ارتفاع معدلات العنف في الولاياتالمتحدة، كاد يحصّن البلاد ضد الدهشة من غرابة عمل اجرامي فهي شهدت عدداً من ابشع الجرائم التي اقترفها الانسان. الا ان الجريمة، التي كانت بلدة "يونيون" في ولاية ساوث كارولينا مسرحاً لها قبل ايام، هزت الضمير الاميركي بشدة واستقطبت اهتمام الجميع بمن فيهم الرئيس الذي وجد متسعاً للتعليق عليها. وقصة الواقعة الفظيعة، التي تركت ندوباً لا تمحى على حياة البلدة الصغيرة وسكانها 10 آلاف نسمة الذين تعيش غالبيتهم على صناعة النسيج، بدأت في 25 من الشهر الفائت حين هتفت سوزان سميث 23 عاماً للشرطة ان شاباً "اسود البشرة" اختطف ولديها مايكل 3 سنوات واليكس 14 شهراً وفر بهما الى جهة مجهولة. وزعمت ان المجرم اقتحم سيارتها عنوة لدى وقوفها امام احدى اشارات المرور وامرها بمتابعة القيادة الى بقعة شبه مهجورة حيث القى بها خارج السيارة ومضى بالصغيرين. خيم الحزن على البلدة وسط شعور طاغ انها فقدت براءتها وهدوءها الى الابد، وبكى ابناؤها مع الام الشابة التي ظهرت على شاشة التلفزيون غير مرة تتوسل الى الخاطف المزعوم بصوت متهدج كي يُعيد اليها ولديها. وفيما حشدت سلطات الشرطة كل امكاناتها للعثور على الطفلين ومحاسبة الخاطف، انطلق متطوعون يبحثون عن مايكل واليكس. ولم يتركوا جزءاً من ريف البلدة الذي تبلغ مساحته 1330 كيلومتراً مربعاً الا وجابوه على متن خيولهم او سيراً على الاقدام من دون ان يعثروا على اثر يدل الى الغائبين، فكأن الارض انشقت وابتلعتهما. ومع مرور الوقت اخذ الامل باستعادة الطفلين يخبو، وبدأ الشك يخامر سلطات الشرطة بسلامة الرواية التي سمعوها من الام. وحسماً للشك تقرر اختبار صحة اقوالها بواسطة جهاز "كاشف الكذب"، فجاءت نتيجة اختبارين متتاليين في غير صالح الام. وتعززت القناعة بأن سوزان تخفي بعض الحقيقة عن الشرطة، حين وجد المحققون في شقتها بمحض المصادفة رسالة من صديق ارتبطت به بعد انفصالها عن زوجها يبدي فيها استعداده للعيش معها شرط ان يخلو البيت الذي يضمهما من الاطفال. دموع التماسيح وبعد عشرة ايام من اتصالها الاول بالشرطة انهارت الام واعترفت بقتل ولديها اللذين ذرفت عليهما دموع التماسيح مرات عدة على شاشات التلفزيون ودلت المحققين الى مسرح الجريمة والمكان الذي غرقت فيه السيارة وعلى متنها مايكل واخيه اليكس. وفعلاً استطاع رجال الضفادع البشرية من العثور على السيارة. وقالت انها كانت تنوي الانتحار معهما لولا ان ارادتها ضعفت فور وصولها الى الرابية المطلة على بحيرة في اطراف البلدة، فترجلت من السيارة لاستنشاق الهواء. ولم تدر الا وقد دفعت السيارة وتركتها تمضي مسرعة بمن فيها باتجاه البحيرة. حاولت عبثاً ايقافها بعد فوات الاوان فلما لم تفلح احست بمرارة وندم قاتلين يجعلانها عاجزة عن تفسير ما حصل. وبينما يصعب التأكد من صدقها، فإن البحث عن تفسير واف لهذه الجريمة النكراء اعيا كثيرين. وعدا عن الحيرة المقترنة بالاستنكار، تحول قلق الآلاف في "يونيون" وخارجها الى غضب جارف من القاتلة. وطالب ابناء البلدة رجال الشرطة ان يتركوا سوزان وشأنها كي تلقى القصاص العادل على ايدي الامهات اللواتي احتشدن قرب المكمة حيث اقتيدت المجرمة للاعتراف رسمياً. ولو تمّ لهؤلاء ما اردن لمزقن المرأة التي انهالت عليها الشتائم حال ظهورها وسط حراسة مشددة. اذ نادى بعضهن بضرورة معاقبة "الساحرة الشريرة بالموت بالطريقة ذاتها التي قتلت بها ولديها البريئين". فيما تعالت اصوات اخرى مطالبة باعدام "المتوحشة سوزان" التي "اقترفت جريمة نكراء وحاولت ان تُبعد عنها اصابع الاتهام عن طريق الكذب" وبث الفرقة في المجتمع الذي خانته، اذ زعمت ان المجرم كان اسود البشرة فكادت تُزكي نار فتنة عنصرية وتؤلب اهل البلدة من بيض وسود البشرة بعضهم على بعض. زواج فاشل وطفولة قاسية وبمعزل عن الغضب العفوي العارم الذي شاع في البلدة، يبدو ان للجريمة جذورها الضاربة في حياة سوزان التي كانت عبارة عن كابوس حقيقي قلما تحررت الشابة من اعبائه. فهي رضعت القسوة مع الحليب في بيت مزقته الخلافات بين والدة متقلبة المزاج ووالد ضاقت به السبل فأطلق على نفسه رصاصات الخلاص امام طفلته سوزان التي لم تكن اكملت عامها الثالث. وعلى رغم حياتها المشحونة بالقلق والضياع، تمكنت سوزان ان تظهر بمظهر مقبول، لا بل محبب الى الذين تعاملوا معها. هكذا استطاعت كسب ثقة رفيقاتها، وفازت بجائزة "اكثر الفتيات مودة" حين كانت في المدرسة. وحازت بعد سنوات قليلة اعجاب زميلاتها في الشركة حيث عملت سكرتيرة التي تميزت بخفة الدم والجد. الا ان مزيداً من التنقيب في ماضي سوزان سميث من شأنه ان يسلط الضوء على حياة قاتمة ازدادت توتراً بعدما تعرفت الى ديفيد 24 عاماً، والد المغدورين، الذي ربطتها به علاقة وهي بعد طالبة مراهقة. ويذكر بعض الذين عرفوا المراهقين عن كثب في تلك الفترة، ان سوزان حاولت الانتحار بعدما عصفت الخلافات بعلاقتها مع ديفيد الذي احبته كثيراً. ومع ان علاقتهما انتهت بالزواج، فهذه النهاية "السعيدة" لم تكن نتيجة طبيعية بل خاتمة اتت عنوة وعلى نحو مباغت بعدما تأكدت سوزان انها حملت منه. وبدلاً من تجاوز الماضي وبدء حياة جديدة خالية من المنغصات، سرعان ما خاب امل احدهما بالآخر وادركا ان السعادة التي حلما بتحقيقها بعد الزواج هي سراب. هكذا امعن الاثنان في التشاؤم من مستقبلهما المشترك، وانغمس كل منهما في حياة مستقلة بعيداً عن الآخر على رغم انهما ظلا يعيشان تحت سقف واحد. الا انهما انفصلا قبل اشهر وشرعا بالاعداد للطلاق. وحين بلغه خبر اختفاء طفليه، جاء ديفيد ليشدّ من أزر زوجته ويسعى للعثور عليهما. لم يكن ينتظر المفاجأة المذهلة، واتعبه الالم المداهم فبدا كسيراً يجهش ببكاء مرير اثناء تشييع الصغيرين. اسئلة... وحقائق لكن هل تبرر المصاعب التي تعرضت اليها سوزان منذ طفولتها الاولى هذه الفعلة التي ارتكبتها بحق فلذة كبدها؟ وكيف يمكن تفسير براعتها في تمثيل الحزن على الطفلين، فهي امتنعت عن الظهور لأيام عدة اثر انتشار خبر اختفائهما بحجة انها "عاجزة عن وصف المرارة التي اعيشها. ينتابني الم شديد. لا استطيع ان انام او ان آكل او ان أفعل أي شيء آخر سوى التفكير بهما". وهل يُعقل انها اقدمت على التخلص من ولديها من دون تردد وهي في وضع نفسي سليم؟ تصعب الاجابة عن هذه الاسئلة قبل محاكمة سوزان التي قد تكشف عن خفايا هذه القضية المؤلمة ودوافعها وخلفياتها القديمة والحديثة. لكن من المؤكد ان الجريمة الحالية ليست اقسى الجرائم التي تعرض اليها اطفال اميركا، وان كانت استقطبت اهتماماً اعلامياً واسعاً لم يحظ به مقتل كريستينا زايلر 7سنوات في ولاية فلوريدا على يد والدها بالتبني، حسب امها التي كانت شاهدة عيان على الجريمة واعترفت بدورها فيها للمحققين قبل ثلاثة ايام من الاعلان عن توجيه تهمة القتل لسوزان سميث. وذكرت احصائيات اصدرها "مكتب الشرطة الفيدرالية" ان 662 طفلاً ممن لم يتجاوزوا الخامسة سقطوا ضحايا جرائم قتل خلال العام 1992 كان المتهمون بارتكاب ثلثيها والدي الضحية او احدهما على الاقل. وتقدر وزارة الصحة والخدمات الانسانية عدد الاطفال الذين لقوا حتفهم في 1992 نتيجة اهمال الابوين او اساءتهما ب1100 طفل. ويشير الدكتور مايكل دورفي، الطبيب المختص بعلم نفس الطفل، الى ان "الآباء غالباً ما يكونون مسؤولين عن قتل اولادهم الذين لم يتخطوا الثانية عشرة". ويضيف: "بأن هناك ما يشبه الاجماع بين المختصين على انه كلما كان المغدور اصغر سناً كلما كانت الام متورطة في جريمة القتل" التي اقترفها الزوج. والمؤلم في الامر، كما يقول استاذ الانثروبولوجيا جيل كوربين، هو ان الاطفال عادة يعانون الكثير قبل ان يلاقوا نهايتهم الفظيعة، فهم يتعرضون لمعاملة سيئة وايذاء جسدي واهمال شديد تبقى كلها خافية على الجميع. ولئن اختلف الباحثون في تشخيص بعض اعراض الظاهرة، فهم لا يشككون عادة بأن الجريمة ضد الطفل هي نتيجة اكثر منها سبباً. اذ ان جذور الوحشية التي يمارسها البعض ضد اولادهم تكمن في المعاملة التي تعرضوا اليها في صغرهم على يد آبائهم او مجتمعهم. ويعني ذلك ان سلامة الفرد تأتي اصلاً من سلامة الاسرة حيث يترعرع الصغير ويشب قبل ان يصبح اباً هو الآخر. من هنا تبدا معالجة الظاهرة المتفاقمة في اميركا، وسواها من الدول الغربية بالسهر على العائلة وتمتين الاواصر بين افرادها، فهل تنجح مجتمعات متفككة برد الاذى عن صغارها؟