يحيل كل ادب، ان كان باحثاً عن معنى، على هشاشة الانسان ومآله الحزين... إذ يشهد على عبث الاحلام واندثارها. والرواية العربية تأخذ بقاعدة الأدب الذهبية، فتحكي عن الانسان الذي طلب شيئاً وانتهى الى آخر، وتحكي اولاً عن نصف القرن العربي الاخير الذي اخلف وعوده الكثيرة. فالياس خوري يري في "بوابة الشمس" زمناً فلسطينياً، وجمال الغيطاني يودع الكثير من احلام مصر في "حكاية المؤسسة"، والعراقي غائب طعمة فرمان ودّع ما تبقى في "المرتجى والمؤجل" قبل ان يذهب الى الموت، والجزائرية أحلام مستغانمي ألقت الوردة الاخيرة على قبر الثورة الجزائرية… والى هؤلاء ينضم فواز حداد في روايته "صورة الروائي" التي يرثي فيها أحلاماً كثيرة. ليست "صورة الروائي" رواية حداد الاولى. فقبلها كتب "موزاييك دمشق 39" و"تياترو 1949" ومجموعة قصص عنوانها: "الرسالة الاخيرة". والروائي السوري مفتون بدمشق التي ولد فيها العام 1947، ومسكون بأطياف المدينة التي ما عادت كما كانت. وتعبيراً عن هذا العشق، ارتضى الكاتب لنفسه دور المؤرخ الذي تنكّر في ثياب الروائي. فهو يكتب عن دمشق، كما يشير عنوان روايته الاولى، في نهاية الثلاثينات، ويقفز الى الامام عشر سنوات ليرى المدينة في نهاية الاربعينات، ويتهيّأ لحوار المدينة بعد عشر سنوات لاحقة. وفي كل الحالات، ينصاع الى صوت دمشق، او صداها، وهو يصف زخارف البيوت القديمة وجدران الحواري الضيقة والشوارع والمقاهي والساحات وخيوط الشمس الذهبية في الخريف. ويبثّ في الوصف لوعته على أرض الطفولة الضائعة، صدى ملتاعاً ورؤية حائرة، فالحنين يضيف الى جمال المكان جمالاً. وتؤكّد الرواية الجديدة الوعد الذي حمله حدّاد في عمليه السابقين، فدمشق حاضرة منذ الصفحة الأولى ل "صورة الروائي". مدينة تفارق وداعتها الاولى وتدخل في الغبش، فالجدران القديمة تتداعى تحت ضربات آلات الهدم المتواترة. وربما يكون التداعي هو المجاز الاساسي الذي اتكأت عليه الرواية، وهي تنتقل لاهثة بين أواخر الخمسينات وبداية السبعينات. كل شيء يتداعى: الحي القديم الذي ضربت جدرانه. والمربي القديم الذي طوته العزلة، والمواطن عبدالسلام الذي ارهقه المحقق، والروائي احدى شخصيات الرواية الذي كتب رواية وعجز عن اعطائها نهاية. ولكل سببه في التداعي، وشكل معيّن من التداعي، وان كان الجميع يرحلون عن زمن يعرفونه الى زمن يرعبهم بمفاجآته الكثيرة. تتهدم الجدران لأن للأزمنة دورتها، مثلما تنهار الأزمنة لأن للبيوت حياتها ايضاً. ويدخل المربي القديم طور الاحتضار، لأن احلامه الوطنية وشعاراته القومية واحزابه الثورية طوت راياتها، مخلفة في فم هذا الثوري القديم طعم الرماد. والاستاذ صباح قدوري وفيه اشياء كثيرة من ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي، ينزوي في بيته الدمشقي، منذ اوائل الستينات، لأن الوحدة الموعودة بين مصر وسورية ضاعت في الزحام، الى ان رضي به الموت اوائل السبعينات. أما المواطن عبدالسلام، والراوي يجده في كل بلد عربي، فقد ماتت فيه الحياة منذ انتهك المحقق اكثر شؤونه حميمية... بل مات في الحياة حين آمن يوماً أن فكر "الاستاذ" قابلٌ للتحقيق. والروائي يدخل مرحلة التداعي لأكثر من سبب: ينهدم لكونه كان تلميذاً صادقاً عند الاستاذ الذي خذله، ويتحطم وهو يقاسم المواطن شعوره بالهوان. ويتداعى اذ يكتشف انه يأخذ في كتابته دور المحقق الذي يهرب منه، ويجرفه اليأس عندما يعلم ان الرواية لا تقبض على اطراف الحقيقة. كل شيء لا يقف الا ليقع وتطويه الايام، ومدخل الرواية عن البيوت الآيلة للسقوط مرآة لرؤية الكاتب. تطرح رواية فواز حداد، الطموح، ثلاثة اسئلة، اولها: هل على الروائي، في زمن الهزيمة، ان يستدرك قصور المؤرخين، كما كان يقول سعد الله ونوس، وان يتحول الى مؤرخ من نوع خاص؟ والسؤال الثاني هو: كيف يمكن للرواية ان تدرج في صفحاتها الوقائع المباشرة من دون ان تتحول نصاً هجيناً، لا هو بكتاب تاريخ ولا هو بنص روائي؟ اما السؤال الثالث فهو: هل يستطيع الروائي، اذ يتحول محققاً من نوع خاص، ان يمسك بأطراف الحقيقة؟ لقد اجتهد حداد محاولاً العثور على اجابة، او على نثار من الاجابات. السؤال الأوّل محسوم سلفاً: أليست الرواية، تعريفاً، اعادة كتابة للتاريخ "بشكل آخر"، تحفظ للراهن خصوصيته وتحرره من راهنيته في آن؟ اما السؤال الثاني، وهو اكثر صعوبة، فأجبر حداد على تضمين روايته نصين روائيين متكاملين: احدهما يعطي صورة تاريخية موثقة ومباشرة عن وقائع الزمن الذي تدور فيه الرواية، كما لو كانت الرواية تلخيصاً اميناً لأرشيف قديم، وثانيهما يقوم بتجريد روائي، ان صح القول، يعطي الاحداث التاريخية المعيشة معادلها الروائي. ويعثر السؤال الثالث على جوابه، وموضوعه الحقيقة والتاريخ، في تعددية القول، او في تعددية النصوص التي تعطي اقوالاً مختلفة. ومن بينها قول شخصية الروائي الذي يتقاطع دوره مع دور المحقق الامني في اكثر من مكان. ومن اجل الوصول الى نص يتضمن اصواتاً متعددة، يوزع حداد ثنائية المواطن والمحقق على نصين متجاورين، ويعطي لمآل "الاستاذ المهزوم" تأويلات اربعة. فالاستاذ القديم يضيء حياته بنص له شكل المذكرات الشخصية، وتلميذه الاول الهارب من المحقق يؤول حياته بشكل آخر. وتلميذه الثاني الذي هو قرين التلميذ الاول ومرآة له، يقدم تحليلاً مختلفاً، الى ان يأتي "مناضل قديم"، عرف "الاستاذ" وعايشه، ويعطي اضاءة اخيرة. تتضمن رواية حداد مراجعها الخارجية الواضحة، فهي محددة المكان والزمان والوقائع التاريخية التي تتعامل معها… لكن الروائي تعامل مع مادته المشخصة بشكل ذهني، في اكثر من مكان، وإذا بنا أمام نصّ يحاصر فيه الذهني الواقعي ويربك غناه وكثافته. وبسبب الذهني الذي يستند إلى الواقعي ويطرده، تبدو الشخصيات قابلة للاختزال إلى شخصية واحدة. ويبقى السؤال الآتي: هل يتجلى التاريخ الحقيقي في انهيار البيوت القديمة وهدمها، ام في رسم المصائر البشرية التي تتجاوز البيوت القديمة والجديدة معاً؟