"… يجب ان أرفع سيفي وأقطع رأس بروتوس قبل ان يطعنني من الخلف" بهذه العبارة، ردّ جان ماري لوبن زعيم "الجبهة الوطنية" الفرنسية المتطرفة على التمرد الذي يقوده برونو ميغريه الرجل الثاني في "الجبهة". لكن ميغريه ليس من القادة الذين يبلعون ألسنتهم عندما يسمعون عبارات قاتلة، لذا خاطب رئيسه السابق بالقول: لستُ "بروتوس" ولستَ "القيصر" ولا "الروح القدس". انت عائق كبير امام تقدم "الجبهة الوطنية" وعقبة حقيقية في طريقها نحو تسلم السلطة في فرنسا. هذا التراشق اللفظي بين لوبن وخليفته المفترض في زعامة التيار اليميني المتطرف، يحتل هذه الايام المساحات الأبرز في الحياة السياسية الفرنسية الداخلية ويستأثر باهتمام متزايد في اوساط واسعة من الرأي العام. ف "الجبهة الوطنية" تُشكل منذ العام 1984 كابوساً حقيقياً للتيارات السياسية الفرنسية المعتدلة بمختلف حساسياتها اليسارية واليمينية، وذلك بسبب الطروحات العنصرية التي يدافع عنها لوبن، وبسبب الضغوط المتزايدة التي يمارسها على قواعد الاحزاب التقليدية وناخبيها، حيث تمكن من الحصول على نسبة 15 في المئة من اصوات الناخبين في الانتخابات الرئاسية 1995 وكان يطمح للحصول على نسبة 20 في المئة في الانتخابات الاوروبية الامر الذي يجعله المثل الابرز والاول للتيار العنصري في اوروبا. والسؤال الملح الذي تطرحه القيادات السياسية الفرنسية يدور حول التطورات التي ستشهدها "الجبهة الوطنية" والآثار التي يمكن ان تنجم عنها، وبالتالي حول نتائج الانفجار المحتمل لهذا التنظيم على الخارطة السياسية في فرنسا. وبخلاف الانطباع الذي يمكن ان ينشأ للوهلة الاولى. لم يُعبّر قادة اليمين واليسار عن ارتياحهم لانقسام "الجبهة" المرتقب وانما عن خشيتهم من مخاطر توسع جناحيها في صفوف الرأي العام وانضمام منشقين من اليمين المعتدل الى أحد الجناحين. وقبل الاجابة عن هذه التساؤلات لا بد من العودة الى ظروف ودوافع الانقسام الذي طرأ على اليمين المتطرف وهو الاول من نوعه خلال العقدين الماضيين. فاذا كان لوبن "قيصراً" فعلياً في هذه "الجبهة" فان خصمه ومنافسه برونو ميغريه لم يكن بوسعه الا ان يلعب دور "بروتوس" في تنظيم شديد المركزية ويعمل وفق قيم ٍِ بعيدة تماماً عن القيم الديموقراطية الرحبة التي تسود الحياة السياسية الفرنسية. لكن لماذا وكيف انفجر الموقف في هذه الجبهة؟ منذ أواخر السبعينات وبداية الثمانينات، حاول لوبن ان يخرج اليمين المتطرف والعنصري من "القوقعة" التي يعيشها منذ سنوات طويلة والتي جعلته يحتل ادنى السلم التراتبي في التمثيل السياسي، فتمكن من ضم كادرات وشخصيات الى جبهته، تنتمي الى اليمين التقليدي لكنها لا تجد في صفوفه المواقع الملائمة لنظرتها القومية الفرنسية الضيقة ولتطلعاتها وطموحاتها الشخصية، ونجح لوبن في جذب بعض خريجي المدارس والمعاهد النخبوية وبعض مساعدي الاقطاب السياسيين الكبار، ومن بين هؤلاء برونو ميغريه خريج "البوليتكنيك" وأحد مساعدي جاك شيراك السابقين. واستطاع لوبن، بفضل "ضباطه" الجدد ان يحقق نجاحات انتخابية باهرة، كانت الاولى من نوعها في عهد الجمهورية الخامسة. ووقع الاختراق الانتخابي الاول في العام 1983 في مدينة درو القريبة من باريس حيث حصل ممثل "الجبهة الوطنية" على 17 في المئة من الاصوات في الانتخابات البلدية ليصبح اول "جبهوي" يتبوأ منصباً مرموقاً في بلدية مدينة متوسطة الحجم، وتعيش ظروفاً صعبة بسبب تكاثر المهاجرين الاجانب فيها، وبسبب الفلتان الامني الذي كانت تعيشه، واخيراً بسبب التنازع الحاد بين اليمين واليسار وتفضيل زعماء اليمين المحليين التحالف مع ممثل اليمين المتطرف للحؤول دون نجاح اليسار في السيطرة على بلدية المدينة. وكان لهذا الانتصار بعد آخر، فالسيد ستير بوا هو الرجل الثاني في الجبهة وأحد ابرز الكادرات الجديدة المنضمة اليها. غير ان سوء الحظ سيضرب الساعد الايمن لجان ماري لوبن، اذ قتل خلال حادث سير عادي، وخلفه ميغريه الذي لم يتوقف نجمه عن الصعود منذ تلك الفترة الى ان بلغ مرتبة المفوض العام "للجبهة الوطنية" وهي المرتبة الثانية بعد منصب الرئيس الذي يشغله لوبن حتى الآن. مع ميغريه وجماعته، حققت الجبهة انتصارات متلاحقة، فقد استطاعت في العام 1986، ايصال اكثر من 30 نائباً الى البرلمان وسيطرت بعد ذلك على عدد كبير من البلديات واحتل انصارها مراتب رفيعة في المجالس الاقليمية وتمكنت من ايصال عدد من اعضائها الى البرلمان الاوروبي لتصبح حقيقة ثابتة في الحياة السياسية الفرنسية، ولم تعد ظاهرة موقتة او موجة عابرة كموجات اليمين المتطرف في مختلف مراحل التاريخ الفرنسي الحديث. وكان تقدم "الجبهة الوطنية" التي حصل زعيمها على اقل من 1 في المئة في الانتخابات الرئاسية العام 1974 قد بلغ الذروة رئاسياً في العام 1995 حين تمكن لوبن من الحصول على 15 في المئة وهي نسبة لا تبتعد كثيراً عن الاصوات التي حصل عليها المرشح اليميني ادوارد بالادور 16 في المئة. كان تقدم الجبهة اذن يتوازي مع استفحال المشاكل الاجتماعية وعجز السياسات اليسارية واليمينية على السواء، عن ايجاد حلول لها. فكلما ازدادت البطالة وكلما ازداد عجز اليمين واليسار عن التصدي لها، كان اليمين المتطرف يستقبل المزيد من الاصوات الاحتجاجية واليائسة. وكلما ازدادت الاضطرابات الامنية في ضواحي المدن الفقيرة، كان المنفعلون والمتضررون يصبّون اصواتهم في صناديق "الجبهة". وكلما برزت قضية الهجرة الاجنبية الى الواجهة، كان لوبن يُذكّر ويعيد التذكير بضرورة طرد المهاجرين الأجانب واحلال اليد العاملة الفرنسية مكانهم. وفي المحصلة العامة كانت تتجمع في هذه الجبهة تدريجاً ملايين الاصوات حتى بلغ عدد المقترعين لها في مراحل انتخابية مختلفة 30 في المئة بصورة ثابتة او موقتة، وصارت تبعث فعلاً على الخوف وتثير قلق الديموقراطيين الفرنسيين المتسامحين. لكن التطور الأبرز الذي أثار الهلع في باريس، تمثل العام الماضي، والعام الحالي في الانهيارات المتلاحقة التي شهدها اليمين المعتدل والليبرالي. فالتجمع الديمقراطي الفرنسي، اصيب بتفكك كبير وخرجت منه جماعات مستقلة وتشكلت احزاب على هامشه، واليمين الديغولي خسر الانتخابات النيابية عام 1997 واتخذ بعض زعمائه مواقف تحالفية مع ممثلين عن "الجبهة الوطنية" للفوز برئاسة بعض المجالس الاقليمية، وتمرد عدد منهم على قيادتهم المركزية. واكثر من ذلك بدا ان نجاح ليونيل جوسبان في الحكومة وقدرته على تجميع اليسار، وانصار البيئة من حوله وكأنه يعد بمستقبل افضل، وبدا اليمين الديغولي عاجزاً عن الحلول مكانه في المدى القريب، وساهم ذلك في توجيه الانظار نحو "الجبهة الوطنية" التي ظهرت بفعل تماسكها وكأنها القوة الوحيدة القادرة على وراثة اليمين اذا ما تفكك، وعلى مواجهة اليسار بوصفها التنظيم اليميني الاكثر قدرة على الاطلاع بهذه المهمة. غير ان المشكلة التي كانت "الجبهة الوطنية" تعاني منها على الدوام، تكمن في الصورة الشديدة السلبية لجان ماري لوبن، فهو يضرب تارة ممثلة محلية للحزب الاشتراكي، ويتهم انصاره بقتل عامل اجنبي خلال حملة انتخابية، وتثير تصريحاته حول المحرقة ضجيجاً عنصريا مدوياً، وفي كل مرة يطلق العنان للسانه تخرج عبارات اتهامية يسوقها ويسوقه خصومه الى المحاكم حتى بلغت المرات التي حوكم خلالها اضعافاً مضاعفة للحملات الانتخابية التي شارك فيها. في موازاة ذلك، عمدت وسائل الاعلام الى نبش سيرته الذاتية المدججة بالمواقف المتطرفة، وتسلّط الضوء على حياته الشخصية المليئة بالغموض، وعلى ادواره في حرب الجزائر وغزو السويس ومواجهات الحي اللاتيني… الخ. الى ذلك كان تدخل عائلته في الحياة الحزبية اليومية يظهر الجبهة وكأنها تنظيم عائلي ويُظهر قائدها وكأنه زعيم عائلي وغير ديموقراطي. ولهذه الاسباب لم يتمكن من الفوز شخصياً بأية معركة انتخابية كبيرة، وبدا لكثيرين من كادرات "جبهته" ان لوبن بقدر ما حمل تياره الى النصر والحضور السياسي القوي في البلاد، بقدر ما يبدو عقبة فعلية في طريق الجبهة، نحو السلطة، او تسلّم زعامة اليمين المعتدل. في هذا الوقت بدأ نجم مغيريه يلمع وبدا ان مزاج "الجبهة الوطنية" العام يميل نحوه اكثر من ميله الى لوبن، وبدأ الحديث همساً عن خلافة قريبة، لا بل ان بعض الجبهويين راح يتحدث عن حلول ميغريه محل لوبن خلال سنة او سنتين فقط، وعملت وسائل الاعلام على تظهير هذا الجانب وتوسعت في الحديث عن الاحتمالات والمخاطر التي يمكن ان تنجم عن تولي ميغريه زعامة الجبهة بوصفه الشخصية الاكثر قبولاً من اليمين التقليدي بالقياس الى لوبن وعائلته وانصاره المباشرين. ولم يقتصر حديث الخلافة على الجانب الشخصي، فقد تبين ان لوبن وميغريه يختلفان اختلافاً عميقاً في الاستراتيجية الواجب اتباعها للوصول الى السلطة ولاستقبال الانهيار المتوقع في الصفوف اليمينية . فمن جهة يعتقد لوبن ان الرأي العام الفرنسي سيضيق ذرعاً بالتشكيلات السياسية اليمينية واليسارية التي عجزت عن ايجاد حلول مرضية لمشاكل البلاد البنيوية، وان هذا العجز سيقود الى نوع من الانهيار السياسي، وفي هذه الحالة تتقدم "الجبهة الوطنية" بوصفها التنظيم الاكثر قدرة على انقاذ فرنسا من المخاطر، ولكي تلعب هذا الدور يجب ان تظل متماسكة وقوية وان تحقق المزيد من التعبئة وان تسجل اهدافاً انتخابية اكبر في صفوف الرأي العام، وان تتجاوز عتبة ال 20 في المئة من الاصوات، وعليها ان تحتفظ بقيادتها وان تظل مخلصة للقائد الذي لا يتقاعد ولا يختصر ولايته بل يقود ناخبيه الى السلطة اي الى النصر النهائي. في المقابل كان برونو ميغريه يعتمد استراتيجية اخرى، فهو يعتقد بأن على الجبهة ان تسعى الى السلطة بصورة تدريجية كي لا تخيف الفرنسيين، وان عليها ان تواصل شق صفوف اليمين المعتدل عبر تحالفات انتخابية سرية على غرار ما حصل خلال الانتخابات الاقليمية، وعليها ايضاً ان تتخلص من عقبة "القائد" الذي لا يقبل به الفرنسيون رئيساً بسبب صورته السلبية لدى الرأي العام. وقد برهن ميغريه ان وسائله فعالة وان استراتيجيته تتمتع بصدقية، بدليل نجاحه في شق صفوف اليمين التقليدي في عدد من المجالس الاقليمية. وقد ادى هذا النجاح الى التفاف عدد متزايد من الجبهويين حوله ومطالبتهم بتزعمه للجبهة. في هذا الوقت بدأ لوبن بشن هجوم داخلي مضاد، مع علمه التام بأن هذا الهجوم من شأنه ان يشقّ الجبهة ويؤثر بقوة على صورتها امام انصارها وامام الرأي العام الفرنسي عموماً واليمين بصورة خاصة. وعليه بدأ يتخذ سلسلة من الاجراءات العقابية التدريجية لتحجيم ميغريه، من بينها: 1 - إلحاق الاهانة به ونزع صفة "المفوض العام" منه. 2 - ترشيح زوجة لوبن لقيادة الحملة الانتخابية الاوروبية بدلاً من ميغريه الرجل الثاني في الجبهة. 3 - استبعاد ميغريه من حكومة الظل التي شكلتها الجبهة. 4 - استبعاد عدد كبير من انصار ميغريه من مراكز النفوذ والقرار وتجميد وفصل عدد آخر مستخدماً صلاحياته الرئاسية ومن دون العودة الى مؤسسات الجبهة ليثبت بوضوح ان لوبن يريد الافادة من تجربة القيصر وبروتوس وبالتالي قتل بروتوس قبل ان يقتله، وقد تحقق له ذلك على الاقل عندما دفع ميغريه الى الظهور بمظهر القائد المنشق عن "الجبهة" والمخالف لشرعيتها ولزعيمها. من جهته لم يتمكن ميغريه من تحمّل الاهانات المتتالية التي تعرض لها، لأن استمرار سكوته من شأنه ان يهدد صدقيته داخل الجبهة ويتوّج بفصله منها بعد تهميشه وعندها لن يعبأ أحدٌ به ولن يتمكن من الاستعانة بأنصاره المخلصين في الجهاز الجبهوي وسائر المؤسسات التنظيمية، وعليه اغتنم المناسبة وفضّل ان يقتل "القيصر" في الوقت المناسب وخلال ليلة "السكاكين الطويلة". هكذا تزعم الدعوة لانعقاد مجلس وطني ومؤتمر استثنائي للجبهة وحصل على الاصوات اللازمة لهذه الغاية وأجرى اتصالات مثمرة مع كادرات الجبهة المؤيدة له ولم يتورع عن توجيه اتهامات شخصية للوبن في وسائل الاعلام. هذا التصادم بين الطرفين بات اليوم امراً واقعاً وعلنياً. فكل منهما يشتم الآخر بإفراط وكل منهما يتحدث عن مؤامرات مدعومة من الخارج وكل منهما يحضّر نفسه للانفصال والطلاق، الامر الذي يعتبر مفاجأة المفاجآت في فترة اعياد الميلاد ورأس السنة. ومع الانفجار المعلن "للجبهة الوطنية" بدأ الحديث عن سيناريوهات ما بعد الجبهة، ويمكن حصر هذه السيناريوهات في الخطوط الآتية: السيناريو الأول يكمن في تحول الجبهة الى جبهتين متنازعتين تنشغلان لوقت طويل بقضايا داخلية ويتنازع طرفاها الشرعية الحزبية وينتهي هذا التنازع بانهيار الطرفين معاً وعودة اليمين المتطرف الى حجمه الهامشي الصغير الذي عرفه الرأي العام خلال الجمهورية الخامسة. السيناريو الثاني يكمن في نجاح الطرفين في استيعاب الانفصال والتعايش معه كل في موقع وتحت يافطة حزبية مستقلة، فيكون الانقسام بمثابة حل للأزمة الجبهوية، ويعمل كل طرف من بعد على مواصلة الأهداف والمساعي نفسها من موقعين تنظيميين مختلفين، وهذا السيناريو يعتبر خطيراً للغاية لأنه يتيح للغالبية ممثلة بميغريه من اكتساب شرعية لدى اليمين وبالتالي تجميع المنشقين عنه في تنظيم راديكالي خطير يحل محل اليمين المعتدل ويتصدى لمواجهة اليسار، في وقت يظل فيه لوبن محافظاً على الاحتياط العنصري التاريخي وقادراً على منافسة اليمين التقليدي واستيعاب المتطرفين واليائسين العاملين في صفوفه. السيناريو الثالث، وهو الأبعد احتمالاً، يكمن في ان تغتنم السلطات الفرنسية المناسبة وان تستغل تطاحن الطرفين وتتخذ قراراً بحظر الجبهة الوطنية المتطرفة بفرعيها الأمر الذي يمكن ان يعيد انصارها الى الشارع وبالتالي يحررهم من الانضباط التنظيمي القائم مع ما يعنيه هذا الخيار من احتمالات انتشار العنف والأعمال الفوضوية اليائسة. وفي كل الحالات لا يثير انفجار "الجبهة الوطنية" الفرح في صفوف اليمين واليسار كما لم يثر ظهور الفرح في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، فهي كانت في صعودها تياراً خطيراً ويهدد الديموقراطية ويسيء الى صورة فرنسا الخارجية، وفي انهيارها تهدد الخارطة السياسية الفرنسية، وينطوي انهيارها على مخاوف ومخاطر كبيرة، ما يعني ان قتل "القيصر" او "بروتوس" او قتلهما معاً لن يضع حداً للتيار العنصري الفرنسي فهو في افضل الحالات يعيد طرح المشكلة بصيغ جديدة