة من الرئيس صالح، حول الأوضاع الأمنية وتدهورها وضرورة اضطلاع الحكومة بمسؤوليتها، وكلف المجلس وزارة الداخلية تنفيذ الحملة التي بدأت بناء على توجيهات غير معلنة قبل رسالة الرئيس صالح ومناقشة مجلس الوزراء. ومن رصد "الوسط" وحصيلة اتصالاتها بعدد من المعنيين والمراقبين والنواب وبعض المشائخ والشخصيات الاجتماعية، يمكن تأكيد أهمية هذه الحملة وأنها تميزت عن سابقاتها بميزات، منها المنع المطلق لحمل السلاح في المدن سواء المرخص أو غيره، ومنع اصدار تراخيص جديدة، ومنع اطلاق الأعيرة النارية في المناسبات. كما تميزت ببداية ساخنة نتج عنها بعض الحوادث والصدامات والاصابات. ومن المفارقات المؤسفة ان يكون نجل قائد الشرطة العسكرية يحيى حميد الخراشي أول ضحاياها في 3 أيلول سبتمبر الجاري. ومع ما يظهر من اصرار وزارة الداخلية على تنفيذ مهمتها هذه المرة، فإن معظم المصادر السالفة تشكك في مدى قدرة الحملة على تحقيق أهدافها. وترى هذه المصادر أن نجاح الحملة "لا يتوقف فقط، على اصدار قرار أو اعلان والبدء بتنفيذه ميدانياً"، بل يرتبط بتشريعات واجراءات وامكانات وأطراف كثيرة ومتداخلة، منها: اصدار القانون المشار اليه، "الذي يواجه صعوبات كثيرة أدت الى تعطيل اصداره من مجلس النواب منذ سنوات حتى الآن"، على حد تعبير نائب من كتلة المؤتمر الشعبي العام الحاكم. وكشف النائب ل"الوسط" عن خلاف بين النواب حول مشروع القانون، "فالكثير من النواب غير مقتنعين بمنع السلاح في المدن وبأن ينطبق هذا على حراساتهم الشخصية". والى جانب اصدار القانون، أضافت المصادر "تعزيز قوات الأمن بقيادات وعناصر من الجيش، وأن يتعاون مشائخ القبائل مع سلطات الأمن بالبدء بأنفسهم. وأن تتواصل الحملة من دون توقف لئلا تكون، كما يقول بعضهم، لمجرد الدعاية الانتخابية". وتضيف المصادر شرطاً ذا طابع استراتيجي، وهو: ضبط الحدود اليمنية، خصوصاً البحرية والحدود مع دول القرن الافريقي. وهي شروط وأسس يتطلب كل منها، بحد ذاته، شروطاً وامكانات لعل معظمها غير متاح في الوقت الراهن على الأقل. ويقف في مقابل المتفائلين بقدرة الحملة على تحقيق نسب متفاوتة من النجاح، فريق آخر يرى أنها لن تختلف عن سابقاتها. ويبرر هذا الفريق رؤيته بأن المسألة ليست وسائل واجراءات وتشريعات، حسب رأي وزير سابق قال ان السلاح أضحى مرتبطاً "بتجارة رائجة وعائدات مالية تستفيد منها شخصيات كبيرة". اضافة الى أن كثيراً من الشخصيات الاجتماعية لن توافق على تجريد حراساتها من السلاح بسهولة، ولن تقبل حراسات بديلة من الأمن مقصورة على "من يحتاج اليها"، لأن الكثير من هؤلاء "لا يحتاج الى الحراسة لغير الوجاهة واستمرار دخله الشهري من مرتبات المرافقين" كما قال ل"الوسط" شيخ يشغل منصباً ادارياً في احدى المحافظات. وأضاف ان وجود الثأر من أكبر عوائق منع السلاح