ضبط 1.2 طن خضروات تالفة في سوق الدمام المركزي    وزير الخارجية يصل روسيا للمشاركة في اجتماع مجموعة بريكس    جامعة نورة تدفع بخريجات الدفعة الأولى للغة الصينية    مؤشر سوق الأسهم السعودية يغلق منخفضًا عند مستوى 11853 نقطة    "هيئة النقل" لحملات الحج: بطاقة السائق ضرورية    السفارة بمصر للمواطنين: سجلوا بياناتكم لاستخراج إقامة    تراجع أسواق الأسهم الأوروبية واليورو بعد نتائج انتخابات الاتحاد الأوروبي    500 من ذوي الشهداء والمصابين يتأهبون للحج    مانشيني: سنخوض "كأس الخليج" بالتشكيلة الأساسية    المنتخب السعودي يحصد 5 جوائز بأولمبياد الفيزياء    حاجة نيجيرية تضع أول مولود بالحج    محافظ القريات ويلتقي اعضاء جمعية الحياة لرعاية مرضى السرطان    أمير تبوك يوجّه باستمرار العمل خلال إجازة عيد الأضحى    «الموارد البشرية»: بدء تطبيق قرار حظر العمل تحت أشعة الشمس اعتباراً من 15 يونيو    واشنطن تدرس التفاوض مع حماس لإطلاق أسراها    وصول 1075 من ضيوف خادم الحرمين من 75 دولة    سمو أمير الباحة يستقبل مساعد وزير الرياضة ويبحث احتياجات المنطقة    القيادة تهنئ رئيس جمهورية البرتغال بذكرى اليوم الوطني لبلاده    الذهب يستقر عند 2296.17 دولار للأوقية    وزير التجارة يصدر قرارًا وزاريًا بإيقاع عقوبة مباشرة على كل من أخلّ بأداء واجبه في إيداع القوائم المالية    الطقس : حاراً إلى شديد الحرارة على الرياض والشرقية والقصيم    خادم الحرمين يأمر باستضافة 1000 حاجّ من غزة استثنائياً    انحفاض الإنتاج الصناعي 6.1% في أبريل    تطوير مضاد حيوي يحتفظ بالبكتيريا النافعة    بدء أعمال المنتدى الدولي "الإعلام والحق الفلسطيني"    "الرياض للبولو" يتوّج بطلاً لبطولة تشيسترز ان ذا بارك    عبدالعزيز عبدالعال ل«عكاظ»: أنا مع رئيس الأهلي القادم    400 مخالفة على الجهات المخالفة للوائح التعليم الإلكتروني    شرائح «إنترنت واتصال» مجانية لضيوف خادم الحرمين    بعد ياسمين عبدالعزيز.. ليلى عبداللطيف: طلاق هنادي قريباً !    شريفة القطامي.. أول كويتية تخرج من بيتها للعمل بشركة النفط    المجلس الصحي يشدد على مبادرة «الملف الموحد»    «التعاون الإسلامي»: الهجوم الإسرائيلي على مخيم النصيرات جريمة نكراء    العطلة الصيفية واستغلالها مع العائلة    "السمكة المتوحشة" تغزو مواقع التواصل    11 مبادرة تنفيذية لحشد الدعم الإعلامي للاعتراف بدولة فلسطين    وزارة الحج تعقد دورات لتطوير مهارات العاملين في خدمة ضيوف الرحمن    إعادة تدوير الفشل    خلود السقوفي تدشن كتابها "بائعة الأحلام "    الحج عبادة وسلوك أخلاقي وحضاري    الداخلية تستعرض خططها لموسم الحج.. مدير الأمن العام: أمن الوطن والحجاج خط أحمر    أمير القصيم يشيد بجهود "طعامي"    رسالة جوال ترسم خارطة الحج لشيخ الدين    محافظ الأحساء يرأس اجتماع لجنة السلامة المرورية    «فتيان الكشافة» يعبرون عن فخرهم واعتزازهم بخدمة ضيوف الرحمن    قيادات تعليمية تشارك القحطاني حفل زواج إبنه    استشاري:المصابون بحساسية الأنف مطالبون باستخدام الكمامة    الدكتورة عظمى ضمن أفضل 10 قيادات صحية    رئيس جمهورية قيرغيزستان يمنح رئيس البنك الإسلامي للتنمية وسام الصداقة المرموق    وفد الشورى يطّلع على برامج وخطط هيئة تطوير المنطقة الشرقية    التخبيب يهدد الأمن المجتمعي    تغييرات الحياة تتطلب قوانين جديدة !    رئيس الأهلي!    الشاعر محمد أبو الوفا ومحمد عبده والأضحية..!    فشل التجربة الهلالية    انطلاق معسكر أخضر ناشئي الطائرة .. استعداداً للعربية والآسيوية    أمير تبوك يواسي عامر الغرير في وفاة زوجته    نفائس «عروق بني معارض» في لوحات التراث الطبيعي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من معابد القدماء الى حماسة الغرب المدهشة . الرقص الشرقي فن أصيل أم "هز" بلا أصول ؟
نشر في الحياة يوم 21 - 11 - 1994

"ترقص الغوازي سافرات الوجه في الشوارع العامة فيسليّن حتى الرعاع من القوم، ولا يتسم رقصهن بأدنى لباقة او اناقة. وهن يبدأن الرقص بشيء من الذوق ولكنهن ما يلبثن ان يحولنه الى استعراض راقص فيتغزلن اللواحظ ويضربن الصناجات ويزدن من خفة الحركات والخطوات فيصدق فيهن وصف مارشال دجو فينال لراقصات قادس، واثواب رقصهن مشابهة لأثواب نساء الطبقة المتوسطة التي يرتدينها في حلقاتهن الخاصة، وهي تتألف من "البلك" و "الشنتيان" من القماش الانيق. وتتزين هؤلاء الراقصات بحلى مختلفة ويرسمن اطراف اللواحظ بالكحل ورؤوس اصابعهن وراحات ايديهن واقدامهن بالحناء الاحمر وفقاً لعادة نساء الطبقتين المتوسطة والغنية. ويرافقهن عادة موسيقيون يعزفون على الكمنجة والربابة والطار والدربوكة والزمارة. وتحمل الطار، في العادة امرأة عجوز".
هذا الوصف المثالي لعالم الراقصات يرد في احد فصول كتاب "عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم" للمستشرق الانكليزي ادوارد ويليام لين، الذي زار مصر وعاش فيها ردحاً من الزمن خلال النصف الاول من القرن الفائت. وهو الوصف نفسه الذي نجده في كتابات رحالة آخرين زاروا الشرق في القرن نفسه، من امثال فلوبير وغوتييه ودي نرفال. حيث كان الواحد من هؤلاء لا يخفي اعجابه، خاصة، بفن الراقصات وتأثره به، مبدياً دهشته ازاء سيطرة هذا الفن "الانثوي الخالص" على مجتمع يكاد يكون ذكورياً في مجمله.
بيد ان اولئك الرحالة كان لا يفوتهم في الوقت نفسه، ان يشيروا الى ان الراقصات كن يشغلن ادنى درجة في سلم الفنون، وواحدة من الدرجات السفلى في المجتمع، الى جانب الخادمات والمومسات، حتى ولو كان ما تؤديه تلك الراقصات فناً عميق الجذور. فالحال ان الزمن الذي كان فيه الرقص يعتبر جزءاً من العبادات القديمة كان ولى منذ قرون، وأضحت الرسومات الجدرانية والمحفورات التي تمثل الراقصات يقمن باداء شتى ضروب الرقص التعبدي، جزءاً من محتويات المتاحف. اواسط القرن الفائت كان الرقص اضحى فناً مبتذلاً، وهو سيواصل سيرته هذه، حتى منتصف القرن العشرين، حين بدأ يستعيد وبالتدريج شيئاً من مكانته. غير ان الرحلة كانت طويلة وشاقة، بل ان نتائجها لم تكن متوقعة. فقبل ايام تحية كاريوكا وسامية جمال ونجوى فؤاد، هل كان بإمكان احد ان يخمن بأن يوماً سيأتي يستعيد فيه فن الرقص الشرقي مكانة محترمة في المجتمع، وسوف تكون هناك راقصات يحملن، كما في لبنان مثلاً، اسماء عائلات عريقة: من رويدا الهاشم الى دانا بسترس وغيرهما.
التلفزيون يعيد الاعتبار
بفضل السينما المصرية، اولاً، ثم بفضل الثورة التلفزيونية بعد ذلك، تمكن فن الرقص من ان يخرج اخيراً من الكاباريهات التي كانت شكلت ملجأه الوحيد، منذ راحت السلطات تمنع الغوازي والغجريات من الرقص في الشوارع التي التقاهن فيها كبار الكتّاب المستشرقين في القرن الفائت. واذا كان كاتبنا الكبير نجيب محفوظ يملأ بعض فصول رواياته مثل "الثلاثية" و "بداية ونهاية" بصورة الراقصات كما كانت تتجلى عند بدايات قرننا العشرين هذا، فان مجيء فنانة كبيرة مثل تحية كاريوكا في سنوات الاربعينات ادى الى نقل الرقص الشرقي من مجرد "رقص بطن همه الاثارة" الى وضعية الفن العريق. من هنا لم يكن من قبيل المصادفة ان تحظى تحية كاريوكا بكل الاحترام والتقدير اللذين تتمتع بهما حالياً، ووصلا الى ذروتهما عبر دراسة تكريمية كتبها استاذ جامعي كبير ادوارد سعيد وتفنن الناقلون والمترجمون في نقلها وترجمتها.
تحية كاريوكا تعتبر اليوم مَعْلماً من معالم الفن العربي واشارة الى انعطاف زمني. ولكن، حتى هذه الفنانة المخضرمة الكبيرة، كان عليها ان تجاهد وتكافح طويلاً قبل ان يتم الاعتراف بها وبفنها. بل كان عليها ان تبدع كممثلة سينمائية ومسرحية حتى تحترم فيها الراقصة. حول هذا الامر تبدي تحية كاريوكا اليوم دهشتها وتقول: "الحقيقة ان ما يدهشني هو ان الرقص موجود في دم كل بنت عربية، وحسبكم للتيقن من هذا ان تحضروا اي عرس او اي اجتماع حريمي، ثم مختلط، تصدح فيه الموسيقى، لتروا عدد البنات - بنات العائلات - اللواتي ينتفضن فجأة ويبدأن رقصاً لا ينتهي ابداً".
ما تقوله تحية كاريوكا يمكن ملاحظته في كافة المدن والقرى العربية من المحيط الى الخليج بل بدأ يصبح "موضة شائعة" في الحفلات الغنائية، "ومع هذا، تقول تحية كاريوكا، حين ينتقل الرقص من الهواية الى الاحتراف تبدأ المشاكل وتبدأ الاحكام المسبقة".
العثمانيون أفسدوه
تعتبر تحية كاريوكا انها قد خاضت معركة كبيرة خلال العقود الاولى من حياتها لكي تجعل فن الرقص فناً محترماً. وتقول ان السلطات المصرية في بداية سنوات الخمسين كانت اول من بادر الى الاهتمام بفن الرقص والسعي لإخراجه من ابتذاله، وتتذكر في هذا المجال القرار الذي اتخذته واحدة من حكومات الرئيس عبد الناصر بجعل ثياب الراقصات اكثر احتشاماً عبر تغطية البطن والظهر بقماش شفاف.
والحال ان الخلط قام دائماً بين اداء الراقصة وثيابها، حيث ان جزءاً كبيراً من السمعة السيئة التي كانت للرقص جاء من الابتذال في الملابس. وهذا الابتذال كانت بدايته مع امتلاء الساحة بالراقصات الجيورجيات اللواتي كان يؤتى بهن على شكل سبايا ورقيق خلال العهد العثماني، فيتعلمن حركات الرقص بسرعة كأداة للترفيه عن اسيادهن، ويحرصن على ان تكشف ثيابهن عن اكبر قدر ممكن من الجسم للتركيز على بياض جلدهن وجمال تقاطيعهن. ومع هذا من المعروف ان الرقص لا علاقة له بالكشف عن الجسم اذ منذ انتهى عهد الراقصات العاريات في المعابد الفرعونية، صار الرقص قائماً في ذاته مهما كانت انواع وكثافة الملابس التي ترتديها الراقصة. وفي هذا المجال يضرب، عادة، مثال الراقصة سالومي التي أدت واحدة من اكثر الرقصات اثارة في التاريخ وهي مرتدية سبع بدلات متراكمة فوق بعضها البعض.
فنانة راقصة كبيرة مثل سامية جمال كانت تعتبر الثوب جزءاً من الاداء الراقص من دون ان تربط ذلك بشرط ان يكون ثوباً عارياً. وسامية جمال اعتبرت على الدوام ولية عهد تحية كاريوكا، وكانت اول راقصة شرقية كبيرة تلفت اهتمام الاوساط الغربية، منذ اكتشف الغرب افلامها الاولى التي ظهرت فيها راقصة وممثلة من طراز جيد، وكان معظمها من بطولة فريد الاطرش الذي ارتبط اسمه باسمها ردحاً من الزمن، ونال فنها تقديراً يوازي احياناً التقدير الذي ناله غناؤه وموسيقاه.
مع تحية كاريوكا وسامية جمال، لم يعد الرقص مماثلاً لرقص زنوبة في ثلاثية نجيب محفوظ، ولقد تماشى هذا الامر مع الاحترام المتجدد الذي كان من نصيب الرقص الشرقي ايام عبد الناصر، وخلال العهد الذهبي للسينما المصرية، حيث كان الفيلم لا يعتبر فيلماً ان هو لم يتضمن رقصة او رقصتين. ولقد كانت تحية كاريوكا وسامية جمال الحلقتين الاوليين في سلالة ضمت بعدهن راقصات مثل هدى شمس الدين وليلى الجزائرية، ثم ناديا جمال التي انتقلت الى بيروت بعد رحيلها من مصر لتؤسس رقصاً شرقياً في لبنان لا تزال له حتى اليوم مكانته واهميته. غير ان نجوى فؤاد ابنة مدينة العريش، ذات القامة الهيفاء والذكاء الحاد، كانت هي الحلقة الاهم في تلك السلالة، وذلك لأنها كانت - على طريقة سامية جمال - من اوائل اللواتي عرفن المزج بين فن البالية وفن الرقص الشرقي، مستفيدة من دروس الرقص الهندي، حتى ولو لم تكن قد تنبهت الى ان هذا الرقص الهندي هو الوالد الشرعي - وغير المعلن على اي حال - للرقص الشرقي الحديث. فاذا كان الكثيرون يعودون بهذا الرقص الى جذور تركية، فان هذه الاعادة ناجمة في الحقيقة عن سوء تفاهم، لأن الاتراك حين اتوا من سهوبهم الآسيوية لم يكونوا يعرفون عن الرقص الشرقي شيئاً. هذا الرقص وصلهم بعد ذلك عن طريق الفرس الذين نقلوا اليهم رقصاً نشأ وترعرع عبر الاندماج بين الطقوس الهندية الراقصة وضروب الترفيه المغولية.
رقص للجسم كله
هذا التاريخ كله، كان اضحى غائباً حين اطلق الغربيون المشدوهون على الرقص الشرقي اسم "رقص البطن" وهو اسم احتجت عليه نجوى فؤاد طويلاً ولا زالت تحتج قائلة "لست ادري من اين جاءت هذه التسمية التي تحصر الرقص وفنونه في منطقة واحدة معينة من الجسم، ليست هي على اي حال اهم مناطقه بالنسبة الى الرقص". وترى نجوى فؤاد ان الجسم كله يشارك في الرقص، وخاصة العنف والشعر واليدين ونظرات العينين. مهما يكن فإن نجوى فؤاد كانت من اوائل الراقصات اللواتي ركزن على دور الجسم ككل، وعلى ان الرقص ليس مجرد اهتزازات، بل هو لغة حسية متكاملة لها رموزها واشاراتها ومعانيها. هذا الرأي تؤكده اليوم الراقصة لوسي، التي تعتبر نفسها مدينة بالكثير لمدرسة نجوى فؤاد. فلوسي، وهي الى جانب فيفي عبده تعتبر من ابرز الراقصات المصريات اليوم ترى ان الرقص فن ايمائي اولاً واخيراً، وان الحركات التي تقوم بها الراقصة خلال ادائها لرقصتها، انما هي لغة خاصة.
اهتمامات غربية
بهذا كانت لوسي واحدة من الاصوات التي ارتفعت اخيراً في الغرب، للدفاع عن الرقص الشرقي وابعاده عن نظرية "هز البطن" وربطه ب "الباليه" مبتعدة به عن الابتذال الذي وسمه.
مهما يكن، فان اوروبا كانت منذ زمن كفّت عن ربط الرقص الشرقي بالابتذال معطية له مكانته الحقيقية. جاء هذا عبر اكتشاف الراقصات الكبيرات في الافلام المصرية، مما دعا الى تقديم برامج خاصة معظمها حمل توقيع فردريك ميتران عن تحية كاريوكا وسامية جمال، ولكن جاء ايضاً عبر الغزوة التي قام بها الرقص الشرقي للحياة الغربية بشكل مباشر.
هذه الغزوة لها وجهان اساسيان، اولهما محاولة بعض كبار مصممي رقص الباليه ادخال الرقص الشرقي في صلب استعراضاتهم، كما كان حال موريس بيجار، الذي قاده اهتمامه بالشرق اوساط السبعينات الى تقديم عروض مستقاة من موسيقى اغاني ام كلثوم كما من الفنون الفارسية، وايضاً كما كان حال المصمم الاميركي الشاب المقيم في باريس آنذاك اندي درغوت الذي تدرب طويلاً لدى بوب ويلسون قبل ان ينصرف للعمل بمفرده حيث قدم في العام 1992 برنامجاً راقصاً استوحى معظم فقراته من الرقص الشرقي. هذا بالنسبة الى الوجه الاول، اما الوجه الآخر فأكثر مباشرة، اذ يتجلى في اداء الرقص الشرقي في ملاهي وحفلات العواصم الغربية ولا سيما منها لندن وباريس.
لقد حضر الرقص الشرقي، اولاً، بفعل وجود جاليات عربية كبيرة في تلك العواصم، وبفعل افتتاح العديد من الملاهي والمطاعم والكباريهات التي راحت تجتذب زبائنها عبر تقديم وصلات الرقص. بعد ذلك كانت الفورة التي بدأت اواخر سنوات الثمانين: الفورة التي تجلت في ابداء العديد من الفتيات الغربيات رغبتهن في تعلم الرقص الشرقي كاداء فني خالص. وعلى هذا النحو، وفي الوقت الذي يستعيد الرقص سماته العائلية عبر اقبال بنات العائلات في لبنان وفي مصر وفي بلدان المغرب على احترامه، نجد الفن الراقص يعيش حياة جديدة في الغرب، وخاصة بعد ان جرى افتتاح مدارس عدة للتدريب عليه.
تعبير عن خصوبة الارض
من اشهر هذه المدارس، المدرسة التي افتتحتها في باريس الفنانة التونسية ليلى حداد التي تهتم بتقديم العروض الراقصة في المسارح فقط. وذلك لإزالة اي التباس اخلاقي يحيط بهذا الفن العريق. ومن المعروف ان ليلى حداد لا تكف منذ نحو عقد ونصف من السنين عن مساعيها لاعادة الاعتبار الى فن ترى انه ظُلم وظَلَم نفسه كثيراً. في سبيل هذا، تكرس ليلى حداد معظم وقتها في تدريس الرقص لبنات وابناء العائلات، وفي حضور المؤتمرات والندوات ولسان حالها يقول "لا... ان الرقص الشرقي لم يعبر مباشرة من المعابد القديمة الى بيوت الهوى، كما يحاول المستشرقون ان يقولوا. بل انه قام برحلة طويلة عبر خلالها من الهند الى ديار البحر الابيض المتوسط، برفقة الغوازي والغجر. ثم ما العيب في ان يكون الرقص الشرقي هزاً للبطن. إن حركات هز البطن خير تعبير عن الخصوبة وعن عالم العطاء... وحسبنا مراقبة طقوس التعبد الشعبي لدى القبائل الافريقية للتيقن من هذا".
قد تكون ليلى حداد واحدة من راقصات ومعلمات عديدات يدافعن عن الرقص الشرقي في الغرب اليوم، لكن تحركها يتسم بحماس شديد يجعلها لا تساوم على مستوى الاحترام الذي يجب ان تتمتع به الراقصات "شرط ان تعرف الواحدة منهن كيف تحافظ على كرامة هذا الفن".
هذا الشرط تتبناه، كذلك، لوسي التي تقول ان مشكلة الرقص لا تأتي من نظرة الآخرين اليه بقدر ما تأتي من ممارسة بضع اللواتي يحسبن انفسهن عليه، وتقول: "ان كل فن يبتذله اصحابه سيصبح مبتذلاً... ومشكلة الرقص ان اصحابه هم اول مبتذليه" وترى لوسي اننا لو بذلنا شيئاً من الجهد والجدية يمكننا ان ننقذ الرقص من براثن قاتليه.
نشاط مكثف في انكلترا
الجهد والجدية سمتان تطبعان عمل ثريا هلال، التي تسهر على الرقص الشرقي في بريطانيا، اليوم، كما تفعل ليلى حداد في باريس. ثريا هلال هذه تعتبر من ابرز اللواتي يدافعن عن الرقص الشرقي في بريطانيا، حيث تشرف على تدريب مئات الطالبات على اداء هذا الفن العريق والذي تنظر اليه على انه واحد من اقدم الفنون التي ارتبطت بها طبيعة الانسان. سهير هلال، بدأت اهتمامها بالرقص في اميركا حيث اشتغلت اولاً على نظرية متكاملة، غايتها ان توصل رسالة من المؤدي الى المتلقي، تكون الموسيقى وسيلتها ورديفتها. بيد ان لوسي اذ تقول هذا وتبدأ بتحليله تتوقف فجأة وتشير الى ان الواقع هو غير النظرية لأن متطلبات المتفرجين، في الحفلات او في الملاهي، او على شاشة التلفزة او في الاعراس غالباً ما تفرض على الراقصة الخضوع للمنطق المتعارف عليه فيصبح اداؤها مجرد عرض متعدد الوجوه وتغيب دلالته الايحائية. وحسب المرء ان يزور اي كاباريه ترقص فيه فيفي عبده في القاهرة ليتيقن من هذا. فحتى اذا كان الكثيرون يعتبرون فيفي عبده راقصة مهمة تنتمي الى مدرسة سامية جمال، فان العرض الذي تقدمه لا يترك لفن الرقص في حد ذاته اي مكان. لأن هذه الفنانة، وتبعاً لنوعية جمهورها، تترك الرقص جانباً لتبدأ بتأدية اغنيات ركيكة ذات معان مبتذلة تصحبها بحركات اقل ما يمكن ان يقال فيها انها تعيد الرقص الى مكانته التي كانت له قبل تحية كاريوكا، وانها تبرر الدعوة التي اطلقتها نقابة السينمائيين المصريين قبل فترة للتوقف عن السماح للراقصات بالتمثيل في الافلام السينمائية!
لوسي وفيفي عبده تعتبران اليوم الأبرز على ساحة الرقص في مصر من دون ان ننسى هنا اسماء مثل سوزي خيري وسهير زكي، وهما - اضافة الى هذا وبسببه - تشكلان هدفاً اساسياً بالنسبة الى المتطرفين الذي يعتبرون الرقص حراماً ويجب منعه، كما هو حال السينما والغناء والمسرح. واذا كانت فيفي عبده تصطحب عدداً من الحراس في تنقلاتها خوفاً على نفسها، فان لوسي تفضل ان تترك للزمن أمر حل مثل هذه الاشكالات وتركز على ان الرقص تسلية بريئة ومتعة لا تتعارض مع الاخلاق، مؤكدة انها مستعدة للدفاع عنه حتى ولو كلفها الامر حياتها.
هذا الموقف تعبر عنه لوسي بشكل يومي، ولا سيما امام الاعلام الغربي الذي، وسط اهتمامه بقضايا التطرف وما يتعرض له الفنانون من مخاطر في مصر وغيرها، استجوب لوسي اكثر من مرة واهتم اهتماماً خاصاً بفنها المميز، الى درجة انه كرّس لها فيلماً تلفزيونياً عرض منذ فترة على الشاشة الفرنسية ولفت الانظار، وخاصة ان لوسي عرفت كيف تقدم فن الرقص من خلاله، كفن محترم مرتبط بالحضارة العربية والشرقية، مزيلة عنه بعض الالتباسات التي رافقت تاريخ الرقص الشرقي مركزة على "تعبيراته الثقافية كما على اشكاله الجدية". بيد ان الاوضاع لم تمش على ما يرام في اميركا. لماذا؟ "لأن تقاليد الكاباريه الهوليوودية حالت بين فن الرقص وبين ان يكون له اي اعتبار خاص" كما تؤكد سهير هلال. وهذا ما جعلها تعود الى الشرق الاوسط حيث قامت بجولات عدة استهدفت من خلالها استكشاف اساليب التعبير الرقصي العريقة. لكنها حين حاولت ان تمارس المهنة في مصر، وجدت الآفاق امامها مسدودة فتوجهت الى انكلترا في العام 1979 وكانت المفاجأة في انتظارها حيث اكتشفت بعد ان كادت تيأس ان بريطانيا وجمهورها يستجيبان لنظرتها للرقص على انه شكل راق من اشكال الفن. في البداية استقرت سهير في اوكسفورد ثم انتقلت الى لندن حيث أسست "مدرسة هلال للرقص الشرقي" مع خمسة من الاساتذة الذين تولت تدريبهم بنفسها.
هذه المدرسة سرعان ما تحولت الى مركز اشعاع لفن الرقص في اوروبا كلها، خاصة وان سهير عرفت كيف تمزج بين عفوية الاداء الشرقي وتقنيات اللعبة المسرحية الغربية واستقدمت عدداً كبيراً من الموسيقيين من مصر، والطريف ان مدرسة سهير هلال تصدر اليوم صحيفة تقنية خاصة بفن الرقص الشرقي وتاريخه وتقنياته تعتبر فريدة من نوعها في العالم.
مدرسة ثريا هلال صارت اليوم مؤسسة تعقد دورة سنوياً ويشرف على التدريب فيها ثمانية عشر مدرباً يتوزعون بين مراكز عدة تنتشر في العديد من المدن الانكليزية ويرتادها طلاب معظمهم من الاوروبيين الذين يأتون من ايطاليا وهولندا وبلجيكا وفرنسا.
واحدة من الراقصات واللواتي تخرجن من مدرسة ثريا هلال، ليزا ودجوود، تعتبر اليوم من ابرز المهتمات بفن الرقص الشرقي وهي تعمل على الدوام على التقريب بين فن الرقص الشرقي وفن الباليه مما مكنها من الحصول على دعم من المجموعة الاوروبية، وهو دعم جعلها قادرة على التجول والدراسة والتدريس بين المانيا وهولندا وبلجيكا، وعلى تحقيق عرض فني عنوانه "رقص ذهبي، لكلمات فضية" تقدمه في لندن وبعد ذلك في المانيا، وهو عرض يعتمد اساساً على الرقص الشرقي.
إرث هوليوودي ايضاً
في مانشستر التي تعتبر اليوم احدى المراكز الاساسية لازدهار فن الرقص الشرقي في اوروبا، تقوم شيان دايفيز، باستخدام الرقص الشرقي كوسيلة لتدريب البالغين المعاقين او الذين يعانون من صعوبات تدريبية وتقول: "ان الرقص يساعد هؤلاء على التعلم كيف يركزون طاقاتهم وعلى ابراز خبايا انفسهم كما يساعدهم على استكشاف امكانياتهم الجسدية" وتقول شيان ان سرورها، في نهاية الامر، ينبع من رؤيتها لكل هؤلاء وقد حل "السرور لديهم مكان الحزن وبدوا مستمتعين بما يفعلون مستجيبين للموسيقى استجابة طيبة".
تعترف ثريا هلال، بأن هذا الجانب الجاد في حياة الرقص الشرقي ليس كل جوانبه. فالحال ان ثمة راقصين كثيرين ومدرسين للرقص، لا يزالون مصرين على استلهام مصادر الرقص من الاشكال التي قدمتها السينما الهوليوودية. صحيح ان هؤلاء يستندون الى تراث عريق يتمثل في اداءات راقصات مصريات كبيرات من امثال تحية كاريوكا ونعيمة عاكف وسامية جمال، غير ان النتيجة غالباً ما تكون الارتماء الخالص في احضان السمات الهوليوودية كما تجلت في افلام الاربعينات والخمسينات، حيث تمكن النموذج الهوليوودي من فرض انماط حركاته وملابسه التي استوحاها عدد كبير من الراقصات في مصر وغيرها مما حرف الرقص الشرقي عن جذوره الحقيقية، فصار مجرد رقص اثارة شعبي وللسياح. بعد هذا يبقى السؤال الاساسي: ترى ما الذي يجعل الرقص الشرقي المنظور اليه نظرة جدية، يحظى اليوم باقبال الفتيات الغربيات كما هو ملاحظ في باريس ولندن وغيرهما؟ وبإقبال بنات العائلات كما هو ملاحظ في لبنان ومصر خاصة؟
على هذا السؤال تجيب جيني غاردنر، احدى العاملات في الرقص الشرقي في لندن، "الحقيقة ان الرقص الغربي وشتى فنون الباليه تتركني على ظمأي للاداء الفني الحقيقي. صحيح انني احس بمتعة شديدة ازاء البعد المسرحي لفن الباليه، وتبهرني الملابس والمناظر، بيد اني احس في الوقت نفسه بأن الراقصين بعيدون عني جداً غير متصلين بي عاطفياً او حسياً أما في الرقص الشرقي فأشعر ان الراقصة تعبر عن نفسها وعن داخلها كلياً في الرقص".
اما ثريا هلال فتجيب عن السؤال نفسه قائلة: "انني اشعر بأن النساء يستجبن للمحتوى العاطفي والحسي في الرقص الشرقي. فالمرأة حين تسيطر على فن الرقص وتمارسه تشعر انها تسيطر على نفسها وحواسها وان لها مكاناً خاصاً بها في هذا العالم. صحيح ان الموسيقى الايقاعية تلعب دوراً اساسياً في هذا كله، غير ان الاحساس بالقوة الذي ينتج عن حركات الجسم هو الاساس في بزوغ الطاقة لدى الراقصة".
لكل جمهور ردود فعله
سارا هينيسي، عاملة اخرى من العاملات الانكليزيات في مجال الرقص الشرقي، بيد ان الطريق بالنسبة لسارا هو انها أتت الى هذا الرقص عن طريق طقوس "تاي تشين شوان" الصينية "لقد تعلمت هذه الطقوس كوسيلة للتعبير عن نفسي، لكني سرعان ما اكتشفت انها بطيئة الايقاع لا تناسب ديناميتي. فتبعت نصيحة شقيقتي باللجوء الرقص الشرقي الذي تعلمته في كامبريدج على يد مدرّستي آنجي جاكونسان. وترى سارا ان الرقص علّمها كيف تعبر عن نفسها بشكل افضل وكيف تضبط ديناميتها وتنفسها وايقاع حياتها ككل.
سارا وجيني ترقصان معاً اليوم، ومنذ اكثر من عام ونصف العام، في الحفلات العامة، ولكن خاصة خلال افراح عربية تعقد في بريطانيا ولدى عائلات ترحب بهن وبرقصهن ترحيباً كبيراً. وتقول سارا ان الجمهور الغربي يبدي ازاء الرقص الشرقي رد فعل مغايراً تماماً لرد الفعل الذي يبديه الجمهور العربي "في البداية يبدو الجمهور الانكليزي مرتبكاً وعلى غير ما يرام، خصوصاً الرجال. ولكن ما ان تبدأ النساء بالابتسام حتى تنجلي الامور ويسود حماس كبير، وغالباً ما تنضم النساء الينا راقصات في نهاية الامر. اما رد فعل الجمهور الغربي فمباشر وفوري. اذ منذ اللحظة التي تخبط فيها اول ضربات الايقاع يظهر الحماس كبيراً وينضم الينا حتى الرجال".
في حديثهما عن الرقص تكشف سارا وجيني عن حماس كبير، يشبه الى حد ما الحماس الذي تبديه لوسي في مصر، او المعجبات العديدات والمعجبون الكثيرون برويدا الهاشم ودانا بسترس في لبنان. وكل هذا يضعنا امام سؤال بديهي: هل بدأ الرقص الشرقي يعيش حياته الجديدة؟ اي هل بدأت تتحقق احلام تحية كاريوكا ونعيمة عاكف في خروج الرقص الشرقي، اخيراً وحقاً، من الفيتو الذي وضع فيه طوال عصور عديدة؟
سؤال وحدها الايام كفيلة بالإجابة عنه وان كانت بداية الاجابة بدأت حقاً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.