لاشك أن ايان بيزلي زعيم حزب "اتحاديو ألستر الديموقراطيون" في ايرلندا الشمالية لم يكن يتوقع ما سيجري تماماً حين قال ان "أي شخص لديه قدر من الخيال لابد أن يعرف ما الذي سيحصل في 12 تموز يوليو"، فكيف للقس المتشدد أن ينجح في قراءة المستقبل ويتوقع مقتل ثلاثة اخوة تتراوح اعمارهم بين 8 و11 عاماً بنيران قنابل حارقة ألقاها بعض المتطرفين البروتستانت على بيتهم فقط لأنهم اولاد امرأة كاثوليكية تعيش مع زوجها في حيه البروتسانتي؟ ومع أن بيزلي دان الجريمة بشدة شأنه شأن سياسي الاقليم على اختلاف مشاربهم، فهو مصر على التشبث بالايديولوجية الطائفية التي أذكت حرباً أهلية أودت بمايزيد عن 3 آلاف ضحية خلال 30 عاماً، والا لماذا أعرب عن أمل كبير في مواصلة ناشطي "نظام اورانج" اورانج اوردر من أبناء االغالبية البرتستانتية مسيراتهم الصيفية التي تمر في مناطق الاقلية الكاثوليكية وتصل ذروتها في 12 الشهر الجاري؟ واضح أن السياسي المعروف بتصلبه البروتستانتي الذي دفعه لاتهام البابا في البرلمان الاوروربي بالالحاد، لم يعبأ بمشاعر الكاثوليك الذين يتذمرون دائماً من مسيرات استفزازية تجري سنوياً احياءً لذكرى انتصارات حققتها ضدهم جيوش البروتستانت قبل اكثر من قرنين. هذا التناقض الذي يتجلى بالتنديد بالنتائج المنطقية للطائفية التي غالباً ماتكون ببشاعة جريمة حرق الاطفال الثلاثة في وقت يتم التشبث بممارستها كحق مكتسب، هو العلامة الفارقة في سلوك بيزلي وغيره من المتشددين. وهؤلاء اتخذوا من مسيرات "نظام اورانج" الذي يمثلهم بايديولوجيته وطموحاته، ميداناً للدفاع عن مواقعهم التقليدية. هكذا يبدو أن استماتتهم للمضي في مسيراتهم ضاربين عرض الحائط بمشاعر الكاثوليك وبالقانون، تنطوي على معان عدة يتصل معظمها بالحاضر بدلاً من الماضي والتقاليد التي لايكفون عن التعويل عليها مبرراً أساسياً لكل ممارساتهم. ليس عبثاً أن المواجهة المستمرة بين متظاهري الجماعة البروتسانتية وبين قوات الجيش والشرطة في منطقة بورت داون التي تقع الى شمال بلفاست، أخذت طابعاً أكثر شراسة من المناوشات التي يشهدها سنوياً موسم المسيرات المثيرة للجدل. ويعود ارتفاع درجة التوتر هذه المرة الى أن المسيرة التي يصر البروتستانت على مرورها في شارع كاثوليكي، جاءت بعد 12 يوماً من انعقاد الجلسة الافتتاحية للجمعية التي ستتولى الاشراف على الادارة الذاتية للمقاطعة بموجب "اتفاقية الجمعة العظيمة" لاحلال السلام في ايرلندا الشمالية. وتمخضت تلك الجلسة عن اختيار ديفيد تريمبل، رئيس أكبر الاحزاب البروتسانتية، كبير وزراء للمقاطعة فيما اختير الرجل الثاني في أكبر الاحزاب الكاثوليكية نائباً له. وكانت الجلسة التاريخية الخطوة الاولى على طريق تنفيذ الاتفاقية التي حظيت بتأييد 70 في المئة من أبناء المقاطعة. والادهى أن معارضة "نظام اورانج" للاتفاقية لم يقف حاجزاً حيال مباركة معظم افراد الغالبية البروتستانتية لها، مما يجعل القس بيزلي وحلفاؤه عاجزين عملياً عن عرقلة عمل الجمعية ونسف مشاريعها من الداخل. أمام هذه "الهزيمة" السياسية لم يجد معارضو عملية السلام بداً من تجريد سلاحهم التقليدي: الالحاح على التظاهرات المثيرة للجدل وعدم تعديل مساراتها على رغم تدخل لندن وواشنطن بقوة. ونجحوا في دفع الامور الى شفير الهاوية، خصوصاً بعدما تردد أن ديفيد تريمبل هدد بالاستقالة، وهو أمر من شأنه أن يجعل عملية السلام بأسرها ذكرى من ذكريات الماضي الايرلندي المليء بالالغام والتقارب الموؤود بين فرقاء حاولوا التوصل الى سلام دائم في 1974، لكن محاولتهم باءت بالفشل الذريع بفضل القس بيزلي وأمثاله من المتشددين البروتستانت والكاثوليك. ولو انهارت اتفاقية "الجمعة العظيمة" لتحقق أهم أهداف ناشطي "نظام اورانج"، فهم يخشون سلاماً سيمنح خصومهم الكاثوليك مزيداً من الحقوق ويفتح الباب أمام شراكة في الحكم لم تألفها الغالبية البروتستانتية التي تحكمت بمقدرات المقاطعة منذ مئات السنين. ولماذا يستجيبون لنداءات رئيس الوزراء توني بلير الذي اجتمع بهم وارسل كبير مساعديه الى المقاطعة لنزع فتيل الازمة، أويصغون الى رجاء الرئيس بيل كلينتون عدم الاخلال بالقواعد والاساليب الديموقراطية، اذا كان لديهم احساس حاد بأن الجميع ضدهم كأقلية في جمهورية سيكون مصيرها الزوال اذا فرّطت بأي جزء من نفوذها؟ هذا الشعور الاقلوي ذاته كان الدافع الاساسي وراء انشاء "نظام اورانج" قبل نحو مئتي عام. فهو تأسس العام 1795 اثر اضطرابات طائفية أدت الى مقتل 30 كاثوليكياً في معركة كانت ذروة تذمر عارم انتاب البروتستانت بسبب اعادة منح الكاثوليك بعض حقوقهم المدنية. وعلى امتداد قرنين من الزمن كانت المسيرات الصاخبة أشبه بميزان يقيس في شكل دقيق درجة توتر العلاقات بين االغالبية البروتستانتية والاقلية الكاثوليكية. واستمر الكر والفر بين الطرفين، وحاولت السلطات البريطانية أحياناً حظر المسيرات تجنباً لسفك الدماء الذي تمخضت عنه تلك التظاهرات، لكن غالباً ما أصر البروتستانت على ممارسة "حقوقهم" في عبور الطرق التي يشاؤون باعتبارهم من رعايا الملكة، فكان لهم ماأرادوا. ومع رواج النزعة القومية الايرلندية في صفوف الكاثوليك أواخر القرن الماضي، أبدى البروتستانت قدراً أكبر من التشبث بمسيراتهم ولم يترددوا في استعمال مزيد من العنف ضد خصومهم. وأدى تعاطي الحكومات البريطانية المتعاقبة مع ناشطي المجموعة البروتستانتية في شكل يجمع بين الليونة والمدارة الحذرة الى تقوية شوكتهم. ففي 1935 سقط 13قتيلاً خلال ستة أسابيع من الاضطرابات والمناوشات بين ناشطي الكاثوليك والبروتستانت انتهت بمرور المسيرات الاستفزازية. وأضحى "نظام اورانج" مع الزمن مجموعة سياسية لها ثقل لايُستهان به بفضل ناشطيها الذين يقدر عددهم بحوالي 80 ألفاً. ولامناص لأي سياسي بروتسنتاتي من خطب ودها اذا طمح الى ارتقاء سلم النفوذ في طائفته. من هنا كان خروج ديفيد تريمبل في احدى مسيراتها ومحاولته اختراق حاجز الجيش الذي اعترض طريق الناشطين البروتستانت مقدمة لفوزه في بزعامة الحزب. غير أن الفرق الاساسي بين تريمبل وايان بيزلي شريكه في تلك المسيرة، هو القدرة على مواكبة الزمن والتحرر من اسار الماضي. فخلافاً للقس الذي يقاوم التغيير، شارك تريمبل بشجاعة في العملية السلمية انطلاقاً من ادراكه العميق أن الحفاظ الى الابد على السيادة البروتستانتية غير مجزأة غير ممكن في ظل الترسيخ المستمر للوحدة الاوروبية وارتفاع وتيرة الولادات في صفوف الكاثوليك مما قد يؤدي الى تفوقهم عددياً خلال عقود قليلة. واذا كان موقف تريمبل الذي أهاب بالمتظاهرين أن يعودوا الى بيوتهم بعد مقتل الاطفال الثلاثة، يحظى بتأييد متعاظم فلايزال على دعاة السلام البروتستانت أن يقطعوا شوطاً كبيراً قبل الوصول الى غاياتهم. ومع أن مناوئي "اتفاقية الجمعة العظيمة" على الجانب الآخر حاولوا نسف العملية بطرق شتى، فهم أضعف بكثير من المعارضين البروتستانت مما يجعلهم عاجزين عن تغيير اتجاه الاحداث وحرف مسيرة السلام وان تسببوا بازعاجات من فترة الى أخرى. فالقنابل الحارقة التي حاولوا زرعها في لندن والقذائف التي أطلقوها في ايرلندا الشمالية لن تثني الزعماء الكاثوليك الموقعين على الاتفاقية عن تنفيذ التزاماتهم. لكن مصدر الخطر الحقيقي الذي يتهدد عملية السلام هو معسكر المتشددين البروتستانت، الذين قد يدفعون الامور الى نهاياتها القصوى فيضطر بلير الى مواجهتهم، لكن تصرفاً كهذا ربما يجرده من الشعبية الكبيرة التي نالها بعدما نجح في تحريك عجلة السلام الى الأمام، عدا النتائج الاخرى الخطيرة. فلماذا لايُصغي بلير الى اليسار البريطاني الذي طالب دائماً بخروج الجيش من ايرلندا الشمالية؟ علماً أن ذلك سيوفر على الحكومة البريطانية 8 مليارات جنيه هي في أمس الحاجة اليها؟ والسؤال الذي لايريد بيزلي وأصدقاؤه أن يفكروا بالاجابة عنه، هو: ماذا سيحل بالبروتستانت اذا تركهم البريطانيون في "بحر" جمهورية ايرلندا الكاثوليكية؟