أمير تبوك يستقبل الأمين العام لمجلس منطقة جازان    فيصل بن بندر يرعى حفل التميز لخريجي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية .. غدا    أمير المنطقة الشرقية يفتتح يوم المهنة ال39 بجامعة الملك فهد    القدية تطلق أكواريبيا.. أكبر متنزه ترفيهي مائي في المنطقة    السعودية وبريطانيا تبرمان اتفاقية لإنقاذ جوعى الصومال    لماذا شرعت روسيا في إجراء تدريبات نووية؟    وزير العدل يفتتح المؤتمر الدولي للتدريب القضائي في الرياض    أغسطس «2020».. آخر فوز للراقي    بسبب الهلال..عقوبات من لجنة الانضباط ضد الاتحاد وحمدالله    الرئاسة الفلسطينية تحذر: إسرائيل تخطط ل«أكبر جريمة إبادة جماعية» في رفح    مخبأة في حاوية بطاطس.. إحباط تهريب أكثر من 27 كيلوغراماً من الكوكايين بميناء جدة الإسلامي    "آلات" تطلق وحدتَي أعمال للتحول الكهربائي والبنية التحتية للذكاء الاصطناعي    تعليم الطائف ينظم اللقاء السنوي الأول لملاك ومالكات المدارس الأهلية والعالمية    تقديم الإختبارات النهائية للفصل الدراسي الثالث بمنطقة مكة المكرمة.    هيئة الأمر بالمعروف بنجران تفعّل حملة "الدين يسر" التوعوية    وحدة الأمن الفكري بالرئاسة العامة لهيئة "الأمر بالمعروف" تنفذ لقاءً علمياً    انطلاق "مهرجان الرياض للموهوبين 2024".. غداً    في نقد التدين والمتدين: التدين الحقيقي    مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية يُنظم مؤتمرًا دوليًا في كوريا    ارتفاع أسعار الذهب    550 نباتاً تخلق بيئة نموذجية ب"محمية الملك"    وزير الدفاع يستعرض العلاقات الثنائية مع "كوليبالي"    "المرويّة العربية".. مؤتمر يُعيد حضارة العرب للواجهة    أمطار ورياح مثيرة للأتربة على عدد من المناطق    «كلاسيكو» تأكيد الانتصار أم رد الاعتبار ؟    اللذيذ: سددنا ديون الأندية ودعمناها بالنجوم    80 شركة سعودية تستعرض منتجاتها في قطر    «التعليم»: أولوية النقل للمعلمين لنوع ومرحلة المؤهل العلمي    السعودية.. الجُرأة السياسية    5 مشروبات تكبح الرغبة في تناول السكَّر    سمو ولي العهد يهنئ ملك مملكة هولندا بذكرى يوم التحرير في بلاده    انطلاق بطولة كأس النخبة لكرة الطائرة غدا    محافظ الطائف يناقش إطلاق الملتقى العالمي الاول للورد والنباتات العطرية    المجرشي يودع حياة العزوبية    «عكاظ» ترصد.. 205 ملايين ريال أرباح البنوك يومياً في 2024    تدخل عاجل ينقذ حياة سيدة تعرضت لحادث مروري    وصول التوءم السيامي الفلبيني إلى الرياض    بدر بن عبد المحسن المبدع الساعي للخلود الأدبي    هدف لميسي وثلاثية لسواريس مع ميامي    القادسية لحسم الصعود أمام أحد.. الجبلين يواجه العين    وزير الموارد البشرية يفتتح المؤتمر الدولي للسلامة والصحة المهنية    100 مليون ريال لمشروعات صيانة وتشغيل «1332» مسجداً وجامعاً    السعودية وأميركا.. صفحة علاقات مختلفة ولكنها جديدة    فيصل بن نواف: جهود الجهات الأمنيّة محل تقدير الجميع    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على بدر بن عبدالمحسن    فيصل بن مشعل: يشيد بالمنجزات الطبية في القصيم    المعمر، وحمدان، وأبو السمح، والخياط !    عزل المجلس المؤقت    تقدير دعم المملكة ل "التحالف الإسلامي لمحاربة الإرهاب"    أمراء ومسؤولون وقيادات عسكرية يعزون آل العنقاوي في الفريق طلال    مهرجان الحريد    "سلمان للإغاثة" يُدشِّن البرنامج الطبي التطوعي لجراحة القلب المفتوح والقسطرة بالجمهورية اليمنية    البحث عن حمار هارب يشغل مواقع التواصل    تأملاّيه سياسية في الحالة العربية    الدور الحضاري    رحيل «البدر» الفاجع.. «ما بقى لي قلب»    إستشارية: الساعة البيولوجية تتعطَّل بعد الولادة    لا توجد حسابات لأئمة الحرمين في مواقع التواصل... ولا صحة لما ينشر فيها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السلطة والمال والسياسة ومحطات الذاكرة رفيق الحريري : اقترحت تكليف صائب سلام لتحاشي مشكلة الحكومتين 2 - قسم أول
نشر في الحياة يوم 06 - 03 - 1995

عندما أطل رفيق الحريري على الساحة السياسية رئيساً للحكومة ونجح مجرد ذكر اسمه في وقف تدهور العملة اللبنانية وقع كثيرون في خطأ الاعتقاد بأن الجمهورية المرتبكة لم تجد امامها غير الاستعانة ب"رجل اعمال ناجح" ربما ساهم في ترسيخ هذا الاعتقاد امتناع الحريري عن الحديث عن دوره في الثمانينات. وستظهر هذه الحلقة على نحو قاطع ان الحريري الذي يعتبر اللاعب الابرز في التسعينات كان لاعباً مهما على المسرح السياسي في العقد الذي سبقها. فمعظم الوساطات ومحاولات الوفاق الممتدة من جنيف الى الطائف تحمل قدراً من بصماته.
في الصيف الماضي نشرت "الوسط" حلقات بعنوان "وليد جنبلاط يتذكر". وخلال اعداد الحلقات كان زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي يتحدث عن محاولات الحوار ويقول بظرفه المعهود "وطبعاً تحرك الحريري وتحركت طائرة الحريري". وكان يقصد ان رئيس الوزراء تحرك لاقناع الاطراف بالحضور وتحركت طائرته لاحضار المتحاورين. ومذذاك ولدت فكر "رفيق الحريري يتذكر".
أطل الحريري على الساحة السياسية اللبنانية عندما وضع قدراته بتصرف الدولة للتغلب على الدمار الذي احدثه الغزو الاسرائيلي للبنان في 1982. وبعد عام واحد تحول وسيطاً يسعى الى اطفاء النار وبلورة صيغة للخروج من الحرب. وكان في اطلالته هذه يملك مجموعة اوراق قوة: علاقاته المتينة الناجمة عن اقامته الطويلة في المملكة العربية السعودية وعلاقته الجديدة المتنامية مع سورية وقدرته على التحدث الى كل اللبنانيين. واضافة الى شبكة علاقات واسعة بفعل قدرته المالية والثقة بشخصه.
وكان طبيعياً ان يختلف حديث السياسة بحديث السلطة والمال. ولا يتحدث الحريري عن المال بمعزل عن طريقة تحصيله ولا يتحدث عن السياسة الا في اطار العمل الوطني. سألناه عن سر نجاحه فرده الى التزامه بديهيات يتعلمها الجميع في المدارس والمنازل وهي تقوم على الوفاء بالوعد والصدف في التعامل والتزام المواعيد. قال ان على من يملك مالاً الا يتحولا أسيراً لما يملك وان المال ليس ممراً للاستقالة من الوطن وهمومه. وقال ايضاً انه يقرأ في الصحف احياناً انه واحد من المئة الاكثر ثراء في العالم. وكان لا بد من تذكير الحريري بأن كثيرين يلتزمون تلك البديهيات ولا ينجحون، فتشعب الحديث ليشمل الحظ والفرص والأسلوب.
غريبة قصة الحريري. مجرد ذكر اسمه يثير الاهتمام. فور نشر الاعلان عن الحلقات نفد صبر بعضهم فاتصل لمعرفة ماذا قال خصوصاً وانها المرة الاولى التي "يتذكر" فيها الحريري. وبين الذين اتصلوا رجل اعمال، اشترط عدم ذكر اسمه، أكد انه راقب صعود الحريري في عالم الاعمال. وقال ان الحريري الذي توجه في منتصف الستينات الى السعودية وعمل مدرساً ثم محاسباً يعتبر حالة خاصة في عالم الاعمال. وأضاف: "في العام 1975 كان الحريري مديناً ب11 مليون ريال وفي العام 1982 بات يمتلك ملياري دولار وثروته تقترب الآن من الاربعة مليارات دولار وكل ذلك من دون ان يتعاطى اي نوع من الممنوعات".
ووصف المتحدث الحريري بأنه "رجل محافظ بطبعه، ومفهومه للمال يختلف عن مفهوم كثيرين من اصحاب المال". وأوضح ان مأخذه "الوحيد على الحريري هو حبه للسياسة".
يقال الكثير عن الحريري. وأصدقاء الرجل كثيرون وخصومه كثيرون ... ولكن ماذا يقول الحريري؟ هنا الحلقة الثانية:
متى فكرت في خوض تجربة العمل السياسي؟
- لم افكر في أي وقت في العمل السياسي بالمعنى الحرفي للكلمة. اهتمامي بالشأن العام قديم لكنه كان يتخذ وجهاً اجتماعياً اكثر من أي وجه آخر.
ذهبت الى السعودية في الستينات بغية العمل ومواجهة ما ترتب علي من مسؤوليات عائلية. عملت هناك واستلزم الامر بضع سنوات كي اتمكن من الوقوف على قدمي. كانت علينا ديون سددتها. رتبت وضع اهلي. وكانت هناك مدرسة تعلمت فيها في صيدا وهي مدرسة فيصل وابلغوني انهم يريدون اعادة اعمارها فدفعت مبلغاً لم اعد اذكر هل هو 350 الف ليرة او 350 الف دولار لكنني اذكر انه كان نصف المبلغ الذي كان معي. وفتحت هذه الخطوة امامي آفاق العمل الاجتماعي ووقفت على حاجة مجتمعنا للخدمة العامة ودورنا في هذا السبيل. ووفقت بمشيئة الله في انشاء مؤسسة لدعم دراسة الطلاب وايفادهم للتحصيل. وهي بدأت متواضعة قبل ان تبلغ الشأن الذي بلغته في السنوات الاخيرة.
ثم فكرت في انشاء مدينة جامعية بهدف مساعدة اللبنانيين من مختلف المناطق والطوائف على التحصيل الجامعي العالي. ووقع الخيار على منطقة كفرفالوس شرق صيدا. كانت تكلفة المشروع حوالي 300 مليون دولار. بدأت بالعمل. والمشروع عبارة عن مستشفى وجامعة ومدرسة تمريض ومجمع مدارس مهنية نموذجية هو الاول من نوعه ومساكن للاساتذة والبنية التحتية والتجهيزات. شيدنا المستشفى وانتهينا منه وبدأنا العمل في الجامعة والمدرسة وكذلك مدرسة التمريض. وكان قيد البناء القسم المخصص لاقامة الاساتذة والاطباء وتكملة المدرسة المهنية وبعض المباني الاخرى. صرفنا على المشروع 150 مليون دولار او ما يزيد قليلاً.
المستشفى بدأ العمل فعلياً وضم نحو الف موظف من ابناء المنطقة. حدث الاجتياح الاسرائيلي وكان من اهدافه المدينة الجامعية بكل انشطتها. سرقت المعدات وخربت قوات الاحتلال المنشآت وقطعت اشجار النخيل المزروعة في المنطقة. في اي حال كانت الامراض الطائفية والمذهبية متفاقمة في تلك المرحلة وبرزت على السطح وكان هناك من يتابع عملية التهييج والاثارة. بقي المشروع لكن ظروف الاحتلال معروفة.
يومها رحت افكر كيف يمكنني المساعدة. واعتبرت ان الواجب يقتضي مساعدة اولئك الطلاب الذين يتعذر عليهم متابعة دروسهم لاسباب مالية او امنية فقررنا توسيع مؤسسة الحريري وبدأنا بارسال آلاف الطلاب الى الخارج. في العام 1983 تشكلت لدي قناعة ان مشاريع الاعمار ومعها ايفاد الطلاب لن تكون كافية ما لم يتم التوصل الى حل للمشكلة العامة في البلاد، ففي غياب حل من هذا النوع سيبدو اي جهد، مهما كان كبيراً، كأنه نوع من النسيج في الهواء.
في 1983 بدأ القتال وكان اتفاق 17 ايار مايو اللبناني - الاسرائيلي هو الموضوع المطروح. ونتيجة لوجودي في المملكة العربية السعودية وقربي من الملك فهد بن عبدالعزيز بدأت اتدخل في محاولة للبحث عن حل وليس بغرض تعاطي السياسة. انا فرقت دائما بين العمل السياسي والعمل الوطني. في العمل السياسي يجب ان تكون جزءاً من اللاعبين على الساحة. سعيت دائماً لئلا اكون طرفاً بهذا المعنى وحافظت على علاقاتي مع كل الاطراف. واعتبرت ان موقفي هذا يمكن ان يخدم الحل ويساهم في انجاحه. كانت لي علاقات بكل اطراف الصراع والقتال. كنت التقي وليد جنبلاط وأمين الجميل وايلي حبيقة ونبيه بري طبعاً، اضافة الى صائب سلام وسائر الشخصيات المعنية. لم اقطع اتصالاتي بأحد. في احلك الظروف ابقيت قنوات الحوار مفتوحة.
شعرت في تلك المرحلة بأن اتفاق 17 ايار لا يمكن ان يمر. والواقع انه لو ابرم لأدى الى تحطيم البلد تماماً فمجرد التوقيع ادى الى تخريب الوضع فماذا يمكن ان يكون عليه الحال لو ابرم؟ بهذا المعنى كنت من الناس الذين لعبوا دوراً اساسياً في تجنيب البلد الكارثة الكاملة. وقد حملت ورقة الغاء الاتفاق من الرئيس امين الجميل ونقلتها الى دمشق. وتوصلنا الى وقف لاطلاق النار وحضرنا لاجتماعي جنيف ولوزان.
اذكر في تلك المرحلة ان السفير الاميركي في دمشق كان بيغانيللي. زارني وكان الاسطول الاميركي لا يزال موجوداً وسألني عن رأيي فقلت له انني لا اعتقد بأن لبنان سيبرم صلحاً مع اسرائيل ما لم يكن في اطار تسوية شاملة اساسها سورية. الكلام الذي قاله احد زعماء اسرائيل موشي شاريت عن ان لبنان هو البلد الثاني الذي سيقيم سلاماً مع اسرائيل وان البحث يدور على البلد الاول هذا الكلام غير صحيح ولبنان لا يمكنه ان يتحرك في اي شكل من اشكال التسوية بمعزل عن سورية.
استغرب السفير كلامي وقال: انت تعتبر اذاً ان سياستنا خطأ فقلت له نعم، وأكدت ان لبنان لن يعقد صلحاً مع اسرائيل بمفرده. ربما كان من الأفضل ان يكون لبنان آخر دولة عربية تعقد صلحاً مع اسرائيل. ولكن اذا حصل صلح سوري - اسرائيلي فان لبنان يمكن ان يكون في المرحلة التالية.
في تلك المرحلة كان من الصعب على الاميركيين تصديق مثل هذا الكلام فقد القوا بثقلهم في العملية والمفاوضات جارية. اعتبرت ان الصلح اللبناني - الاسرائيلي بمعزل عن سورية هو نوع من الانتحار. فهذا الصلح يمس مباشرة المصالح القومية لسورية ولن يقبل به اي حكم او اي نظام في سورية، كما لن ينجح في تحقيقه اي حكم في لبنان.
التقيت الرئيس الجميل وتناقشنا في الموضوع استكمالاً لنقاشات عدة سابقة. واتخذ الرئيس الجميل قراراً بالغاء 17 ايار ووضعنا صيغة الالغاء. كان الامير بندر بن سلطان في دمشق وكان ابو جمال السيد عبدالحليم خدام نائب الرئيس السوري ينتظر.
ورافقت قصة الغاء اتفاق 17 ايار حادثة طريفة: حين حصلت على ورقة الالغاء من الرئيس الجميل وكان من المهم نقلها سريعاً الى دمشق كان عليّ الانتقال الى قبرص لاستقل الطائرة من هناك الى دمشق. لم تكن لدى الجيش اللبناني طائرة هليكوبتر قادرة على التحليق ليلاً. سألت الرئيس الجميل الاتصال بالسفير الاميركي ريجينالد بارثولوميو والبحث معه في امكان توفير هليكوبتر اميركية. بعدها زارني بارثولوميو وقال ضاحكاً: "تحمل معك ورقة الغاء 17 ايار وتريد الذهاب في طائرة اميركية. رحلة من هذا النوع قد تكلفني منصبي"! وقال السفير ان الطائرات مشغولة. فركبت في سيارة وذهب معي جان عبيد وطلبت من طائرتي الذهاب الى دمشق. تأخرت في الطريق ووصلت الطائرة قبلنا فقلق الاخوان في دمشق. بعد ذلك عقد اجتماع بين الرئيس الجميل والمسؤولين السوريين.
اريد ان اقول انه تشكلت لدي قناعة بوجوب العمل من اجل ايجاد حل للأزمة في لبنان بعيداً عن القتال. كنت دائماً مقتنعاً بأن القتال سيؤدي في المحصلة النهائية الى الجلوس حول الطاولة للتفاوض، وواضح ان من الأفضل ان يبحث الناس عن حلول لمشاكلهم اعتماداً على عقولهم بدل المراهنة في البداية على العضلات ثم الانتقال الى مرحلة العقل والحوار ولكن بعد ويلات الحرب وخسائرها. المؤسف انه كان لدى الجميع ميل الى اختبار العضلات قبل اختبار العقل. وهكذا استخدموا عضلاتهم الى اقصى حد ثم اضطروا الى استخدام العقل.
هل نقدر ان نقول انه كان لديك برنامج؟
- الواقع ان العملية مبنية على بديهيات. تعود اللبنانيون، وياللأسف، عدم رؤية البديهيات. اعتقد بأن البديهيات مسألة اساسية في حياة الاوطان كما في حياة الافراد. سأعطيك مثلاً: كثيرون يعطون تفسيرات لاسباب نجاحي الشخصي. انا اعتقد بأنني نجحت لاسباب بسيطة تعلمناها كلنا في المدرسة لكنني طبقتها. حاولت ان اكون صادقاً مع الناس وأن أفي بالالتزامات في مواعيدها، واذا استدنت من شخص اعيد اليه امواله. واذا قلت او وعدت أفي بما وعدت به. انها مجرد بديهيات بسيطة لكنها قيم اذا اتبعها المرء وعمل بها لا يمكن الا ان تقوده الى النجاح. مع الوقت يبني المرء صدقية توفر له النجاح. ليس هناك دين الا ويعلم الصدق ويوصي به والامر نفسه بالنسبة الى الوفاء بالالتزامات والابتعاد عن السرقة والكذب. انا اعتقد بأن هذه البديهيات كانت احد اهم اسباب نجاحي.
لكن هناك من يلتزم هذه البديهيات ولا ينجح او لا ينجح الى هذا الحد؟
- تقصد الاشارة الى الفرص وهذا صحيح. لكن هناك اناساً تأتيهم الفرص وتضيع لابتعادهم عن تلك البديهيات.
الحظ والنجاح
ما دور الحظ في نجاحك؟
- هناك جزء بلا شك اسمه الحظ، غير ان الحظ يأتيك مرة او اثنتين او ثلاثا وعليك ان تتخذ قرارات عند مفترقات رئيسية. مثلاً انا جاءتني فرصة ان اتعرف الى بعض الناس لأبني مشروعا معيناً. كان امامي - والمشروع بين 400 و500 مليون ريال - خيار من اثنين: اما انجاز المشروع كيفما اتفق واربح نحو مئتي مليون واما ان انجزه باتقان واربح نحو خمسين. هذا قرار اساسي بالنسبة الى شخص لا يملك ثروة. ليس بسيطاً ان تترك 150 مليونا من اجل تحسين نوعية العمل الذي تقوم به. انا فضلت القرار الثاني اي الحصول على الخمسين مع سمعة جيدة تسمح لي بالحصول على مشروع ثان. وهكذا كان. هل الامر حظ أم اخلاق أم ذكاء؟ انا اعتقد بأنها اسباب عدة مجتمعة.
اريد العودة الى ما قبل النجاح، اي الى قبل سفرك الى السعودية وفي تلك الاجواء العروبية التي كانت قائمة في صيدا بماذا كنت تحلم وماذا كنت تريد ان تكون؟
- لم احلم في حياتي بأن اكون رئيساً للوزراء ولم احلم بأن اصبح صاحب ثروة. انا دائماً بين المزح والجد اقول انا لست غنياً بالمعنى الشائع وان كنت املك اموالاً.
لم تحلم بأن تصبح صاحب ثروة؟
- ابداً. لم يخطر ببالي ذلك ولو مرة واحدة. انا الآن بعد عشرين عاماً من الغنى لا اصدق احياناً انني صرت صاحب ثروة.
يقال انك كنت من الشبان المهتمين بأحداث من نوع الانفصال في الوحدة المصرية - السورية؟
- مثل الشباب الذين كانوا يحبون الوحدة ولا يعرفون ما الذي جرى، لا كيف تم الاتحاد ولا كيف وقع الانفصال ولا الانعكاسات. حين حدثت الوحدة في 1958 كان عمري 14 سنة. وحين فرطت الوحدة كان عمري 17 سنة. هل تتوقع من شاب في هذا العمر ان يكون لديه فكر سياسي واضح. لكنني مثل أي شاب عربي يحب رؤية الامة العربية موحدة ويتأثر لرؤيتها مفككة، حين يعرف لاحقاً التفاصيل والاخطاء التي حصلت يبدأ بقراءة الامور من منظار آخر.
المال والسلطة
هناك كلام شائع وهو ان من يمتلك السلطة يريد المال ومن يمتلك المال يريد السلطة. هل قصدت فعلاً انك لم تحلم بهذا ولم تطالب بتلك؟
- انا لم اسع كي اصبح غنياً ولأنني كذلك انا فخور بكل قرش حصلته. هناك الكثير من الخطورة في سعي بعض الاشخاص الى الغنى من اجل الغنى في حد ذاته. لأن هؤلاء يسقطون احياناً في لعبة الغنى بكل الطرق والوسائل. انا تركت مليارات الدولارات ورفضت الاقتراب منها لشعوري بأن الحصول عليها يستلزم طرقاً غير سليمة. انا الحمد لله اعتبر ان ربنا سبحانه وتعالى اكرمني ليس بالمال بل بالطريقة التي حصلت فيها على المال اكثر من المال نفسه. وأكرمني اكثر حين جعلني بعيداً عن الجشع الذي يسقط المرء في لعبة الحصول على المال بكل الطرق بغض النظر عن استقامتها.
انا بعدما حصلت على مليون وعشرة ثم مئة ثم مئتين وصلت الى الوضع الذي تنفتح فيه امام المرء ابواب عدة لجمع المال. انا لا اشير هنا لا سمح الله الى الممنوعات انما اتحدث عن وسائل اخرى وهناك في عالم المال والاعمال وسائل كثيرة. قراري كان ان اكسب اموالاً بعرق جبيني. ان اتعب واعمر. احب مسألة البناء. ولنقل انها اكثر من حب انها نوع من الغرام. فكرة البناء تستهويني.
طبعاً كنت اريد ان أبني وان اربح. انه الربح الحلال في مفهوم كل الناس وفي مفهوم كل الاديان ايضاً. الربح يجب ان يكون مشروعاً وان يكون ثمرة العمل والاتقان. انا كما يقولون احب الخرائط اكثر من اي شيء آخر. الخرائط وعد بالبناء. والبناء ليس مسألة اقتصادية فحسب انه مسألة اقتصادية واجتماعية وانسانية ايضاً. فكرة البناء هي نقيض الخراب والفوضى. انها فكرة السباق مع الوقت ايضاً.
ألا يسقط صاحب الثروة في اغراء العيش البعيد والسهل كأن تعيش في باريس مثلاً بعيداً عن الهموم هنا؟
- لهذا السبب قلت لك انني اعتبر ان لدي اموالا لكنني لست غنياً. قصدت الصورة الشائعة عن الاغنياء والمواصفات المعروفة. لقد اكرمني الله واعطاني المال لكنني لم اعتبر المال يوماً هدفاً في حد ذاته، بمعنى ان اركض اكثر لتحصيل المزيد من المال. ارجو ألا يشكل كلامي ازعاجاً لأحد لكنني اعتقد بأن كثيرين من اصحاب الاموال يحصلون الثروة للانتماء الى نواد معينة. مثلاً شخص يملك اموالاً ويحب ان يكون الأغنى في بلدته ثم في مدينته. ويسعى الى الانتقال من ناد الى ناد اكبر، اي ان يصبح الاغنى في بلاده ثم في المنطقة. الشخص نفسه يصبح واحداً من الألف في لبنان ثم يطمح الى ان يكون واحداً من 500، اي نادي الخمسمئة تدرجاً الى نادي المئة. هذه اللعبة تدخل المرء في سباق لا ينتهي.
اذا اصبحت الأغنى في لبنان تبدأ بالالتفات الى المنطقة. اي انك تخرج من سباق لتدخل في آخر ربما كان اشد صعوبة. اي ان المرء يدخل في دائرة اكبر ويلهث من جديد. انا لم افكر مرة بهذه الطريقة. ربما وصلت من دون ان تكون المسألة حلماً او هاجساً. اقرأ احياناً في الصحف انني واحد من المئة الاكثر ثراء في العالم. لا مشكلة عندي - واقولها بصدق - لو كنت واحداً من المئتين او الخمسمئة. ولا مشكلة لدي حتى وان لم اكن موجوداً في هذه الدوائر. الانتماء الى هذه النوادي لا يشغلني ولا يقلقني فانا لا ابحث عن موقع في هذه النوادي او التصنيفات. لدي ما يكفيني ويكفي عائلتي وانا اعيش بكرامتي ولست مضطراً الى القيام بأعمال لا يرضى عنها ضميري في مجال كسب الاموال.
لا يجوز للناجح ان يتحول اسيراً لنجاحه ولا يجوز لمن حصل على المال ان يصبح محكوماً بمنطق المال. يجب ان تبقى للناجح حصانة تتشكل من قيم انسانية ووطنية وخلقية. يجب ألا يكون المال ممراً للاستقالة من الجذور بمعنى ان تحصّل المال وتبتعد لتنفقه. اعتقد بأن العكس يجب ان يحصل، اي ان يذكر المال صاحبه بجذوره وواجباته تجاه اهله وبلده.
عندما قررت ايفاد آلاف الطلاب لتحصيل العلم هل كان قرارك جزءاً من مشروع لاحداث توازنات جديدة او مقدمة لمشروع سياسي؟
- اعتقدت دائماً بأن وصول البلاد الى مستوى تعليمي وثقافي معين يسهل التفاهم بين اللبنانيين لأنه يسهل الحوار والانفتاح. هذا لا يكفي طبعاً، اذ لا بد بموازاة ذلك من تربية وطنية. لا يكفي ان تخرج مجموعة مهندسين من مختلف الطوائف لتجعل منهم شعباً واحداً. الامر يساهم بلا شك لكن دور التربية الوطنية جوهري. اضافة الى ان رفع المستوى العلمي يضاعف ثروة لبنان الانسانية وقدرات اللبنانيين الاقتصادية ايضاً.
فكرة ايفاد الطلاب فكرة عزيزة على قلبي والأكثر فخراً في حياتي كلها. انا لم اتعلم بسهولة في اي مرحلة من مراحل حياتي الدراسية. وشعرت دائماً بضرورة توفير الفرص. اولاً اريد ان اوضح ان الطلاب الذين اوفدوا هم من انتماءات مختلفة ومناطق مختلفة وانا لا اعرف الغالبية الساحقة منهم. يحدث في بعض الاحيان ان يقترب مني شخص ويقول لي ان ولديه افادا من المنح واصبح الاول طبيباً والثاني مهندساً. وأنا لا اعرف لا الأب ولا الابناء. كما يحدث ان يقترب مني شاب ويبلغني انه تخرج من جامعة محترمة مستفيداً من منحة. هذا يحدث اسبوعياً او مرتين في الشهر. انه يحدث داخل لبنان وخارجه.
ما هو اهم ما حدث في جنيف ولوزان؟ وهل كان الدور الذي قمت به بالتشاور مع الاميركيين والسوريين أم مع السوريين وحدهم؟
- اكثر شيء مع السوريين في الحقيقة.
كيف كانت بداية العلاقة مع السوريين؟
- بداية العلاقة مع السوريين في اوائل 1983. وكان هدف الاتصالات العمل على وقف اطلاق النار في لبنان. انا لم اتصور يوماً ان المشاكل القائمة بين اللبنانيين لا يمكن حلها الا عن طريق القوة. اليوم لم نعد نحتاج الى دليل على حجم الضرر الذي يلحقه بالبلاد اقتتال ابنائها واحتكامهم الى السلاح. مسألة من بدأ ومن يتحمل المسؤولية مسألة اخرى. ربما باتت هناك اليوم قناعة عامة بعدم جدوى استخدام السلاح واسلوب القوة. لكن هذه القناعة لم تكن موجودة في بداية الثمانينات او على الاقل لم تكن لها الغلبة.
الحقيقة انه منذ تلك الايام كانت لدي قناعة ثابتة بأن اللبنانيين يجب ان يجلسوا حول طاولة وان يتناقشوا سعياً الى حلول اياً كان حجم التعقيدات. فكرة الغاء الآخر او شطبه غير ممكنة في لبنان وغير جائزة. الافضل فتح الدفاتر حول الطاولة بدل تبادل الرسائل عبر الصواريخ والضحايا. ولو عدنا الى الذاكرة لوجدنا ان القذائف كانت تقتل في غالب الاحيان المدنيين اي غير المحاربين وتدمر بيوت الناس وارزاقهم. حين عقد لقاء جنيف في فندق الانتركونتيننتال انتابتني قشعريرة وأنا ارى القيادات اللبنانية المشاركة تتوافد الى القاعة خصوصاً حين تصافح الرئيس اللبناني الراحل سليمان فرنجية مع الرئيس أمين الجميل. كنت واقفاً مع ابو جمال. كادت عيني ان تدمع. ماذا كان يمكن ان يجمعهم؟
محاولة لتحاشي "حرب الجبل"
قبل حرب الجبل عقد في منزلي في باريس اجتماع حضره فرنسوا دوغروسوفر والوزير وليد جنبلاط والوزير مروان حمادة والوزير الراحل خالد جنبلاط وروبرت مكفارلين ووديع حداد مستشار الرئيس امين الجميل. لم ينجح هذا الاجتماع الذي عقد قبل ايام من اندلاع الحرب في الجبل. كانت محاولة ارادها الجميع الاميركيون والسعوديون والسوريون.
لم نخرج يومها باقتناع ان الرئيس الجميل كان يبحث فعلاً عن حل. كان الحوار يدور بين عقليتين. كان وليد جنبلاط متضايقاً من صعود الكتائب او القوات الى الجبل في عهد بشير الجميل. وكان يعبر بذلك عن مشاعر الدروز بكل فئاتهم. وكان الرئيس الجميل في المقابل يعتبر ان من حق الجيش الصعود الى الجبل. الصراع كان بين فكرين: الاول يريد تركيز الحكم في يد رئيس الجمهورية بالقوة. والثاني كان يريد المشاركة في السلطة على الطريقة الحالية. كان الرئيس الجميل يقول دائماً انا امين الجميل ابن بيار الجميل رئيس حزب الكتائب لا يمكن ان اتخلى عن السلطات المعطاة لرئيس الجمهورية. واعتقد بأنه نفذ ذلك حتى آخر يوم من عهده. لكن النتيجة كانت تدمير البلاد وحتى في نهايات عهده لم يكن يحكم خارج قصر بعبدا.
في الجانب الثاني كان وليد بك والقوى الوطنية - وكانت سورية تدعم هذا التوجه - يركزون على مسألتين: مسألة الصلح مع اسرائيل الذي كان مغلفاً باتفاق امني هو اتفاق 17 ايار، وهو في حقيقته اتفاق اذعان، ويشكل خطراً على المصالح القومية لسورية ولبنان. وشعرت آنذاك بأن سورية لا يمكن ان تقبل باتفاق 17 ايار وكل عاقل في العالم العربي كان يعرف انها لن تقبل. وكانت هناك اطراف لبنانية ترفض هذا الاتفاق لانها رأته مضراً بمصالح لبنان وسورية معا. يضاف الى ذلك ان طريقة الحكم التي اوصلت بشير الجميل وبعده شقيقه امين كانت تدفع البلد في اتجاه سيطرة الفرد اي سيطرة رئيس الجمهورية وحده. وهو ما لا يستطيع بلد ديموقراطي احتماله. كل هذه العوامل ادت الى هذه الكمية من الحروب.
لو عدت بالذاكرة استطيع القول ان الرئيس الجميل كان، لأنه ابن بيار الجميل والرئيس الفعلي لحزب الكتائب، الأقدر على الجلوس على الطاولة لاعادة صياغة دستور للبلاد يؤدي الى ما نحن عليه ومن دون المرور بتجربة تحطيم البلد. ومن جهة ثانية ان الاتفاق بين لبنان واسرائيل آنذاك، اي قبل 12 سنة، كان محكوماً بالسقوط. كانت الظروف مختلفة عما هي الآن. اي ان اسرائيل كانت تحارب من اجل الدخول الى العالم العربي، في حين كان من شأن الاتفاق عزل لبنان عن العالم العربي عزلة ليست في مصلحة اللبنانيين وليست بالتأكيد في مصلحة المسيحيين. كان هناك خطأ في قراءة الوضع السياسي العام في المنطقة وفي فهمه.
متى التقيت الرئيس الجميل للمرة الاولى؟
- المرة الاولى التي رأيت فيها الرئيس امين الجميل كانت بالمصادفة في موقف للسيارات في باريس وكان معه شخص وكان ذلك قبل انتخابه رئيساً بفترة قصيرة. بعدها حدثت اتصالات قبل انتخاب شقيقه بشير. انا كنت ضد انتخاب بشير رئيساً للجمهورية لاقتناعي بأن البلد لا يتحمل.
البلد والاقوياء
البلد لا يتحمل بشير الجميل أم لا يتحمل الاقوياء؟
- لا. ليس هناك بلد يحكمه الضعفاء. الحكم يحتاج الى اقوياء. التوهم بأن الضعفاء افضل تضليل. هذا الكلام عن ان البلد لا يتحمل اقوياء غير مقبول. الحكم يحتاج الى اقوياء. البلد يجب ان يحكم بطريقة يشعر معها اللبنانيون بأنهم ممثلون عبر الرؤساء. رئيس الجمهورية حسب التركيبة المعمول بها حتى الآن يجب ان يكون مسيحياً مارونياً الى ان يقسم اليمين الدستورية ومنذ تلك اللحظة عليه ان يخلع ثوب مارونيته وان يرتدي ثوب الوطنية والوطن. وحسب التركيبة فان رئيس مجلس الوزراء مسلم سني وعليه بمجرد توليه منصبه ان يخلع ثوب الطائفة لارتداء ثوب الوطن. والامر نفسه بالنسبة الى رئيس مجلس النواب، وهو بحسب التركيبة مسلم شيعي، اذ عليه ان يخلع ثوب الطائفة فور انتخابه ليرتدي ثوب الوطن.
المصيبة هي ان يبقى احد الثلاثة مرتدياً ثوب الطائفة في الوقت الذي يتولى مسؤوليات عن كل الوطن. هذه من اصعب الامور ولا تتصورها سهلة. خروج المسؤول من ثوب الطائفة الى ثوب الوطن يجعل مختلف اللبنانيين يشعرون بأنه ممثلهم. وهذه المسألة في لبنان صعبة ودقيقة وتحتاج الى صيانة مستمرة من قبل كل المسؤولين. على المسؤول ان يظهر باستمرار انه ميزان وليس طرفاً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.