المنتخب السعودي للفيزياء يحصد 5 جوائز عالمية    بدء أعمال المنتدى الدولي "الإعلام والحق الفلسطيني"    الاتحاد يُتوّج بكأس وزير الرياضة للجودو    "الرياض للبولو" يتوّج بطلاً لبطولة تشيسترز ان ذا بارك    زوجة «سفاح التجمع» تظهر من لندن: نجوت من مصير الفتيات !    كيت ميدلتون.. قد لا تعود أبداً إلى ممارسة دورها الملكي    399 مخالفة على منشآت العمالة الموسمية بالمدينة    مانشيني يواجه الإعلام قبل لقاء الأردن    400 مخالفة على الجهات المخالفة للوائح التعليم الإلكتروني    «الداخلية»: انطلاق الجلسات العلمية لمنتدى الخدمات الطبية    «أرامكو»: 0.73 % من أسهم الشركة لمؤسسات دولية    بعد ياسمين عبدالعزيز.. ليلى عبداللطيف: طلاق هنادي قريباً !    شريفة القطامي.. أول كويتية تخرج من بيتها للعمل بشركة النفط    شرائح «إنترنت واتصال» مجانية لضيوف خادم الحرمين    استقبال 460 حاجاً من ضيوف خادم الحرمين من 47 دولة    المجلس الصحي يشدد على مبادرة «الملف الموحد»    تحديث واتساب يكشف حالة نشاط الأصدقاء    الاقتصاد السعودي.. محركات قوية للنمو المستدام    مستثمرو النفط يتطلعون لانتعاش الأسواق بعد خسارة أسبوعية    القيادة تهنئ ملك الأردن    الأمريكي" غورست" يتوج ببطولة العالم للبلياردو    الأهلي يفاوض كيميتش والنصر يتخلى عن لابورت    "هيئة النقل" تدشن سيارة الرصد الآلي كأول تجربة لها في موسم الحج    الداخلية تستعرض خططها لموسم الحج.. مدير الأمن العام: أمن الوطن والحجاج خط أحمر    أمير القصيم يشيد بجهود "طعامي"    محافظ الأحساء يرأس اجتماع لجنة السلامة المرورية    «فتيان الكشافة» يعبرون عن فخرهم واعتزازهم بخدمة ضيوف الرحمن    «بيئة الرياض»: 3918 جولة رقابية على أسواق النفع العام والمسالخ    قيادات تعليمية تشارك القحطاني حفل زواج إبنه    سعود بن نهار يدشّن الصالة الإضافية بمطار الطائف    الحج عبادة وسلوك أخلاقي وحضاري    11 مبادرة تنفيذية لحشد الدعم الإعلامي للاعتراف بدولة فلسطين    شهد مرحلة من التبادل الثقافي والمعرفي.. "درب زبيدة".. تاريخ طويل من العطاء    وزارة الحج تعقد دورات لتطوير مهارات العاملين في خدمة ضيوف الرحمن    إعادة تدوير الفشل    خلود السقوفي تدشن كتابها "بائعة الأحلام "    90 % من أطفال غزة يعانون سوء التغذية    العطلة الصيفية واستغلالها مع العائلة    تدشين خدمة الربوت الذكي بجوار المسجد النبوي.. مشاهد إيمانية تسبق مغادرة الحجيج المدينة المنورة    رسالة جوال ترسم خارطة الحج لشيخ الدين    "السمكة المتوحشة" تغزو مواقع التواصل    استشاري:المصابون بحساسية الأنف مطالبون باستخدام الكمامة    الدكتورة عظمى ضمن أفضل 10 قيادات صحية    أمير الرياض يطلع على عرض لمركز صالح العسكر الحضاري بالخرج    فشل التجربة الهلالية    انطلاق معسكر أخضر ناشئي الطائرة .. استعداداً للعربية والآسيوية    رئيس جمهورية قيرغيزستان يمنح رئيس البنك الإسلامي للتنمية وسام الصداقة المرموق    وفد الشورى يطّلع على برامج وخطط هيئة تطوير المنطقة الشرقية    التخبيب يهدد الأمن المجتمعي    تغييرات الحياة تتطلب قوانين جديدة !    رئيس الأهلي!    الشاعر محمد أبو الوفا ومحمد عبده والأضحية..!    أمير تبوك يواسي عامر الغرير في وفاة زوجته    قطاع صحي ومستشفى تنومة يُنفّذ فعالية "مكافحة التدخين"    فريق طبي "ب"مركزي القطيف" ينقذ حياة مقيم    نصيحة للشعاراتيين: حجوا ولا تتهوروا    نفائس «عروق بني معارض» في لوحات التراث الطبيعي    توفير الأدوية واللقاحات والخدمات الوقائية اللازمة.. منظومة متكاملة لخدمة الحجاج في منفذ الوديعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حوار شامل مع الشاعر المتربع على السنين وسط شموع السهرات والأحاديث الطويلة . أدونيس ل "الوسط": قيم مجتمعنا مناقضة للحداثة ولا أرى في اليهودي وجه العدو على الإطلاق 1 من 3
نشر في الحياة يوم 02 - 12 - 1996

من بيت والده الفلاح المتواضع الذي علّمه النحو والصرف وقراءه الشعر، والذي كان المعارض الوحيد للزعيم العشائري... الى قائمة المرشحين الدائمين لجائزة نوبل، اجتاز أدونيس الوعي الثقافي العربي، كما كان يجتاز في طفولته الدروب الوعرة شبه حاف، بين القرية النائبة ومدرسته الاولى: مدفوعاً بقوة خفية ستجعله رمزاً من رموز الحداثة العربية، عند ذاك المنعطف البارز الذي شكل ملامح النصف الثاني من قرننا المنتهي. في مناسبة صدور اعماله الكاملة في طبعة جديدة، نستعيد محطات في مسيرة وتجربة صاحب "أغاني مهيار الدمشقي" الذي لا يزال الزمن بالنسبة اليه هو المستقبل.
تنور لحية أدونيس القصيرة وجهه الأسمر. يتكلم بصوت خفيض، أخشى ان آلة التسجيل نفسها لا تلتقطه. وحين ندير الآلة للتأكد نسمع صوتاً على حدة، ضعيفاً، عميقاً، كأنه بالكاد يصل الى الخارج. جعلت اللحية البيضاء وجهه قريباً وحنوناً. انه العمر الذي ليّن زواياه ورقّق بشرته ولطّف نظرته. لقد بات لونه الرملي أطرى، وعيناه العميقتان اكثر ماء. يذكرني من حيث لا أدري بهمنغواي الشيخ. انه الآن حقاً شيخنا. هو الذي غدا من شبابه شيخاً في الشعر، وشيخاً في النظرية. انه العمر الذي يتحول الى شفافية والى صبر. حين زاره فريق تلفزيوني لتصوير حلقة معه، تعجب الفنيون من لينه وطول أناته. لم يعترض حين طلع شريط التسجيل الاول بلا صوت. رجع الى كرسيه وأعاد الحديث.
خلال حوارنا كان يستدرجني الى اسئلة سجالية. لكن من الصعب ان تفاجئ أدونيس. ليس لأنه عجن الأسئلة واختبرها كلها فحسب، بل ايضاً لأن جدله ومنطقه متماسكان الى حد يجعلهما بلا ثغرة او منفذ. كان يجلس على الكنبة الزرقاء نفسها التي رث طرفها الآن، تلك الكنبة الأليفة لعدد لا يحصى من مثقفي بيروت وزوارها. تحت اللوحة التي كانت ذات يوم لفاتح المدرس. كان البيت مسكوناً لا باللوحات والكتب فحسب، انما بالحنين، بشموع السهرات والحوارات الطويلة. كأن الطرف الذي رث من الكنبة نوع من شاهد زمني. أدونيس لا يجلس على الكنبة، بل ايضاً على السنين التي كيفما انقضت استحالت الى رضى. فالرجل الذي لا يقول ابداً انه راض عن نفسه، يشع وجهه برضى لا تردد فيه، ولا ندم. "لم أفعل ما أريده" يقول: لكنك تعرف انه لا يتربع على عمر من الثقافة العربية كلها.
خالدة السعيد، رفيقة دربه، والناقدة البارزة، اختفت اثناء الحديث. كانت تعلم ان حضورها - ولو صامتاً - تدخل كبير. مجلداته بكل اللغات مكومة حولنا، وأدونيس يشيل منها ويحط. قبل فترة قصيرة، أعادت "دار المدى" الدمشقية اصدار مؤلفاته الكاملة. ثمة مناسبة دائماً لمحاورة أدونيس.
* نبدأ من طفولتك، دعنا نتكلم عن البيت الذي ولدت فيه، عن أبيك.
- لم اعرف الطفولة التي يعيشها الناس عادة. منذ صغري، منذ نموي الاول وجدت نفسي كبيراً، كنت دائماً مع الكبار. أذهب وإياهم الى الحقول. نزرع، نحصد، لم يكن لدي وقت خاص استمتع فيه بطفولتي، كما يفعل اطفال اليوم. احاول الآن ان اتخيل طفولتي التي لم اعشها. اسعى الى اكتشافها، اريد في شيخوختي ان اعيشها ثانية. ولدت في بيت فلاح متواضع هو الذي علمني، اضافة الى الكتّاب. علّموني في الكُتّاب الخط وتجويد القرآن، وعلمني هو النحو والصرف وقراءة الشعر.
* عشت في مجتمع ذي تقاليد قوية. ألم تعان منها؟
- اطلاقاً. في اللحظة التي كان عليّ ان اشعر فيها بهذا التقليد، كنت غادرت القرية وبت بعيداً. اما قبل ذلك فحظيت بحب الجميع وتدليلهم تقريباً. ربما لأنني كنت بكر أبي. لم اشعر طيلة اقامتي في القرية بوطأة التقاليد.
خطبوا لي وأنا في الثالثة عشرة
* تكلمت عن طفولة جدية. هل كان ذلك لأنك البكر؟
- في الوسط الذي عشت فيه لم يكن هناك من يكترث بالطفولة، او يعطي اعتباراً لوعيها وعيشها.
* في مجتمعك كما أعلم، هناك نوع من تسليك الاطفال في الطائفة. اي يكون لكل طفل شيخه الذي يؤهله روحياً. أين كنت من ذلك؟
- كان بين أبي وبين أحد الشيوخ صداقة فكرية وسياسية ايضاً. غدا هذا الشيخ شيخي في طفولتي. تتلمذت مدة عليه. اما الصداقة بينه وبين أبي، فكانت تعود الى كونهما المعارضين الوحيدين في المنطقة للزعيم العشائري السياسي. وقد تحمل أبي الكثير بسبب هذه المعارضة.
* هل تذكر لنا شيئاً مما تحمله أبوك؟
- استلف الزعيم مالاً من أحد المصارف باسم أبي. زوّر اسمه وتوقيعه، واضطر أبي الى تسديد هذه المبالغ من ماله.
* هل يمكن الكلام على وجدان علوي؟
- العلويون على المستوى الثقافي جزء اساسي من الشيعة، وليست لهم هوية تراثية منفصلة عن الهوية الشيعية. القرآن الكريم اساس في هذه التربية، القرآن قراءة وفهماً.
* هل يمكن الكلام على وجدان كربلائي؟
- هيام العلويين بأهل البيت وبالحسين اعمق مما يوصف. مع ذلك ليس لديهم الاحتفال الشيعي التقليدي بمأساة كربلاء.
* أحساس عميق بالاضطهاد؟
- هناك شعور بالاضطهاد والظلم والاهمال والتهميش، لكنه شعور قلما يجدون القدرة على التعبير عنه. اللهم الا في القصائد التي يتناشدونها ويتداولونها في مجالسهم. شعور غائر مكبوت في النفس.
* ماذا عن تعليمك قبل أن تغادر القرية؟
- لم أتعلم في القرية لم تكن فيها، ولا في كل المنطقة، أية مدرسة.
* لم يكن سوى الشيخ والكتّاب؟
- أقرب مدرسة لضيعتنا كانت تبعد مسافة ساعة، مع ذلك لم أتردد في الذهاب اليها. كانت الطريق صعبة، ويفصلنا عنها نهر يفيض في الشتاء. مرة كاد النهر يأخذني لولا ان أنجدني واحد يكبرني سناً. بعدها لم اعد اليها، فضلت ان ابقى في الضيعة بلا مدرسة.
* حتى أي سن؟
- حتى الثانية عشرة او الثالثة عشرة.
* بقيت حتى هذا العمر في القرية؟
- طبعاً. وكنت أشارك في اعمال الفلاحين من فلاحة وحصاد وزراعة تبغ.
* بدأت الحياة باكراً اذاً؟
- في إصبعي حتى الآن اثر من الحصاد. كاد المنجل مرة ان يقص اصبعي.
* اف!
- كنت أقوم بدراسة القمح على البيدر. ونصبت مرة عرزالاً في حضن شجرة توت، امام بيتنا، لأنام فيه.
* ذلك يعني انك كدت تبقى فلاحاً؟
- تماماً. وحاولت امي ان تزوجني في سن مبكرة جداً.
* في اي سن؟
- بين الثالثة عشرة والرابعة عشرة.
* في هذه السن؟
- لم تكن سن زواج، كانت العادة ان يخطبوا لأبنائهم في هذه السن وينتظرون الى ان يحين سن الزواج. بالنسبة اليّ حاولوا. أمي هي التي حاولت، لا ابي. لكني رفضت.
* لماذا رفضت؟
- لا أدري، مدفوعاً بقوة داخلية غامضة.
* هل كانت جميلة تلك التي أختاروها خطيبة لك.
- طبعاً.
* كانت من العشيرة.
- تكون الخطيبة اجمالاً من الاقارب، وقد يحصل استثناء فتأتي من مناطق بعيدة.
لولا تلك القصيدة...
* هناك تلك القصة المثيرة، القصة الغريبة التي لولاها لكنت الآن، على الارجح، فلاحاً...
- هل ينبغي ان أكررها؟ سأختصر. حتى الثالثة عشرة كنت لا ازال فلاحاً. ولا اجد فرصة للتعليم. عندما استقلّت سورية وتحولت جمهورية، انتخب شكري القوتلي اول رئيس لها. وقرر الرئيس ان يزور المنطقة، فخطر لي، لا أعرف كيف، ان أنظم قصيدة ألقيها امامه. وتخيلت انها ستعجبه، وأنه سيناديني بعد سماعها ويسألني ماذا أريد، فأجيبه: أريد ان أتعلم. ويستجيب لي، فيأمر بتحقيق رغبتي. كتبتُ القصيدة وقرأتها لأبي فاكتفى بالقول: "يا بني لا اعرف كيف يمكنك ان تصل الى رئيس الجمهورية وتقرأ القصيدة. لكن افعل ما بدا لك والله يوفقك"، وتركني. في اليوم المحدد لزيارة الرئيس، قصدت الى حيث الحشد المجتمع لاستقباله.
* أين كان ذلك؟
- على الطريق العام، قريباً من قرية زعيم العشيرة الذي كان بطبيعة الحال المشرف على الاستقبال. انه الزعيم الذي يعارضه أبي، لذا امتنع هذا الاخير عن حضور الاحتفال.
* ما اسم القرية؟
- "دوير الخطيب" عندما وصلت وجدت الناس متجمهرين لاستقبال الرئيس، عرّفني بعضهم وأطلعته على نيتي في القاء القصيدة، فوصل الخبر الى زعيم العشيرة الذي غلبه كرهه لأبي فأمر بطردي. قال: "يقرأ قصيدة لرئيس الجمهورية وأنا أسمعه؟ أخرجوه!". فأخرجوني.
قلت أذهب الى المدينة، الى جبلة. كانت قريبة وسلكت اليها طريقاً مختصرة، قادومية، في الحقول تحت المطر. لم أكن أعرف أحداً أتوجه اليه، هدتني اللافتات الى رئيس البلدية فذهبت اليه، مدفوعاً بقوة غريبة. كنت ألبس قنبازاً لكنني شبه حاف، والمطر قد بللني. فوجئ رئيس البلدية بمجيئي، وسألني عمّ أريد. قلت: "بدي ألقي قصيدة لرئيس الجمهورية". قال: "إقرأها لي". قرأتها. بدا مسروراً لسماعها، وعندما انتهيت قال: "سوف تلقيها". كان اسمه، رحمه الله، ياسين علي أديب. وأردف: "لست أنا المسؤول عن الاستقبال. المسؤول هو القائمقام"، وكان اسمه عبد الله الياس. تلفن له وقال له: "عندي طفل آت من الجبل، ولديه قصيدة يريد أن يلقيها امام رئيس الجمهورية. أرجوك ان تستمع الى القصيدة وأن تسمح له بإلقائها". ذهبت لرؤية القائمقام. وجدته مجتمعاً مع كبار الموظفين في انتظار قدوم الرئيس. قال: "إقرأ لنا القصيدة يا بني". قرأتها. سر الحاضرون، وقال لي: "سوف تلقيها. انزل الآن الى ساحة السراي. وسوف نناديك عندما يأتي دورك".
نزلت الى الساحة ولم تمض لحظات حتى وصل الرئيس. تتابع الخطباء، وجاء دور الرئيس للكلام. نسيني القائمقام أو أهملني. لحظة اطلالة رئيس الجمهورية من شرفة السراي لالقاء خطابه، وقبل ان يباشر كلامه، مر بي احد الذين سمعوني عند القائمقام. كان عبد الرزاق المحمود مدير دائرة نفوس جبلة آنذاك. وسألني بغضب: "كيف ما خلّوك تقرا؟"، وشتم القائمقام. أمسكني من يدي وصرخ بأعلى صوته: "يا فخامة الرئيس هذا طفل آت من أعالي الجبال، لكي ينقل الى فخامتكم مشاعر أهل الجبل. وأرجوكم ان تستمعوا اليه". قال الرئيس "هاتوه". فرفعني الرجل ووضعني على المنصة في ساحة السراي. ألقيت القصيدة فلاقت استحساناً كبيراً من الجميع ومن رئيس الجمهورية الذي اخذ شطراً من القصيدة، وبنى عليها خطابه.
بالقنباز في ال "لاييك"
* هل تذكر هذا الشطر؟
- كلا. لا أذكره. عندما انتهى الرئيس من خطابه، دعاني اليه فصعدت. احتضنني وقبلني، وسأل: "ماذا نفعل لك؟". قلت: "أريد أن أتعلم". جرى ذلك تماماً كما تخيلته. "سنعلمك!"، قال الرئيس. وأشار الى احد مرافقيه، وكان نائباً يدعى رياض عبد الرزاق، قائلاً: "سيتكفل بأمرك فارجع اليه". بعد حوالي عشرة ايام، جاءني تبليغ بالذهاب الى المدرسة ال "لاييك". كانت هذه مدرسة بورجوازية بين أهم المدارس في سورية آنذاك. وهي تابعة للبعثة العلمانية الفرنسية في طرطوس. دخلتها في أواخر سنة 1943 بالقنباز وبقية الزي الفلاحي. أمضيت فترة في هذا اللباس، وكنت موضع استغراب وحفاوة من قبل التلاميذ جميعاً.
* كيف؟
- لغرابتي. كان التلامذة من أوساط بورجوازية، ولباسهم مدني، فإذا بينهم ولد غريب يلبس القنباز! بقيت في الزي الفلاحي ثلاثة اشهر، وفي النهاية أحضروا لي بدلة. وكانت هذه فضفاضة جداً علي، فغرقت فيها لدرجة انني تمنيت لو انني لم أتخلَ عن القنباز ضاحكاً.
* تنازعتك الاحزاب في المدرسة؟
- ما إن دخلت المدرسة حتى بدأ الحزبيون، وكانوا أساساً شيوعيين أو سوريين قوميين، يسعى كل من جهته، الى استمالتي. كان الحزب السوري القومي هو المسيطر، لكن مسؤول الحزب الشيوعي واسمه سعيد بشور أحاطني برعاية خاصة. لم أنتسب الى اي حزب. بل بالعكس، حاولت مع بعض الاصدقاء ان نؤلف حزباً خاصاً بنا ضاحكاً. ذات صباح رأينا في باحة المدرسة طلاباً مطرودين. ولما سألنا عنهم، قيل لنا: هؤلاء اعضاء في الحزب السوري القومي تظاهروا ضد الانتداب الفرنسي، فطردوا. قلت لأصدقائي اذاً هذا هو الحزب الذي سننتمي اليه! وبالفعل انتسبت الى الحزب القومي قبل ان اطلع على أفكاره ومبادئه.
السنة التالية أغلقت المدرسة في خضم معركة الاستقلال، والمظاهرات الضخمة التي قامت في سبيل الجلاء. أذكر حادثة مروعة جداً: جُمعت أكداس من الكتب الفرنسية في الساحة وأضرمت فيها النار. ولم يكن في مقدوري ان افعل شيئاً آنذاك الا الغضب الصامت، مع انني كنت بدأت أتصدّر النضال الطلابي.
أُنشئت مدرسة متوسطة رسمية، وعيّن لها مدير يدعى سليم عرنوق. وكان حازماً في تطبيق النظام المدرسي، فقرر لي الدخول الى الصف الثاني المتوسط. وهو الصف الذي كنت فعلاً أتدرج اليه، غير اني قررت ان في استطاعتي تجاوز هذا الصف الى سنة الشهادة المتوسطة "البروفيه". ولما رفض قلت له: إذا بقيت على موقفك، فستضرب المدرسة كلها. ولم يقتنع، فأضربت المدرسة فعلاً واضطر الى قبولي في صف البروفيه.
سحر انطون سعادة
* هل التقيت بانطون سعادة؟
- مرتين. واحدة في بيروت، والثانية في اللاذقية اثناء جولة قام بها على المراكز الحزبية في سورية.
* هل تذكر انطباعاتك؟
- كنت في حوالي السابعة عشرة، وانطباعي انه كان ساحراً كثير الجاذبية، مؤثراً للغاية. وكان، فضلاً عن ذلك، متواضعاً. أذكر هذا مثل الحلم، لا أذكر تفاصيله، ربما لفرط انبهاري به.
* نلاحظ انك في ما ترويه عن طفولتك، وحتى عن مراهقتك، لا تجزم. كأنك غير متأكد من ذاكرتك...
- هذا صحيح. ربما بسبب الظروف الصعبة التي عشت فيها، أو لعلي كنت مأخوذاً كلياً بالمستقبل. ولا أزال أشعر ان الزمن بالنسبة الي هو المستقبل، لا الماضي ولا الحاضر. حين يكون المستقبل هاجسك وشغلك الشاغل، فهذا يؤثر على الذاكرة، وقد يلغيه في جوانب كثيرة منه. ذاكرتي صارت ذاكرة عمل واستشراف، اكثر منها ذاكرة استدعاء او استعادة استحضار. صحيح انني أنسى أشياء مهمة جداً، لكنني في الحقيقة سعيد بهذا النسيان. لا أتذكر إلا الشيء الثمين، الراسخ في اعماقي، والذي يمكن ان يسهم في هذا المستقبل.
* نعود الى سعادة، كيف كان وقع اعدامه عليك؟
- كان مروعاً للغاية. فتأثري بفكر سعادة كان ايضاً مهجوساً بالمستقبل، بالتغير وبناء حياة جديدة. شعرت ان قتله نوع من قتل صورة جميلة وعميقة عن المستقبل. ونوع من قتل شيء حميم وغني ومحرك في داخلي. أفكاره في ارساء الدولة المدنية، والمجتمع العادل، والانفتاح الحضاري، والسلالة التاريخية، اي تمازج العناصر التي يتكون منها المجتمع وانصهارها. كلها أفكار جديرة بأن تسهم في بناء المستقبل.
* ألا تنسى الكبرياء القومي؟
- لم يكن يهمني كثيراً. أتحدث عن الجانب الفكري او عن تأويلي الخاص لأفكار انطون سعادة. للمناسبة كنت دائماً، في ما يتعلق بهذا التأويل، على خلاف مع المؤسسات القيادية.
* ذكرت لقاء لك بسعادة في بيروت.
- نعم. ذات مرة أعلنت جمعية العروة الوثقى في الجامعة الاميركية، عن مسابقة شعرية في موضوع اليتيم. كنت يومها لا أزال طالباً في اللاذقية في صف البكالوريا، فكتبت قصيدة وأرسلتها، وكم كانت مفاجأتي كبيرة عندما فازت. ضمت لجنة التحكيم بين أعضائها الياس خليل زخريا، وعبد الله العلايلي وغيرهما... استُدعيت لتسلّم الجائزة والقاء القصيدة في الجامعة الاميركية. كانت هذه مناسبة للقدوم الى بيروت، ومناسبة للقاء الزعيم ايضاً.
* هل كان اللقاء منفرداً؟
- ضمني واياه مع شخص ثالث على ما أذكر.
* ما هو انطباعك عن اللقاء؟
- مزيج من الانبهار والانسحار.
* لا تذكر وقائع.
- لا أبداً.
الهامشيون خلقوا الهوية العربية
* هل يمكننا ان نعتبر ان "الثابت والمتحول" محاولة لابتكار ماضيك الشخصي؟
- نعم بمعنى ما. لكن الأطروحة كانت اشمل من ان تكون ماضيّ الشخصي. "الثابت والمتحول" هو خلق الماضي الابداعي لحاضرنا برمته، وهو أنا أيضاً بهذا المعنى.
* في "الثابت والمتحول" ثنائية متلازمة. ينقسم التاريخ الى اثنين. تاريخ جامد وتاريخ متحرك. تاريخ ميت وتاريخ حي. وأنت تختار من هذا التاريخ ما تريده ان يكون تاريخك. او ماضيك الشخصي.
- هذه قراءة يتيحها العنوان. فالثنائية التي يحملها أدت الى مثل هذا الحكم. لكن الدخول عميقاً في قراءة "الثابت والمتحول" يرينا ان التسميتين ليستا سوى اصطلاحين. فالثابت لم يكن ثابتاً دائماً، والمتحول لم يكن متحولاً دائماً. هناك تبادل في المواقع، وثمة جدل عميق وداخلي بين ما سميته ثابتاً وما سميته متحولاً.
تاريخ قتل
* هل تقيم معارضة بين الواقعي السياسي التاريخي وبين الباطني الصوفي المثالي الرفضي بمعنى ما؟
- المثالي الصوفي الرفضي تأخذه على المستوى الفردي، ويختلف الامر اذا نقلته الى المستوى الجماعي. يصعب في نظري، وبحسب معرفتي، وجود جبهة صوفية باطنية مثالية ضد الجبهة الواقعية. الجبهة الصوفية المثالية فردية دائماً، بينما الجبهة السياسية متراصة، متماسكة، نسيجها المال والمصالح. ومن الصعب المقارنة بين الجبهتين.
* أنت باختصار منحاز الى الوجداني المثالي الصوفي؟
- من دون شك.
* هذا هو ماضيك الشخصي؟
- انا منحاز كلياً لمن تسميهم الهامشيين والرافضين والثوريين. لأن هؤلاء هم، عملياً الذين كتبوا التاريخ العربي... الذين خلقوا الهوية العربية, بينما خلقت الجبهة الثانية الادارة والسلطة. وهذا مهم، لكن الزمن يتخطاه. اذا قارنت بين خلفاء الأمويين والعباسيين وبين شعرائهم، وجدت ان الهوية العربية حقيقة في الشعراء لا السلطة والادارة.
* تصف الواقع العربي بأنه منحط. أليس لذلك جذور في الماضي؟
- نعم. عندما تحولت السلطة الى غاية، وصار كل شيء في سبيلها. صار المال والانسان في خدمتها.
* من يقرأ الجزء الاول من ديوانك الاخير "الكتاب"، يرى ان الأمر ابعد. التاريخ ليس بالنسبة اليك سوى ترد وقتل واعتداء.
- حين تكون السلطة غاية ويسخر في سبيلها كل شيء، لا يعود هناك حوار بين الانسان والانسان: اذا لم تكن معي فأنت ضدي، وأنت عند ذلك كافر لا بد من قتلك. وبالتكفير يغدو القتل سهلاً وطبيعياً.
* لكن الحاضر في كتاباتك مدعاة لليأس. يأسك يبدو جوهرياً، كما لو ان التردي العربي في نظرك شبه بنيوي.
- لا، ليس جوهرياً. لسبب بسيط، لو ميزت بين العربي الفرد والعربي داخل المؤسسة والسلطة، لوجدت ان العربي الفرد مثل غيره مبادر، خلاق ومبدع.
* صرفت حياتك الابداعية تدعو الى الحداثة. وأنت تتكلم اليوم عن استحالة هذه الحداثة.
- مجتمعنا، كما سبق ان ذكرت مراراً، قائم على فكر وقيم مناقضة للحداثة، ولكل ما هو حديث. لذا يستحيل تحديث المجتمع العربي اذا لم تتهدم البنى التقليدية القائمة.
* هل يعني ذلك اننا ما زلنا في حالة عجز عن تأسيس دولة ومجتمع بالمعنى الحديث؟
- من دون شك. ما نعيشه اكبر دليل على ذلك. لكن المفارقة هي في كون المجتمع يستفيد من شتى وسائل الحداثة، ويستمر في رفض المبادئ العقلية التي أدت الى انتاج هذه الوسائل. انها مفارقة بلا حل.
* والثقافة القومية اليسارية التي تعتبر معارضة؟
- هذه ثقافة ذات بنية دينية في جوهرها. بنية مغلقة وكلية، وتدّعي امتلاك حقيقة كاملة وجاهزة.
* ليس في ثقافتنا إذاً ما يستحق البقاء؟
- كلا.
* أليس هناك، على الأقل، بذور يمكن ان تتطور مع الزمن؟
- المشكلة هنا هي المؤسسة التي لا تزال عامل كبح وتجميد.
لا أعرف بالضبط ماذا أقول
* أنت واحد من قلة لها حضور عالمي بين العرب. ماذا تريد ان تقول للعالم كمثقف عربي، كشاعر عربي؟
- لو كنت اعرف ما أقوله، او ما اريد ان اقوله، لهانت مشكلتي. وربما لم يعد عندي اي مشكلة. فما اقوله، لا اعرف بالضبط ما هو. لكن الآخر الذي يقرأني يجد ان لدي ما اقوله له. هذا ما كتبه بعض من قرأوني في العالم. وجدوني، في آن واحد مؤتلفاً معهم من جهة، ومختلفاً من جهة اخرى. لا اريد ان اتحدث عن ائتلافي، ولا عن اختلافي. انا اكتب نفسي ولا اعرفها.
* عندك ميل الى مقابلات بين تحارب عربية وأخرى أجنبية: الحلاج/ رامبو، الصوفية/ السوريالية، بودلير/ أبو نواس... ما حصيلة ذلك؟
- كل هذا من باب جدالي. أقول للعربي، للشاعر العربي، انني مع الانفتاح على الآخر. وأعتقد ان الآخر ليس مجرد اجنبي، بل هو بعد اساسي وتكويني من أبعاد الذات. والآخر هو الصورة الاخرى للذات. هذا ما لا اتردد في قوله، وما لا ازال ادعو له. لكن له شرطاً. شرطه ان تعرف ذاتك، او تحاول معرفتها. واذا لم تعرف من أنت، امتنع عليك ان تعرف الآخر او ان تتفاعل معه. فأنت ستنقله آنذاك نقلاً.
قبل أن تعرف بودلير عليك ان تعرف الشاعر العربي الذي عاش تقريباً المشكلات نفسها. إقرأ أبا نواس لتفهم حقيقة بودلير وشعره. إقرأ التصوف لتحسن فهم المتصوفة الغربيين، او لتحسن فهم رامبو نفسه. بعض ما قاله آرتور رامبو سبقه اليه المتصوفة مراراً وبأشكال مختلفة. تحسن فهم صاحب "الاشراقات" اكثر حين تعرف التصوف. بهذا المعنى الجدلي، أجريت مقابلات بين العرب والأجانب. كيف افهم مثلاً علاقة مالارميه باللغة، اذا كنت اجهل علاقة أبي تمام باللغة.
* هل نفهم من كلامك ان الحداثة الفعلية عند العرب كامنة في قديمهم؟
- نعم، تقرأ لدى بودلير عن جمال الحياة اليومية، جمال العابر الذي يتحول الى أبدي... والبحث عن الأبدي في الزائل، او تحويل الزائل الى لحظة أبدية. هذه التجربة ألم يعشها، الى أعمق ما يمكن، أبو نواس؟ ألم يعبّر بالحرف. الشعراء يتقاطعون في المفهومات والرؤى. لكن طريقة التعبير عن هذه المفهومات والرؤى تختلف من لغة الى لغة، ومن شاعر الى شاعر. ما من شاعر في العالم يستدعي الموت او الحب او البطولة كموضوعات، الشاعر يفكر بعلاقات، والموضوعات عامة مشتركة. لذلك أكرر اننا، لكي نفهم العلاقات التي خلقها بودلير على سبيل المثال، او مالارميه، بين اللغة والشيء وبين اللغة والحياة، يتحتم علينا ان نفهم العلاقات التي خلقها أبو نواس وأبو تمام داخل لغتنا.
ثمة اكثر من غرب
* الآخر الذي تتكلم عنه هل هو اليهودي؟
- الآخر هو الانسان بالمطلق. خارج كل انتماء عرقي، او قومي او جنسي.
* ألا ترى في اليهودي وجه العدو؟
- لا، لا ارى فيه وجه العدو اطلاقاً. اكثر من ذلك، تراثنا الاصلي يستعيد التراث اليهودي استعادة شبه كاملة. فكيف ارى في هذه الاستعادة عداء لليهودية؟
* التطبيع اذاً قديم؟
- الآخر، سواء كان يهودياً او غير يهودي، طبقات. هناك آخر عسكري، وآخر اقتصادي، وآخر عدواني وارهابي... بحيث يستحيل مثلاً ان اضع رامبو وبدلير وهولدرلين في كفة واحدة مع مكنامارا والعسكرية الاوروبية او الاميركية. هناك طبقات عديدة للآخر، وطبقات عديدة لما نسميه الغرب. لا غرب واحداً، ثمة اكثر من غرب. ما من شرق واحد، ثمة اكثر من شرق. ومن جهة اخرى، ما نسميه اليوم تطبيعاً ثقافياً بين العرب واليهود قائم من القدم. قائم على مستوى النصين الاساسيين. موجود في الاصل في الطبيعة التاريخية والدينية.
لنطرح سؤالاً بسيطاً: على ماذا قامت اسرائيل؟ على تراثها الديني اولاً، وهو مشترك على نحو ما مع الآخرين... وعلى التقنية الغربية ثانياً، وهي الاخرى مشتركة في قليل او كثير مع العرب. والفرق بين العرب والاسرائيليين في هذه الناحية فرق درجة، لا نوع. بيننا وبين اسرائيل اذاً حديث على المستوى الثقافي العام، الديني والتاريخي والتقني. لذا لا افهم ما يقال عن التطبيع الثقافي، الا اذا اريد به التغطية على التطبيع الاساسي: التطبيع الاقتصادي والسياسي، والتطبيع على مستوى المؤسسات الاعلامية وبقية الاجهزة. هذا ما لا دخل للمثقف به ولا يستشار فيه. فهو من شأن الانظمة.
ثم ان لفظة التطبيع نفسها، من خارج الثقافة الحية. فالثقافة الحية عصيان، وعصيان مضاد. ولا يمكن ان يكون هناك تطبيع داخل اللغة الواحدة والثقافة الواحدة. وإلا فمعنى ذلك ان هذه اللغة وهذه الثقافة جثث.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.