حجم محفظة "كفالة" 24 مليار ريال واجمالي التمويل 279 مليار ريال    موعد مباراة الهلال والطائي..والقنوات الناقلة    عرض سعودي يقرب ماكسيمان من الرحيل عن الأهلي    الشباب يتوصل لاتفاق مع لاعب بنفيكا رافا سيلفا    حرس الحدود يحبط تهريب 295 كيلوجرامًا من نبات القات المخدر    استمرار هطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    القضاء على الفقر وليس القضاء على الفقراء    الولايات المتحدة الامريكية تقدم التعازي في وفاة الرئيس الإيراني    مصر.. القبض على فنان شهير بتهمة دهس امرأتين    مركز التطوع بوزارة الصحة يكرّم صحة عسير ممثلةً في إدارة التطوع الصحي    الأمير خالد بن سطام مساء اليوم يفتتح معرض صنع في عسير    مطار الرياض يفوز بجائزة أفضل مطار بالمملكة    رسميًا.. الاتحاد يعلن رحيل رومارينهو وغروهي    أبل تخطط لإضافة الذكاء الاصطناعي للإشعارات    6.7 مليار دولار مساعدات سعودية ل 99 دولة    الاتحاد بطلاً لهوكي الغربية    عودة الصور المحذوفة تصدم مستخدمي «آيفون» !    6.41 مليون برميل صادرات السعودية من النفط    أمير منطقة تبوك ونائبه يواسيان النبهاني في وفاة والدته    «الموارد»: دعم أكثر من 12 ألف مواطن ومواطنة بالشرقية    القوات المسلحة تواصل تمرين «الأسد المتأهب 2024»    أمير الجوف يعزّي أسرة الحموان    استقبال حافل ل «علماء المستقبل».. أبطال «ISEF»    5 فوائد للمشي اليومي    مجموعة الدكتور سليمان الحبيب تحصل على اعتماد برنامج زمالة جراحات السمنة    القيادة تعزي في وفاة رئيس إيران ومرافقيه    أسرة بن مخاشن تستقبل المواسين في مريم    معابر مغلقة ومجازر متواصلة    وزير الشؤون البلدية والقروية والإسكان يكرم البواني لرعايتها منتدى المشاريع المستقبلية    في الرياضة.. انتظار الحقائق والتطوير    المسألةُ اليهوديةُ مجدداً    واتساب يختبر ميزة تلوين فقاعات الدردشة    طموحنا عنان السماء    فراق زارعة الفرح    أمير القصيم يكرم «براعم» القرآن الكريم    10522 خريجًا وخريجة في مختلف التخصصات.. نائب أمير مكة المكرمة يشرف حفل التخرج بجامعة جدة    مكعّب روبيك.. الطفل العبقري    خادم الحرمين الشريفين يخضع لبرنامج علاجي    8 مواجهات في الجولة قبل الأخيرة لدوري" يلو".. " الخلود والعروبة والعربي والعدالة" للمحافظة على آمال الصعود    إجازة لمكافحة التعاسة    ابحث عن قيمتك الحقيقية    لجين تتألق شعراً    مواجهة الظلام    مبادرة الأديب العطوي    نائب أمير جازان يكرم متفوقي التعليم    ما الذي علينا فعله تجاه أنفسنا ؟!    زلة الحبيب    وقتك من ذهب    لا عذر لخائن    تسهيل وصول أمتعة الحجاج لمقار سكنهم    العجب    أنديتنا وبرنامج الاستقطاب    علاقة معقدة بين ارتفاع ضغط الدم والصحة النفسية    الحامل و الركود الصفراوي    أخصائية تغذية: وصايا لتجنب التسمم الغذائي في الحج    خرج من «البحر» وهو أصغر بعشر سنوات    أمير الرياض يرعى حفل تخرج طلبة الجامعة السعودية الإلكترونية    القيادة تعزّي دولة رئيس السلطة التنفيذية بالإنابة السيد محمد مخبر في وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ومرافقيه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الوسط" في مجاهل "الوطن" الكردي في تركيا : وقائع الحصار والتمييز والتهجير
نشر في الحياة يوم 12 - 10 - 1998

كان على الصحافي والمصور الفرنسي كريس كوتشيرا أن يلجأ إلى أساليب جديدة كي يستطيع العبور إلى المناطق الكردية في تركيا التي يفرض الجيش عليها حصاراً شديداً. وبحجة أنه سائح عادي يحمل آلة تصوير صغيرة جداً لكنها متطورة دخل مناطق الأكراد ونقل مشاهداته والتقط صوراً بالأسود والأبيض. وكوتشيرا المتخصص في المسألة الكردية نشر عنها كتابين ودليلاً بالفرنسية "الحركة الوطنية الكردية" 1979 و"التحدي الكردي أو الحلم المجنون بالاستقلال" 1997 و"كردستان، دليل أدبي" 1998. وهذا التحقيق المنشور أعده بمساعدة جمعية "فرانس ليبرتيه" France Libertژs التي ترأسها السيدة دانيال ميتران زوجة الرئيس الفرنسي الراحل.
يعتبر الجيش التركي الذي يبلغ تعداده 800 الف جندي ثاني اكبر الجيوش في الحلف الاطلسي، ويرابط ما يزيد على 300 الف من افراده في منطقة كردستان شرق البلاد. ويستنزف هذا المجهود الحربي ما لا يقل عن 8 مليارات دولار من موازنة تركيا، وهذا الثمن الباهظ جعل الأمن مستتباً الى حد ما في كردستان اذ لم يعد في وسع مقاتلي حزب العمال الكردستاني ان يأتوا الى القرى لشراء المؤن والملابس ولتنظيم اللقاءات السياسية.
لكن "المنظمة الارهابية" او "الانفصالية" وهي التسمية التي تطلقها السلطات الرسمية على حزب العمال الكردستاني، لا تزال تمارس نشاطها خلافاً لما يؤكده الجيش، والاحداث الخطيرة التي جرت منذ فترة وجيزة، ولا سيما الكمين الذي نصب لدورية تركية على مقربة من يوكساكوفا وأسفر عن مقتل 17 عسكرياً بينهم ضابطان، اثبتت ان الحزب لا يزال ناشطاً في جميع المناطق، فهو يزرع الألغام التي تودي بحياة الجنود والحراس، ويختطف رئيس بلدية قرب بحيرة فان، ويضرم النار في حافلة على مقربة من ارضروم، ويشتبك مع الجيش في درسيم، وكل ذلك يشير الى ان حرب العصابات ما زالت مستمرة رغم الجهود الهائلة التي يبذلها الجيش.
تقع مدينة هاكاري التي يبلغ عدد سكانها حوالى 15 الف نسمة شرق بحيرة فان، وهي من المواقع الاستراتيجية المتقدمة للجيش التركي في حربه ضد حزب العمال الكردستاني في منطقة الحدود مع ايران والعراق.
وتعتبر هاكاري المقر العام للقوات التركية التي تنطلق من تشوكوردجا باستمرار، وتتوغل داخل الأراضي العراقية لمطاردة مقاتلي الحزب. وفي قطاع الحدود الثلاثية المشتركة ايران والعراق وتركيا يستفيد مقاتلو الحزب من طبيعة المنطقة الجبلية الوعرة التي يصل ارتفاعها الى 4 آلاف متر للتسلل الى تركيا. وانطلاقاً من هاكاري يتولى الجيش وأجهزة المخابرات التركية مراقبة الحدود الايرانية حيث تعتبر بلدة يوكساكوفا التي يطلق عليها اسم "بلدة الهيرويين" بوابة عمليات التهريب مع ايران. ومنذ بضعة اشهر يلاحظ العسكريون الايرانيون بقلق ان هذه الحدود التي يتم عبرها تهريب المخدرات، تسمح بعبور مقاتلي حزب العمال الكردستاني الذين يلقون بعض التسهيلات في ايران وعلى الأخص في أورمي.
يجد السائح صعوبة في دخول هاكاري فعند مدخلها حاجز لقوى الأمن بملابس مدنية يوقف السائح ويتعامل معه بلياقة رغم اعتباره مشبوهاً حتى اثبات العكس. وعلى السائح ان يشرح بالتفصيل من هو، وما هي مهنته، وما هو وضعه الاجتماعي. ولا يسمح له بالدخول الا بعد الحاح شديد، وبعد افهامه انه حرصاً على حمايته من الارهابيين سيكون مصحوباً ليل نهار بعنصر من قوى الأمن. وهو لن يخطو خطوة واحدة في الفندق او في الشارع او في المطعم من دون ان يلازمه رجل أمن يحمل جهاز ارسال.
وهاكاري مدينة تحت الحصار اذ ثمة ثلاثة عسكريين اتراك لكل مدني كردي، والدوريات العسكرية تخترق شوارعها باستمرار، والحافلات المصفحة التي تنقل الموظفين العسكريين تحرسها المدرعات. ورغم هذا الوجود العسكري الكثيف فان نساء العسكريين لا يخرجن من منازلهن الا نادراً كأن يقمن بزيارة خاطفة الى مطعم نادي الضباط، وذلك تجنباً للأخطار التي قد يتعرضن لها. وعندما يحل الظلام تسمع في المدينة رشقات من اسلحة اوتوماتيكية.
ليس في هاكاري اي موارد ذاتية، وتجارها يعيشون بفضل حاميتها العسكرية الضخمة، والبازار الصغير على امتداد الجادة الرئيسية على مقربة من تمثال اتاتورك يعطي فكرة واضحة عن الوضع الاقتصادي المتردي في المدينة.
وفي هاكاري مدينة الاشباح موقع واحد يوحي بالحياة الطبيعية هو نادي المدرسين وكلهم من الأتراك اذ لا يحق للمدرسين الأكراد ان يعملوا هناك. وما من مدينة في كردستان تظهر فيها القطيعة بين الأتراك والأكراد سافرة كما هي عليه في هاكاري، فهنا عالمان يعيش الواحد منهما بمحاذاة الآخر من دون اي تواصل او اتصال. انه التمييز العنصري المطلق.
وفي الساعة الرابعة من بعد ظهر كل يوم تعزل المدينة والمنطقة عن سائر انحاء تركيا فيمنع السير على الطرقات بعد مدينة باكال "لدواع امنية" وعندئذ تتصرف قوى الأمن كما يحلو لها بمعزل عن أعين الشهود.
تعتبر درسيم قلعة عسكرية طبيعية، وهي ذات مناظر خلابة الى كونها معقلاً لقادة حرب العصابات، ففي اواخر الثلاثينات احتضنت احدى الثورات الكردية التي كادت تطيح مصطفى كمال أتاتورك. وفي درسيم تعيش مجموعات كردية متمردة لا هي سنية، ولا هي شيعية صراحة، يتولى الجيش التركي تهجيرها بصورة منهجية لتجفيف "المستنقع" الذي ينمو فيه رجال العصابات.
بيرنيك مدينة صغيرة بنيت حديثاً فوق منحدر جبلي على ضفة نهر مورات، وقد عمدت السلطات التركية فيها الى اعادة بناء المساجد الثلاثة لمدينة بيرنيك القديمة التي غمرتها المياه بعد اقامة سد كبان في العام 1974 وهو واحد من مجموعة GAP الغاب التي لا تحصى في المنطقة. لكن اهتمام السلطات بالسكان يتوقف عند هذا الحد، وجميع القرى المجاورة افرغت من سكانها في حلول العام 1994 لأن الجيش لا يسمح الا ببقاء بعض المسنين، وعلى هؤلاء ان يبرروا مشترياتهم من المؤن والسجائر خشية امدادهم رجال العصابات بها.
الطريق الضيقة التي تصل بيرنيك بتانسلي مدينة درسيم القديمة تخترق احدى المناطق الاكثر خصباً في كردستان، الا انها اليوم صحراء حقيقية، فعلى امتداد 50 كلم لا نصادف سيارة او حماراً، والحقول جرداء والقرى النادرة التي نجت من التدمير خالية من السكان.
يحتاج المرء الى قدر كبير من العناد والاصرار ليعبر درسيم على الطريق الواسع الذي ينطلق من تانسلي ويربط بين ارزوروم وأرزنجان حوالي 100 كلم فبعد مغادرته تانسلي يتم انزال السائح من الحافلة بفظاظة، ويؤكد له رجال الأمن ان "مصلحته تقتضي ذلك" فالمنطقة تعج بالارهابيين وهي محفوفة بالاخطار. وعلى التجار القلائل الذين ما زالوا يعيشون في تجمعات سكنية صغيرة وسائقي الشاحنات بين تانسلي وأرزنجان ان ينتظروا ساعات طويلة 3 او 4 ساعات قبل ان يتشكل الموكب الذي تتولى حمايته قوة عسكرية. وبعد ان يقطع الموكب حوالى 30 كلم يتوقف فجأة من دون شرح او مقدمات لكي يتسنى للعسكريين على الارجح تناول الغداء وقضاء القيلولة.
بعد توقف 4 ساعات يتحرك الموكب، ولا يكاد يقطع 20 كلم حتى يتوقف ثانية على مقربة من كيرميزيكوبرو، وهي قرية صغيرة كانت تضم 500 نسمة قبل خمس سنوات اما اليوم فلا يعيش فيها اكثر من 150 نسمة. وقد لا يصدق المرء ان هذه القرية السياحية ذات المنازل المبقورة التي طارت سقوفها، كانت ترتفع فيها خمسة فنادق في العام 1992.
لقد قرّر الجنود الذين كانوا في حالة عصبية شديدة بعدما كاد لغم ينفجر باثنين منهم، ان يقضي الموكب ليلته في كيرميزيكوبرو، وعلى كل واحد ان يتدبر امر مبيته سواء في الشاحنة او في السيارة، علماً ان بعض التجار الاكراد في الموكب يقيم في بولمور على بعد 10 كلم فقط.
وفي الثامنة من صباح اليوم التالي سمح للموكب بالانطلاق على الطريق الواسع بين أرزوروم وأرزنجان في وادٍ عريض تحيط به من الجهة الجنوبية جبال عالية جداً، تحتضن درسيم. انه عالم على حدة وبعض مناطقه مثل منطقة اوناسيك محرّم كلياً على السياح.
ترى هل كان يدور في خلد السياح المنطلقين بسرعة على هذا الطريق الذي يربط انقرة بالمدن الكبرى شمال الاناضول، ان وراء تلك القمم التي تغطيها الثلوج تمتد احدى المناطق الأكثر انغلاقاً في كردستان التركية حيث الجيش يمارس سلطة مطلقة بمنأى عن اعين الفضوليين؟
ديكل: منافع السد
ديكل بلدة يبلغ عدد سكانها 500 نسمة، وهي ما كانت تلفت الانتباه لولا كونها تعاني من نقص المياه مع انها تقع على بعد سبعة كيلومترات من سد تم بناؤه على نهر دجلة.
السلطات التركية تؤكد لمسؤولي البلدة ان المياه التي يحتجزها السد مخصصة لتوليد الطاقة الكهربائية وليس في وسعهم تحويل بعض الامتار المكعبة لري المزروعات في ديكل. هذه عينة من فوائد بناء سدود الغاب G.A.P للسكان المحليين الذين ما زالوا يستقون الماء من النبع القديم في البلدة. اما رئيس البلدية فانه يقضي وقته في استقبال الفلاحين الذين يأخذون عليه انه لا يفعل شيئاً لتحسين الوضع. والبلدية التي تتلقى نظرياً مساعدات من الحكومة المركزية استناداً الى نسبة السكان، لم تتلق شيئاً على الاطلاق منذ اشهر، وهي بالتالي لا تستطيع القيام بأعمال جر المياه، علماً ان موظفيها لم يتقاضوا رواتبهم منذ 16 شهراً.
على رصيف الشارع الرئيسي في ديكل عشرات الرجال يجلسون على كراسٍ صغيرة يحتسون الشاي في انتظار ان تجبرهم الشمس على البحث عن الظل فوق الرصيف المقابل. بعض هؤلاء من سكان ديكل الاصليين وبعضهم من القرى المجاورة التي افرغت من سكانها. يقول احد هؤلاء: "يأتي الجنود ويقولون: اخرجوا من منازلكم، ثم يدمرون كل شيء". ولدى سؤاله: لماذا يقومون بذلك؟ يجيب قائلاً: "لأننا نرفض حمل السلاح لحراسة القرى"، ثم يضيف، انهم يقولون لنا: نحن غير قادرين على بناء مخافر للدرك في كل مكان، ثم يضرمون النار في منازلنا". من اصل 65 قرية في محافظة ديلك دمرت 18 قرية معظمها في شمال المحافظة، وبعضها على بعد كيلومترات فقط من بلدة ديكل. وسياسة التدمير هذه مستمرة ففي اوائل تموز يوليو الماضي هدد العسكريون بتدمير قريتين في المحافظة المجاورة بين هازرو وليتشي.
وهذه المنطقة معروفة بتقاليدها في المقاومة ففي ديكل التي كانت تعرف قديماً ببيران اطلقت الرصاصة الأولى للتمرد الذي قام به الشيخ سعيد في العام 1925. وليس لدى العسكريين اوهام حول هذا الشأن. فخلال لقاء جرى منذ فترة وجيزة مع مسؤولي البلدة اعلن قائد الدرك: "انتم جميعاً رجالاً ونساء ارهابيون!".
تشرح النكات التي يتناقلها القرويون الاسباب التي دفعتهم الى معسكر مؤيدي حزب العمال الكردستاني. يقول احد الفلاحين: "انهم لا يكفون عن مضايقتنا، فعندما يمر جرار زراعي امام مركز من مراكزهم، يفرغون اكياس القمح على الطريق قائلين: اننا نقوم بذلك لنتأكد من انكم لا تخبئون اسلحة". الشباب العاطلون عن العمل يقضون اوقاتهم في المقاهي يلعبون الورق ويلبّون استدعاءات رجال الدرك. وبعد تحقيقات يتعرضون خلالها للضرب، يدفع اليأس هؤلاء الشباب الى الارتماء في احضان رجال العصابات الذين يقيمون معسكراتهم في الجبل شمال المحافظة. وفي المقبرة عشرات القبور التي حفرت حديثاً ليوارى فيها مقاومون شباب قتلوا ودفنوا بدون عناية ولم يتسنّ لعائلاتهم ان تقيم لهم الشعائر الدينية. ويدور الهمس في القرية ان هؤلاء الشباب شوهدوا قبل دفنهم، وأحياناً كثيرة يعود حراس القرى بآذان الضحايا وأنوفهم وبأعضاء مختلفة من جثثهم وهم يتباهون بانجازاتهم العظيمة. لكن احد المسنين يقول: "نحن لن نرحل من هنا. هكذا كانت حياتنا دائماً... هكذا عاش آباؤنا وأجدادنا. وهكذا سيعيش اولادنا".
انتقاماً منهم لمناصرتهم تمرد احسان نوري في العام 1930 اجبر سكان مدينة بايازيت BAYAZIT على هجر منازلهم فوق منحدر الجبل عند اقدام قلعة اسحق باشا، للاقامة في مدينة دوغو بايازيت الجديدة في السهل. وكان سكان كاربوت قد اكرهوا قبل عشرات السنين على النزوح من قلعتهم للاستقرار في مدينة ال أزيغ EL AZIG الجديدة. ولا تزال اطلال مدينة بايازيت القديمة تذكّر - اذا كان ثمة من يحتاج الى تذكير - ان تهجير السكان الأكراد سياسة قديمة العهد.
على مسافة 30 كلم من الحدود الايرانية تقوم مدينة دوغو بايازيت التي يحتلها الجيش على غرار جميع المدن في كردستان وفي حي كبير وسط المدينة تزنره الاسلاك الشائكة وتحرسه المدافع الرشاشة تعيش عائلات العسكريين. في شمال المدينة بنيت قاعدة عسكرية على امتداد هكتارات عدة تتكدس فيها عشرات الدبابات ومئات الشاحنات العسكرية التي يمكن للمرء ان يشاهدها من الطريق الذي يوصل الى قصر اسحق باشا. لكن هذه المعدات ستبقى في المرآب لأن قائد القاعدة خلافاً لسلفه الذي كان فاشياً، ضابط مستنير قضى فترة تدريبه في أوروبا الغربية مع حلف شمال الاطلسي، وعقد اتفاقاً غير معلن مع مقاتلي حزب العمال الكردستاني خلاصته: اذا لم تقوموا بمهاجمتي فأنا لن اقوم بمهاجمتكم" وهكذا يحتل الجيش مواقعه على جبل تندوراك TENDUREK بعد انسحابه من التحصينات التي اقامها في جبل أرارات. ويمكن للفريقين ان ينصرفا الى نشاطات مجزية للغاية: استيراد الوقود والشاي وغيرهما من السلع من ايران. يقول كردي لا يخفي ارتياحه لحسن سير الأعمال: "نحن هنا لا نعرف الا الدولار، فأنا استورد النفط من اذربيجان او أوزبكستان بصهاريج ايرانية ثم أروي الجميع: رجال الشرطة ورجال الجمارك ورجال الأمن السياسي المكلفين بمحاربة حزب العمال الكردستاني. 500 دولار من هنا، 500 دولار من هناك، والفرقاء جميعاً مسرورون وسعداء. وثمة من يستوردون الشاي او سلعاً اخرى من دبي. وآلية العمل واحدة.. والمنافع مشتركة بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني.
يقول احد المهربين الأكراد: "اذا كان الوضع هادئاً، يمكننا ان نوفر المؤن والملابس والمال لحزب العمال الكردستاني، ولكن عندما ينفجر الوضع تتوقف الاعمال، ونصبح في حاجة ماسة الى المال.
ولدى سؤالهم عن تهريب المخدرات يجيب جميع هؤلاء الاكراد ببراءة: نحن لا علاقة لنا بها.. المخدرات تمر عبر يوكساكوفا YUKSEKOVA.
الطريق يقودنا حتماً الى ديار بكر حيث يلتقي ذات يوم جميع الذين طردهم الجيش من منازلهم ومنهم صباحات وهي سيدة في الثالثة والثلاثين قتل زوجها في نيسان ابريل 1994 على مقربة من ساسون. وبعد مقتله بشهرين احرق الجيش منزلها وشردوها مع اولادها الستة كانت تنتظر ولادة السابع على الطرقات.
كانت صباحات محظوظة نسبياً فاستقبلتها عائلتها وهي حالياً تعيش في ديار بكر في شقة متواضعة جداً خلافاً لمئات العائلات المهجرة التي تعيش في اكواخ حقيرة. لكن حياة صباحات تحطمت وهي تواجه صعوبات جمة لارسال اولادها الى المدرسة.
جميع الشهادات التي سمعت كانت متطابقة فأغلبية القرى دمرت بين 1992 و1994. يقول احد الاكراد بسخرية مرة: "لقد دمروا كل شيء الى ان وجدوا انفسهم مكرهين على التوقف" وثمة شهادات عدة تشير الى ان سياسة التهجير مستمرة ولكن بوتيرة اخف. تروي جارة صباحات كيف اوقفت اختها 22 عاماً في حزيران يونيو في قريتها التي تبعد ساعتين سيراً على الاقدام من كولب KULP جنوب بينبول، بتهمة دفعها احد القرويين الى الالتحاق بحزب العمال الكردستاني في الجبل. وبعد شهرين على توقيفها وسحبها جاء رجال الدرك الى اهلها وهددوهم قائلين: "اذا لم ترحلوا سنحرق منزلكم".
وكان الأهل الذين روعهم تهديد رجال الدرك يتساءلون ماذا يجب عليهم ان يفعلوا. هل يتركون كل شيء ليعيشوا في الشقاء ام يبقون معرضين انفسهم لخطر الابادة؟ جاء في تقرير رسمي صدر عن لجنة تحقيق في البرلمان التركي انشئت في العام 1997 ان 900 قرية و3 آلاف دسكرة قد اخلاها الجيش من سكانها. وذكر رئيس بلدية تانسلي ان ما بين 70 الى 80 في المئة من سكان 374 قرية فى محافظته قد تم تهجيرهم. وأشارت لجنة التحقيق البرلمانية الى ان تقريراً لنقابة المهندسين والمعماريين اكد ان سكان ديار بكر تضاعف مرتين خلال خمس سنوات وان ثلاثين في المئة منهم عاطلون عن العمل. ولئن كان خط الفقر في تركيا في حدود 400 دولار فان خط الفقر في كردستان اقل من 200 دولار وثمة عائلات كثيرة لا يتجاوز دخلها 70 دولاراً.
والوضع صعب جداً في خان التي ارتفع عدد سكانها من 150 الف نسمة الى 600 الف نسمة كما ذكر رئيس غرفة تجارتها...
وتقرير لجنة التحقيق البرلمانية حافل بمعطيات مثيرة وبمقتطفات من مقابلات مع رؤساء المدن شرق البلاد تتضمن شهادات فظيعة. الا ان ما اغفله التقرير في خلاصته هو ان الجيش التركي منذ العام 1990 يقوم بأكبر عملية تهجير عرفتها البلاد منذ اواخر الثلاثينات بهدف اقتلاع الشعب الكردي من أرضه وطمس هويته
الاسبوع المقبل:
نصف مليون كردي هائم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.