إنجاز نجيب محفوظ الأدبي يكاد يكون التعبير الفني العميق عن تاريخ مصر: من السياسة والمجتمع وصولاً إلى الذوق الفنّي، مروراً بالقيم بشكل عام. وتعبيره ليس احادي الاتجاه، بل يحرص على الكشف، ويسجل تناقضات الواقع أو ثنائياته. إنّه في تقديري صاحب رؤية ثنائية للواقع. وبهذا المعنى يعبر عن التضاريس الوجدانية والذوقية لمصر منذ بداية القرن، وحتى آخر قصة نشرها في مجلة "نصف الدنيا" بعنوان "العاصفة". ذات مرة قلت عن توفيق الحكيم انه مفكر اكثر منه فناناً، وفنان اقدر منه مفكراً، أما محفوظ، فنكاد نجد عنده تجانساً بين الفكر والابداع. إنّه مفكر كبير، وهو منذ اول كتاب ترجمه عن تاريخ مصر القديمة ثم مجموعة قصصه الفرعونية، عبّر عن وعي مصر. وبقيت كتاباته حتّى المرحلة الأخيرة، متابعة فكرية نابعة من معايشة ويقظة، وصادرة عن عين كاشفة وناقدة ومتسائلة في تحليلها الواقع واستشرافها المستقبل. لن تجد لدى الحكيم العمق الذي عند محفوظ. ومع أن أدبه يقوم على الفنية أساساً، فهو ادب اطروحة في كل ما كتب. انه لا يكتب للتسلية على رغم وجود هذا العنصر في كتاباته، ولا يقدم لوحة جميلة على رغم ما في اعماله من لوحات جميلة، ولا يكتفي بتشخيص الواقع وبناء أنماط وشخصيات... بل هو مسكون بهم الاحاطة المعرفية بمصر، ومنشغل بمستقبلها، لذا نجد في كتاباته كلها روح الكشف وروح النقد. لكن الرواية فن خبيث كما قال بنفسه في الثلاثية، فهو لا يفصح عن رسالته ابداً. أما أدبه فيقول من دون ان يقول، وينتقد من دون أن يشتمل على نقد صريح، ويبشر من دون أن يكون هناك تبشير واضح إلا في حالات عابرة. دائماً في ادب محفوظ توجد رسالة، إنما غير مباشرة. أحياناً نشتمها على سطح النص، وهي دائماً رسالة من أجل تجاوز الواقع. والغريب انه يعشق الواقع، ويعشق مصر بسلبياتها، ولذلك تجد ان رواياته الاخيرة في مرحلة ما بعد الناصرية خصوصاً، أكثر تحديداً وحسماً. في "المرايا" تتكلم شخصيات حية وتصدر الاحكام، وفي "ما وراء العرش" يحكم على تاريخ مصر محاولاً البحث عن صيغة مشتركة، ويتنقّل بين مراحل مختلفة من تاريخ مصر كاشفاً ما تنطوي عليه من ثنائية، ويطلق أحكاماً قاطعة في عبد الناصر فيمتدحه ويهاجمه، وفعل الشيء نفسه مع السادات. انه يقول ولكنه يقول بالفن، وفنه لا يقل عمقاً عن فكره. في أدب محفوظ عمق نظري، يجمع بين أكثر من مفارقة. إذ تحس عنده بنوع من القدرية التي تبرز عن طريق المصادفة رواياته مليئة بها. ولكن المصادفات عنده تبدو ضرورة كما في "الثلاثية" و"بداية ونهاية" وغيرهما. عالمه محكوم بالقدر والضرورة، ونقع على القدرية في كثير من اعماله، كأن التاريخ يكرر نفسه. أدب محفوظ كله يكشف تشخيصاً نقدياً استشرافياً للواقع، وهو أدب متطلع للمستقبل، ولكنه منشغل بالواقع. ووراء هذا الهم السياسي في اعماله، شخصيّة مفكر صاحب رؤية كونية.