كانت المحطة التونسية حافلة بالأحداث التي أثرت على قرارات منظمة التحرير الفلسطينية. بعض هذه الأحداث سهّل للقيادة اتخاذ قرارات كان يصعب اتخاذها على البارد. وبعضها الآخر أرغم القيادة على ما كان يصعب عليها قبوله أو تسويقه لو لم تكن في حال من العزلة أو الحصار. في النصف الثاني من المحطة التونسية يمكن الحديث عن حدثين كبيرين: الانتفاضة والغزو العراقي للكويت. أعطت الانتفاضة القيادة الفلسطينية ورقة مهمة كانت في أمس الحاجة اليها منذ ابتعادها القسري عن خطوط التماس العربية - الاسرائيلية. وفقدت المنظمة أوراقاً ديبلوماسية ومالية بفعل موقفها من الغزو العراقي. يكشف السيد محمود عباس أبو مازن عضو اللجنة التنفيذية للمنظمة وعضو اللجنة المركزية لحركة "فتح" في حواره مع "الوسط" ان القيادة الفلسطينية وجهت الى الفلسطينيين المقيمين في الكويت تعليمات رسمية تقضي بعدم حمل السلاح وحذرتهم من الانضمام الى "الجيش الشعبي". كما يكشف ان السفارة الفلسطينية في الكويت أعطت كويتيين وثائق فلسطينية كي تمكنهم من التجول أو الخروج وتفادي الاعتقال وان السفارة المصرية ساهمت أيضاً في اعطاء مثل هذه الوثائق لكويتيين. ويحكي أبو مازن عن لقاءات شارك فيها بغرض اقناع صدام حسين بالانسحاب وعن جهود قيادة المنظمة لدى موسكو لاقناع الرئيس العراقي بمغادرة الكويت. وهنا نص الحلقة الثانية والأخيرة: من كان صاحب فكرة الانتفاضة؟ - هناك من اعتبرها زرعاً شيطانياً وأنها ولدت لوحدها وهذا غير صحيح. حصلت الانتفاضة نتيجة لعوامل عدة: أولها تنظيم الشبيبة الذي أشرف عليه الشهيد أبو جهاد بحكم مسؤوليته عن القطاع الغربي. نظم الشباب في الداخل وأعدهم وغذاهم بالمادة السياسية. في الوقت نفسه كنا نرسل اليهم سنوياً نحو مئة مليون دولار مساعدات للبلديات وغيرها. تربية سياسية ودعم اقتصادي وتحرك اعلامي أوجد حالة كانت تنتظر شرارة وجاءت هذه الشرارة من حادث جباليا. هل تقصد ان القيادة لم تفاجأ باندلاع الانتفاضة؟ - لم تفاجأ. كان متوقعاً ان يحدث شيء. الناس في الداخل كانت مهيأة لعمل جماهيري. فور وقوع حادث جباليا في 7 كانون الأول ديسمبر 1987 انتشرت الأحداث كالنار في الهشيم في غزة ثم انتقلت الى مدن الضفة. من كان يدير الانتفاضة؟ - كان ذلك من مسؤولية القطاع الغربي الذي كان يتولاه أبو جهاد. بدأت الانتفاضة تتبلور وراحت القيادات تظهر. من شعارات الانتفاضة اتخذنا القرارات السياسية التي اعتمدت في 1988 ورحنا نبني المؤسسة في الداخل. طبعاً صارت الانتفاضة الشغل الشاغل للقيادة وللجميع. هل شكلت الانتفاضة نوعاً من الحماية لكم، مكنكم من اتخاذ قرارات كان يصعب اتخاذها قبل اندلاعها؟ - بالضبط. قالت الناس في الداخل ماذا تريد. بدأت الواقعية. قال الناس انهم يريدون اخراج الاحتلال. صار هناك شعار محدد، وبات واضحاً ان المقصود هو انهاء الاحتلال للأراضي التي احتلت عام 1967. لو طلب من الناس ان ينتفضوا لاخراج اليهود من حيفا ويافا لما انتفضوا أو لما استمر تحركهم. ولكن إذا قلت لابن نابلس ان عليه ان يرمي الحجارة لاخراج الاسرائيليين من نابلس فإنه يرى النجاح محتملاً وينخرط في العملية. ولنقل صراحة ان أحداً لم يكن يتوقع ان تستمر الانتفاضة هذه السنوات الطويلة. لم يكن أحد يأمل ان تستمر الى هذا الحد فقد كانت الحسابات تشير الى احتمالات التعب والجوع، لكن الانتفاضة استمرت شهراً بعد شهر ورافقتها عملية دعم وتغذية سياسية واعلامية أدت الى استمرارها ست سنوات بفعل الحماسة والشعور باحتمال ظهور نتائج. هل صحيح انكم راهنتم بعد 1967 مباشرة على انتفاضة في الأراضي المحتلة؟ - لا. كان رهاننا على ثورة مسلحة ولكن ويا للأسف، ضُربنا بعد فترة في أكثر من موقع ولم نتمكن من تحقيق ذلك. اغتيال أبو جهاد هل كان اغتيال أبو جهاد أكبر ضربة وجهت اليكم في المحطة التونسية؟ وهل كان الاغتيال عقاباً على دوره في الانتفاضة؟ - كان الاغتيال بلا شك عقاباً على دوره في الانتفاضة وفي العمل في القطاع الغربي. يتردد ان السبب محاولته استهداف مفاعل ديمونا؟ - هذا الأمر سبب من الأسباب، لكن دوره في الانتفاضة ليس بسيطاً بالنسبة الى الاسرائيليين. ربما كانت عملية ديمونا السبب المباشر. اغتيال ابو جهاد أصابنا في العظم. كانت أكبر ضربة في المحطة التونسية. سبقت ذلك الغارة على حمام الشط في 1985. هل كاد أبو عمار ان يقتل في حمام الشط؟ - لا. لم يكن موجوداً هناك. كان في العاصمة تونس. اما لماذا لم يذهب يومها فالمسألة قضاء وقدر. ماذا أظهر التحقيق في اغتيال أبو جهاد؟ - باختصار شديد: جاء الاسرائيليون واغتالوه ومشوا. تردد ان الاسرائيليين استخدموا جوازات سفر لبنانية. - التحقيق لم يثبت شيئاً. والواقع أن ليس من الصعب عليهم الدخول الى بلد سياحي تماماً كما هو الأمر بالنسبة الى بلدان عربية أخرى. أقصد هل ان أحداً من حراسه سهل اغتياله؟ - لم تكن لديه حراسة، ويا للأسف، وهذا نوع من الاهمال. وقيل أيضاً ان ايهود باراك رئيس أركان الجيش الاسرائيلي كان يرافق عملية الاغتيال من الجو؟ - هذا الكلام لا نستطيع أن نؤكده أو ننفيه. هناك كلام أيضاً عن وجود في البحر. واغتيال أبو اياد الضربة الأمنية الثانية كانت اغتيال "أبو اياد" و"أبو الهول". ماذا تبين؟ - هذه كانت من تنفيذ "أبو نضال" وهو من وجهة نظري غير بعيد عن الموساد. "أبو نضال" لم يقم بأي عملية ضد اسرائيل وكل عملياته كانت ضد الفلسطينيين. هل كان المطلوب من اغتيال أبو جهاد وأبو اياد انهاء البدائل المحتملة؟ - انها معركة قصم ظهر. معركة كسر عظم. والمستفيد كان اسرائيل. "البولدوزر" وشريط الفيديو ما هي أهمية مساهمة أبو اياد في مرحلة تونس؟ - أبو اياد، رحمه الله، كنا نسميه البولدوزر. كان لديه من الصبر والمنطق والجلد ما يمكنه من لمّ الكادر الفتحاوي. كانت لديه مصداقية تجعل الناس يتقبلون كلامه. في أي قضية كنا نريد ان نبشر بها كان دوره فاعلاً. في المجلس الوطني حين وصلنا الى القرارات كان الاعتماد على كلمة أبو أياد لاقناع الناس. إذاً الجانب الأمني لم يكن الأهم في دوره؟ - الجانب السياسي كان الأهم. في أي نوع من الأمن كان يعمل؟ - كان يمسك بجزء من الأمن الخارجي. هل ساهم في انضاج الموقف السياسي الفلسطيني؟ - جداً. ساهم مساهمة كبيرة في انضاج الموقف السياسي الفلسطيني الذي أدى الى تبني الشرعية الدولية وقرارات المجلس الوطني الصادرة في 1988. اضافة الى ذلك كان من المؤمنين بالحوار الفلسطيني - الاسرائيلي. وهو أول من أرسل شريط فيديو بصورته وصوته الى أحد الاجتماعات التي عقدت في اسرائيل. وكان لهذا الشريط تأثير كبير. الشريط ارسل الى الاسرائيليين وهو يقول فيه نحن دعاة سلام ونمد أيدينا اليكم ونحن على استعداد لتبني قرارات الشرعية الدولية. من هو أول مسؤول فلسطيني التقى الاسرائيليين؟ - بدأت الاتصالات أساساً مع اليسار الاسرائيلي. عام 1970 بدأت ادعو الى حوار مع الاسرائيليين. وبدأ يتكون اتجاه من هذا النوع وقام بهذه المهمة مجموعة من الشباب المؤمن بها مثل عصام سرطاوي وسعيد حمامي، وكان تحركهم جزءاً من تحرك الدائرة المعنية بذلك، أي تحرك مؤسسة. قتل السرطاوي وحمامي ونعيم خضر وعزالدين قلق وغيرهم وكلهم قتلوا على يد أبو نضال ويا للأسف، كان أبو نضال في تلك الفترة محسوباً على العراق. الاغتيالات لم توقف التوجه، فقد كنا نؤمن بأن لا حل إلا عبر ذلك الخط. أنا كنت أتحمل المسؤولية ولم أتهرب أبداً. فعندما كانت تشتد الحملة على شخص من الذين يجرون اتصالات مع الاسرائيليين كان يقول ان أبو مازن على علم، وكنت أقول نعم. دافعت في المجلس الوطني في 1977 عن الفكرة واتخذ المجلس الوطني قراراً بتبنيها. قبلها كان كثيرون يثيرون الضجيج في الاجتماعات ويقولون نريد أن نعرف من هو الخائن، اضافة الى تعابير تلك الأيام. الأصوات والانقسامات ما هي أبرز الخلافات التي حصلت داخل "فتح" خلال المحطة التونسية؟ - لم تكن هناك خلافات بالمعنى الذي يحكى عنه. المجلس الوطني ال 17 كنا متفقين حوله. الوحدة الوطنية في ال 18 اتخذنا قرارنا ومشينا. الدورة ال 19 الخاصة بالقرارات السياسية كان الموقف من القيادة كلها. لم ندخل مرة في عملية سياسية ونحن في انقسام. ولم يكن في استطاعتنا استقطاب الآخرين اذا كنا نعاني من انقسام. هذا لا يلغي وجود صوت مختلف أو اثنين. المهم ان الفريق الأساسي كان يجمع على خطوة فتقر ويحصل حولها نوع من الاجماع. من كان في حلقة القرار في تلك الفترة؟ - تنطلق القرارات في الواقع من قيادة "فتح". كانت اللجنة المركزية ل "فتح" مؤلفة من تسعة بينهم أربعة أو خمسة كانوا يتولون عملية اعداد القرار وانضاجه ثم يعرضونه على الآخرين. من هم أفراد هذه الحلقة؟ - أبو عمار وأبو اياد وأبو جهاد وأبو اللطف. ومن كان الخامس؟ - أنا. المنظمة والغزو العراقي ما صحة ما يقال ان أبو اياد اتخذ من الغزو العراقي للكويت موقفاً مغايراً لموقف القيادة؟ - هذا كلام صحيح. هل كانت هناك مجموعة مواقف داخل "فتح"؟ - يمكن الحديث عن موقفين: الأول موقف عام وتؤيده الغالبية وموقف خاص يمثله أبو اياد وأنا. وكان الموقف الخاص يعارض الانجرار نحو الانحياز الى جهة ما. نحن قلنا اننا أصحاب أرض محتلة وبالتالي لا نستطيع القبول باحتلال أراضي الغير، اضافة الى ذلك هناك المصالح الفلسطينية. هناك شعب فلسطيني في الخليج لا نستطيع أن نتجاهل مصالحه وأن نضيعها لذلك كنا نسعى ونطلب من أصدقاء كثيرين في العالم ان يطلبوا من صدام حسين الانسحاب. وهنا، انصافاً للحقيقة وعلى رغم ان أبو عمار ظهر كأن موقفه مع صدام فإنه كان في الواقع يتبنى الدعوة الى إشراك الاصدقاء لاقناع صدام بالانسحاب. وهؤلاء الاصدقاء هم الاتحاد السوفياتي وبلدان حركة عدم الانحياز وبعض الدول الأوروبية وشخصيات عالمية. كان أبو عمار يقول لهؤلاء اطلبوا من صدام حسين أن ينسحب. وهل طلبتم أنتم منه الانسحاب؟ - نعم طلبنا. نحن ذهبنا، أبو عمار وأبو اياد وأنا، الى بغداد لنمهد لزيارة وفد سوفياتي وقلنا له سيزورك وفد سوفياتي وسيطلب منك الانسحاب ونرجو ألا ترده خائباً. وبماذا أجاب صدام؟ - صمت ثم أعطى الوفد السوفياتي جواباً مبهماً لا يستدل منه هل كان موافقاً على الانسحاب أم لا. تعليمات ووثائق هذا يعني أنه لم يحصل انقسام داخل "فتح"؟ - لم يحصل انقسام ولكن برزت وجهتا نظر وصار يعبر عنهما. أنا كنت صامتاً دائماً تعبيراً عن معارضتي لأي تصعيد خصوصاً لجهة التعاطف مع الموقف العراقي. كان ذلك موقف الغالبية وكان على الأقلية ان تصمت. هذا لا يعني أننا لم نفعل شيئاً. في 8 كانون الثاني يناير 1991 استقبل أبو عمار السفير العراقي في تونس وطلب منه أن ينقل الى الرئيس العراقي حقيقة ما يعد وان يتخذ موقفاً يساهم في انجاح لقاء جيمس بيكر وطارق عزيز، أي الانسحاب أو تأكيد الاستعداد للانسحاب. أنا ذهبت أربع مرات الى الاتحاد السوفياتي ليتدخلوا لاقناع صدام بالانسحاب. وكنت التقي وزير الخارجية وكبار معاونيه ويفغيني بريماكوف وفي المرة الأخيرة كنت وياسر عبد ربه هناك. كما التقيت وزير خارجية يوغوسلافيا وذهب الى بغداد بناء على طلبنا لتشجيع صدام على الانسحاب. وقمنا بزيارات كثيرة في هذا الاطار لكن ذلك لم يعرف وما عرف هو أن المنظمة وقفت مع صدام حسين. لا يعرف الناس ان تعليمات رسمية صدرت الى الفلسطينيين في الكويت من قيادة المنظمة وهي تقول اياكم أن تدخلوا في الجيش الشعبي أو ان تحملوا السلاح. لا أحد يعرف هذه المسألة. ولهذا السبب لم يحمل الفلسطينيون في الكويت السلاح. بل بالعكس تشهد المقاومة الكويتية لعدد من الفلسطينيين بحجم مساهمتهم. وهناك مسألة أقولها للمرة الأولى: كانت سفارتنا تعطي هويات للكويتيين، أي وثائق فلسطينية ليتمكنوا من التجول بها أو ان يغادروا. وكانت السفارة المصرية تعطي بعض الكويتيين وثائق سفر فلسطينية لتمكين الراغبين في الخروج من الخروج بسلام، وذلك بالتعاون مع بعض اخواننا. وفي النهاية أكل الفلسطينيون في الكويت ضرباً حتى شبعوا وطردوا وتبهدلوا. هذه المسألة نذكرها من أجل الأمانة في احترام الحقيقة. الآن ليس هناك أي اتصال مع الكويت؟ - لا ليست هناك اتصالات. في أي اجواء بدأ الحوار الأميركي - الفلسطيني في تونس؟ - بدأ الحوار الأميركي - الفلسطيني بعد دورة المجلس الوطني في 1988 وبعدما ذهب أبو عمار الى جنيف وعقد مؤتمراً صحافياً دان فيه الارهاب ادانة واضحة. وكانت هذه نقطة غير واضحة في قرارات المجلس الوطني واعتبرها الأميركيون ضرورية لاستكمال عناصر بدء الحوار مع منظمة التحرير. وافقت الادارة الأميركية بعد ذلك على أن يتولى الحوار روبرت بلليترو الابن، وشكل وفد فلسطيني ضم ياسر عبد ربه وأبو جعفر وحكم بلعاوي وآخرين. لكن هذا الحوار لم يعط نتائج ولم يستند الى أسس واضحة. كنا نريد أن نتحدث بعضنا الى بعض، لكننا لا نعرف عماذا نريد أن نتحدث بالضبط. الأميركيون يريدون التحدث الينا لكنهم لا يستطيعون التحدث نيابة عن الاسرائيليين. وأنا أذكر - وهذه أقولها للمرة الأولى - انني عقدت جلسات سرية مع بلليترو تركزت على نقطة واحدة هي كيف نبدأ عملية السلام، ومن أين نبدأ. واتفقنا على أنه لا بد من أن يجلس الفلسطينيون والاسرائيليون على طاولة واحدة وان يضعوا أمامهم الأوراق ويبدأ النقاش حولها. أي كيف يمكن أميركا ان تضع الاسرائيليين والفلسطينيين على طاولة واحدة. هذا هو السؤال الذي كنا أنا وبلليترو نحاول العثور على جواب عنه في الفترة القصيرة نسبياً للحوار الذي انقطع بسبب عملية شاطئ تل أبيب، وقد نفذها أبو العباس. هل تستطيع ان تجزم بأن القيادة الفلسطينية لم تكن على علم بتلك العملية؟ - لم تكن على علم وكانت العملية سخيفة وهي كما تذكر وحصلت عشية قمة بغداد. وما هي قصة "كادوك" التي قالها عرفات في باريس؟ - سئل أبو عمار عن الميثاق فقال "كادوك". طبعاً قصة الميثاق قصة طويلة انهيناها أخيراً في الاعتراف المتبادل بيننا وبين اسرائيل حين ذكرنا اننا نقبل بالتعديلات التي يطالب بها الاسرائيليون، لكن قبولنا معلق بشرط دستوري وهو موافقة المجلس الوطني على ذلك. ومن توقف الحوار الى حرب الخليج الثانية الى انتهاء الحرب، اختلطت الأوراق العربية وعزلنا نحن عزلة كاملة عربيا ودوليا وبدأنا نشعر بهذه العزلة من كل النواحي السياسية والمالية والجغرافية الى ان جاء يوم 6/3/1991 حين أعلن الرئيس جورج بوش مبادرة النقاط الأربع. جدل حول مدريد هل قبلتم الذهاب الى مدريد لأنه لم يكن لديكم أي خيار آخر؟ - اجتمعنا وبحثنا. هل نتعامل مع مبادرة بوش أم لا. كان رأي القيادة الفلسطينية في البداية ان لا نتعامل مع هذه المبادرة. دام ذلك أربعة اجتماعات وبما يشبه الاجماع على عدم التعامل مع المبادرة. وكنت أنا معارضاً لهذا الاتجاه وكنت أتصدى لموقف نحو 37 شخصاً بينهم جورج حبش ونايف حواتمة فضلاً عن سائر أركان القيادة. في الجلسة الخامسة قلب أبو عمار الموجة ووافق ووافقوا معه على أن يلتقي وفد فلسطيني من الداخل الوفد الأميركي برئاسة جيمس بيكر وبدأت العملية. هنا كان لا بد من اتفاق أردني - فلسطيني فذهبت على رأس وفد الى عمان وقمت بزيارات عدة وانجزنا اتفاقاً عرضناه على المجلس المركزي ووافق عليه بالاجماع وفي اليوم الثاني أخذ بيكر اسماء الوفد الفلسطيني الذاهب الى مدريد. هل كانت المفاوضات مع الجانب الأردني صعبة؟ - لا. كانوا متساهلين ومتعاونين ولديهم رغبة في مساعدتنا وكذلك في طمأنتنا. وحين قلنا نريد وفداً برئيسين لئلا تضيع الشخصية الفلسطينية قالوا نعم والجواب نفسه بالنسبة الى القاء كلمتين ووضع كرسيين. كان الوفد يضم 14 عضواً كحد أقصى، وحده الوفد الأردني - الفلسطيني ضم 28 شخصاً. الأردنيون سهلوا لنا الى أبعد الحدود وقدموا لنا الغطاء وهذا يجب ان يسجل للتاريخ. حرصتم منذ انطلاق مدريد على الايحاء بأن الوفد الفلسطيني يدار من تونس. - نعم، لكي يفهم أنه غير بعيد عن منظمة التحرير. هل كانت القيادة الفلسطينية تخشى ان يؤدي الحوار الى قيام قيادة بديلة من الداخل؟ - كان بعضهم يتصور أو يدعي أو يزعم أو لديه أوهام بأن هذا الوفد الفلسطيني هو القيادة البديلة من منظمة التحرير، لكن هذا الوفد الآتي من الداخل خيب آمال كل الناس بتمسكه بمنظمة التحرير. من اختار الوفد؟ - نحن. بالتعاون مع الأميركيين؟ - لا. لكننا سميناهم وفقاً للمواصفات التي كانت محددة. لم يضعوا "فيتو" على أحد؟ - لا فقد كان ممنوعاً إشراك من هم من القدس والخارج والتزمنا. الكوريدور وفكرة أوسلو انتقلت المفاوضات الى واشنطن وظهرت العقبات؟ - العقبة الأولى كانت مفاوضات الكوريدور. الاسرائيليون قالوا انه وفد أردني - فلسطيني مشترك ويجب أن يبقى كذلك. قلنا لهم كان ذلك في البداية ولكن لاحقاً كل واحد يبحث في مساره. رفض الاسرائيليون فوقفنا نتفاوض في الكوريدور لمدة اسبوع. الوفدان السوري واللبناني تابعا العمل. الوفد الأردني وقف معنا الى أن حلت بالطريق المعروفة أي تسعة أردنيين وفلسطينيان وتسعة فلسطينيين وأردنيان. هناك اتهام بأنكم احبطتم الجولة التاسعة من تونس؟ - هذا ليس صحيحاً. ولنقل صراحة: في الجولات التسع في واشنطن لم يعطنا الاسرائيليون كلمة واحدة مفيدة. رفضوا كلمة شعب فلسطيني ورفضوا أي اشارة الى تطبيق القرار 242. رفضوا كل شيء وظلوا يتحدثون عن يهودا والسامرة. متى ولدت فكرة أوسلو؟ - فكرة القناة الخلفية موجودة لدينا في الأساس أي لدى المجموعة المسؤولة عن المفاوضات. حاولنا ان نفتح مع الاسرائيليين قناة خلفية فرفضوا. ضغطنا مرة جديدة عندما تولى حزب العمل السلطة في 1992 عن طريق وزير الخارجية المصري عمرو موسى فرفض رابين رفضاً قاطعاً. حاولنا عن طريق وفدنا الى واشنطن. طلبنا منهم أن يشربوا قهوة معهم واخترعنا اللجان غير الرسمية فلم تنجح. بعدها جاءت مبادرة أوسلو من خلال اللقاء بين أبو علاء وهيرتشفيلد في لندن. جاء أبو علاء فشجعنا العملية وانطلقت أوسلو. هل كان أبو عمار على علم قبل اللقاء بين أبو علاء وهيرتشفيلد؟ - بعد اللقاء أبلغه أبو علاء وأبلغني. كان أبو علاء يقود الجانب الفلسطيني في المفاوضات المتعددة فأبلغه فيصل الحسيني وحنان عشراوي ان هيرتشفيلد يرغب في اللقاء معه. جلس معه وكان سفيرنا في لندن عفيف صافية حاضراً. ثم عقدا جلسة ثانية، بدأت بعدها قناة أوسلو السرية. من كان يعرف من الجانب الفلسطيني؟ - أبو عمار، وعرف ياسر عبدربه لاحقاً. ومع الأيام بدأ يعرف الناس والدول. وأبو اللطف؟ - اطلع على مشروع وعرف انه قيد النقاش ولكن من دون الدخول في أي نقاش ولم يكن معارضاً. بدأنا في الواقع نبلغ الاخوان الذين نعتبرهم مفاتيح في "فتح" وفي الساحة العربية. لكل واحد جرعة. انا حكيت كل شيء في المجلس الثوري يوم 17 - 7 - 1993. حكيت وقلت ان هناك مشروعاً سيقدمه الينا الاميركيون ربما، وهو يتضمن الآتي... فإما ان نقبله واما ان نرفضه. لم يخطر ببال احد ان المفاوضات جارية. مصر أولاً من هي الدول التي اطلعتموها؟ - مصر أولاً. وهي تابعت القناة ونحن كنا نستفيد منها لمعرفة من تفاوض. مثلاً كان يأتينا شخص ويقول انه مبعوث من قبل اسحق رابين. كان المصريون قادرين على معرفة هذه الاشياء. تشاورنا مثلاً حين شارك أوري سافير المدير العام لوزارة الخارجية. هذا تطور نوعي. ثمة فارق بين ان تفاوض خبيراً أو استاذاً جامعياً وأن تفاوض المدير العام لوزارة الخارجية الاسرائيلية. هل اطلعتم الاردن؟ - يفترض ان أبو عمار ابلغهم. ويقال ان طريقة ابلاغ الاردن كانت غامضة. - نعم هذا ما قاله الاردنيون. مرت المفاوضات بمراحل عدة. من الاسئلة التي طرحت هل يعرف رابين والى اي حد يعرف والى اي درجة يلتزم ما يجري ويلتزم النتائج. في البداية قال انه سمع ثم قال انه يتابع ثم قال انه يعرف ويؤيد. وكل هذا كان يتم عبر المصريين. هل الخوف من تقدم حاسم على مسارات اخرى عجّل في قراركم السير في اوسلو؟ - لا لم نكن بهذا الوارد. نحن كنا نتصور ان هذا هو الطريق الصحيح للتفاوض. متى تحدثتم مع بيريز على الهاتف؟ - أنا رأيته في واشنطن في حفلة التوقيع. بيريز لم يتحدث معنا رسمياً الا بعد التوقيع في واشنطن. الى أي حد كان تبادل الاعتراف صعباً على القيادة الفلسطينية؟ - تبادل الاعتراف كان الاسهل. نحن اعتبرناه مكسباً لنا. من عارض في القيادة توقيع الاتفاق؟ - أبو اللطف عارض ومعظم الذين تركوا اللجنة. وعارض هاني الحسن وعباس زكي وصخر حبش. الغالبية وافقت وانتهى الأمر. لو كانا لايدا هل كان لديك شعور بالرهبة عشية التوقيع ام انك كنت تنتظر ذلك؟ - ابدا لم أكن أتوقع او انتظر ولم أكن أتصور انني سأذهب. في الليل طلبوا جواز سفري فسألت عن السبب فقالوا لتذهب معنا. حتى ليلة السفر لم يكن مقرراً أن أذهب انا. أبو جهاد وأبو أياد... - مقاطعا لو كانا هنا لوافقا على ما وقعنا عليه. هل أنت واثق من ذلك؟ - مئة في المئة. هل كان أبو جهاد يعتقد بأنه سيلتقي الاسرائيليين؟ - أبو جهاد كان يلتقيهم. أولئك من اليسار الاسرائيلي. نعم. انه اكثر من التقى ممثلين من راكاح وغيره وهو أنشأ جريدة بالعبرية في الداخل. كان يتعامل معهم بأنواع مختلفة. أناس يعملون في العمل السري، وأناس يعملون في العمل السياسي. لم يكن يعترض على اللقاءات مع الاسرائيليين. مثلاً هناك من يقول انا لا أريد ان التقي الاسرائيليين وتكتشف انه التقاهم مئة مرة والتقى الموساد أيضاً. وبينهم من يحاول اليوم ادعاء حجم ليس له وأدوار لم يلعبها وفعالية لم تعرف عنه يوماً ولا أريد الخوض في الاسماء. نعود الى النقاط الابرز في المحطة التونسية؟ - أبرز شيء في المحطة التونسية هو ان القرار الفلسطيني أصبح قرارا حراً قادراً على ان يتخذ وينفذ من دون تدخل خارجي بعدما تحررنا من ديكتاتورية الجغرافيا. هذه هي اهم نقطة وأهم حدث. لقد استقبلونا في تونس وحرسونا وأكرمونا ولم نجد في الدنيا معاملة أطيب من معاملتهم. كل هذا في جهة اما في الجهة الاخرى انهم لم يسألوا يوما ماذا تفعلون ولماذا اتخذتم هذا القرار وليس غيره، لماذا اجتمعتم هنا وليس هناك ومع من تتكلمون وماذا تتكلمون وماذا قلتم على الهاتف؟ انها أول عاصمة تتركها الثورة الفلسطينية من دون ان تكون طرفاً في حروب تلك العاصمة؟ - نعم وهي أول عاصمة تغادرها الى الوطن. ألم يحصل أي اصطدام مع السلطة التونسية؟ - أبداً، انهم يحموننا. انهم معنا باستمرار. حراسة على الباب ومرافقة. لم تحصل اي مشكلة بين الفلسطينيين والسلطة التونسية، ربما وقعت احداث فردية بين فلسطيني وتونسي كما يحصل في أي مكان ولكن لم يحصل اكثر من ذلك. ألم تتخوفوا في بداية الرحلة التونسية ان تتحول الى منفى جديد؟ - كنا نخشى ذلك نظراً الى بعد المسافة. وتبين انه بسبب حرية الارادة والقيادة كنا اقرب الى الوطن بكثير ممن يدعون انهم على حدود الجغرافيا وتبين اننا قادرون على ان نفعل الكثير وبالتأكيد اكثر منهم. واتضح اننا عملنا الكثير بمنتهى الحرية. هل شجع اليأس من العرب الفلسطينيين على توقيع الاتفاق مع اسرائيل؟ - هي الظروف العربية التي جاءت بعد حرب الخليج وجعلت الاميركيين يطرحون فكرة مؤتمر مدريد وأوجدت عملية المسارات المختلفة. ما توصلنا اليه في أوسلو هو الأساس نفسه الذي ذهبنا بناء عليه الى مدريد كعرب جميعاً وهو تطبيق القرار 242. لم يتغير شيء اطلاقاً. ألم يكن هناك اتفاق على التنسيق بين المسارات؟ - كان هناك اتفاق لكن العرب وافقوا أيضاً على ان بعض المسارات يمكن ان يسبق بعضاً آخر. وهذا متفق عليه ومحفوظ في محاضر جلسات لجان التنسيق العربية التي كانت تجتمع في عمان وبيروت ودمشق. وكانوا يتحدثون عن الحل الشامل والحل الاشمل، وان أناساً قد يسبقون آخرين. كان هذا في معرض الحديث عن ان السوريين قد يسبقون غيرهم على المسارات الاخرى. قصة الجاسوس نتحدث الآن على الطاولة نفسها التي زرع عدنان ياسين فيها اجهزة التنصت الاسرائيلية، أين هو الآن؟ - موجود في السجن. ما هي قصة عدنان ياسين؟ - انه رجل يحبه كل الفلسطينيين في تونس. ويحبه اهل البلد. هو موجود منذ اكثر من عشرين عاماً. كان المسؤول في منظمة التحرير عن أثاث البيوت والمكاتب. على المستوى الشخصي كنت احبه وكانت لنا علاقات عائلية. جاء في يوم من الأيام وقال لي سأحضر لك كرسياً ولمبة. احضرهما. بعد التوقيع في واشنطن شعرت بأن من الافضل تفتيش مكتبي. أرسل الاخوة التونسيون مجموعة. سافرت الى المغرب. فتشوا وحجزوا اللمبة. ثم رجعت لفترة قصيرة وسافرت الى القاهرة. بعد عودتي أبلغني وزير الداخلية التونسي ان اللمبة تحتوي على جهاز ارسال وسألني من احضرها فأبلغته، وقلت له انه احضر لي كرسياً أيضاً فأخذوا الكرسي وعثروا فيها على جهاز ارسال. جهاز تصوير وإرسال ام ارسال فقط؟ - جهاز ارسال فقط. أحضروا عدنان وحققوا معه. ألم تراه ثانية؟ - لا. وأعتقد انه جند قبل سنتين. يبدو انه كان يعطي اسماء. من جاء ومن ذهب. المسألة الوحيدة العملية التي نفذها هي هذه. أعطوه سيارة وتبين انها لا تحتوي على اجهزة. وأعطوه اموالاً. ماذا اراد الاسرائيليون من وراء العملية؟ - يبدو انهم عرفوا ان الاجتماعات المتعلقة بالمفاوضات تعقد هنا، وحاولوا ان يعرفوا ماذا يجري في الداخل وهل ما يسمعونه في العلن مطابق لحقيقة المواقف. ربما هذا هو السبب. وربما أيضاً ان جهة في المخابرات الاسرائيلية سمعت شيئاً عن أوسلو وتريد ان تكتشف التفاصيل، فقد تبين انهم لم يكونوا على اطلاع وحاولوا التنصت. هل زرع عدنان ياسين اجهزة في مكاتب اخرى؟ - لا. لم يصل الى مكتب أبو عمار؟ - لا. فتشنا كل المكاتب. لم يكلف عملية اغتيال؟ - لا. ولو كلف لكانت سهلة عليه. كان يكفي مثلاً ان يضع متفجرة في الكرسي التي جلست عليه. وهل تحدثت في تلك الفترة بلغة تناقض التزامات وفدكم؟ - أنا أصلاً أتكلم لغة واحدة. ثم انه لم يتح لهم وقت طويل، ففي تلك الفترة كنت مسافراً في معظم الوقت. زرع الاجهزة في مكتبي دام نحو عشرة أيام فقط. لقد زرعت بعد التوقيع. وجلست عملياً ثلاثة ايام خلال اجتماعات المجلس المركزي. زرعت الاجهزة خلال وجودي في المغرب ثم اكتشفت اثناء وجودي في القاهرة. ماذا كان دورك في انضاج قرار السلام الفلسطيني؟ - في وقت مبكر جداً وصلت الى قناعة مفادها ان النضال ليس عسكرياً فقط وإنما النضال يتم بأشكال مختلفة، ومن بين هذه الاشكال ان تُقنِع وتُقنَع. والشيء الآخر الذي شعرت بأهميته هو انه لا بد لنا في النهاية من الجلوس الى الطاولة وان رفض هذه المسألة يدخل في باب اضاعة الوقت والتأجيل. لذلك كنت أنادي باللقاء مع الاسرائيليين في ندوات ومحاضرات واجتماعات وسواء كانوا من حزب العمل أم ليكود ام غيرهما. وجاءت الفرصة المناسبة في دورة 1988. والحقيقة انني أنا بدأت عملية السلام او مشروع السلام الفلسطيني الذي سماه السوفيات لاحقاً مشروع أبو مازن، وهو مشروع تبناه المجلس الوطني. وهذا المشروع أخذته أنا من الخطاب السياسي للانتفاضة. قلنا انه يجب الا نزايد على الناس في الداخل وأن علينا السعي الى تطبيق ما يقولونه. نحن نقلنا الخطاب السياسي وكان الأمر يحتاج الى جرأة اذ كان علينا ان نعترف للمرة الأولى بالقرار 242. كان ذلك الطريق الوحيد كي نقبل دولياً، وهو كان مطلباً للعدو والصديق معاً. الشيء الآخر انني حضّرت في وقت مبكر ملفات كنت مسؤولاً عنها وهي ملفات سياسية وقانونية وغيرها وكلفت خبراء من الفلسطينيين والعرب والاجانب لتكون جاهزة حين يأتي وقت التفاوض. هذا حصل قبل سنتين من بدء المفاوضات. وحين جاءت المفاوضات أشرفت على الشقين الثنائي والمتعدد، وحين جاءت أوسلو اشرفت عليها. كل هذا استناداً الى قرار من اللجنة التنفيذية كان كلفني الاشراف على عملية التفاوض.