ولي العهد يلتقي أمير دولة قطر    ولي العهد والرئيس الأمريكي والرئيس السوري يعقدون لقاءً حول مستقبل الأوضاع في سوريا    أمير منطقة الجوف يتسلّم التقرير السنوي لجهود فرع وزارة البيئة والمياه والزراعة بالمنطقة    ولي العهد: شراكة خليجية-أمريكية من أجل السلام والازدهار.. وفلسطين في صدارة الأولويات    رئيس البرلمان العربي يرحب بقرار الرئيس الأمريكي رفع العقوبات على سوريا ويثمن دور المملكة    زلزال بقوة 6 درجات يضرب ولاية موغلا غربي تركيا    شراكة استراتيجية بين مجموعة stc وأوراكل تدعم التحول الرقمي في المملكة باتفاقية سحابية بقيمة 2 مليار ريال سعودي    "البريك" تهنئ أمير جازان ونائبه على الثقة الملكية    ويندام ولو بارك كونكورد تطلقان مشروع فندق100 "سوبر 8" في المملكة ضمن شراكة تمتد لعقد كامل    السعودية للكهرباء تسجل نمواً قوياً في الإيرادات بنسبة 23% لتصل 19.5 مليار ريال في الربع الأول من عام 2025    بلدية صبيا والجمعيات الأهلية تثري فعاليات مهرجان المانجو بمشاركة مجتمعية مميزة    ترامب وعد وأوفى وستبقى السعودية الوجهة الأولى    سيادة الرئيس ترامب.. أهلاً بك رئيساً لأمريكا العظيمة في السعودية العظيمة    ترامب يحل ضيفًا على رؤيتنا.. والرياض تحتفي به    السعودية للشحن الناقل اللوجستي الرسمي لمنتدى الأعمال السعودي الصيني 2025    الأمير عبدالعزيز بن سعد يرعى تخريج أكثر من (8400) طالب وطالبة بجامعة حائل    انخفاض أسعار الذهب    وسام المواطن الأول.. بمرتبة الشَّرف الأولى    أكد أنه رفع العقوبات عن سوريا بناء على طلبه.. ترمب: محمد بن سلمان رجل عظيم والأقوى من بين حلفائنا    السعودية موطن موثوق وقبلة للسلام العالمي    بداية إعادة رسم الخريطة الأمنية.. طرابلس تحت النار.. تفكيك مراكز النفوذ    مجلس الأعمال السعودي الأمريكي: زيارة الرئيس ترمب محطة مهمة في الشراكة الإستراتيجية    الاتحاد يسعى لحسم لقب"روشن" في بريدة    فناربخشة يعرض مبادلة النصيري ب» ميتروفيتش»    رائد التحدي سيعود من جديد    المعلّم والتربية الشعبية    "إهمال المظهر" يثير التنمر في مدارس بريطانيا    ضبط 3 وافدين لارتكابهم عمليات نصب لحملات الحج    سمو ولي العهد يصطحب الرئيس الأمريكي في جولة بحي الطريف التاريخي في الدرعية    "واحة الإعلام" تختتم يومها الأول بتفاعل واسع وحضور دولي لافت    حسين نجار.. صوت إذاعي من الزمن الجميل    الكوادر النسائية السعودية.. كفاءات في خدمة ضيوف الرحمن    أمير الشرقية يطلع على إنجازات وزارة الموارد في المنطقة    بمشاركة دولية واسعة من خبراء ومتخصصين في القطاع الصحي.. السعودية رائد عالمي في الطب الاتصالي والرعاية الافتراضية    "مؤتمر علمي" لترسيخ الابتكار في السعودية الاثنين المقبل    رفع كسوة الكعبة المشرفة استعدادًا لموسم حج (1446ه)    «مبادرة طريق مكة».. تأصيل لخدمة ضيوف الرحمن    الجوازات تكثف جهودها لاستقبال الحجاج    أمير الرياض يستقبل سفير موريتانيا ومدير السجون    الصندوق الكشفي العالمي يثمّن دعم المملكة    حرس الحدود بمنطقة مكة المكرمة ينقذ (4) أشخاص بعد جنوح واسطتهم البحرية    المرأة السعودية.. جهود حثيثة لخدمة ضيوف الرحمن    أمير نجران يستعرض تقرير نتائج دراسة الميز التنافسية    تخريج 3128 خريجاً من الجامعة الإسلامية برعاية أمير المدينة    الأمير فهد بن سعد يرعى اليوم حفل جائزة «سعد العثمان» السنوية للتفوق العلمي في الدرعية    مجموعة الدكتور سليمان الحبيب الطبية تُدشّن أول نظام روبوتي مختبري من نوعه «AuxQ»    بندر بن مقرن يشكر القيادة بمناسبة تعيينه مستشارًا بالديوان الملكي بالمرتبة الممتازة    النصر يعادل الرقم القياسي في لقاء الأخدود    الأمير حسام بن سعود يرعى حفل تخريج 4700 طالب وطالبة من جامعة الباحة    الجمعية الخيرية لرعاية الأيتام بنجران في زيارة لمدير عام التعليم بمنطقة نجران    إنفانتينو: السعودية ستنظم نسخة تاريخية من كأس العالم 2034    الاتفاق يُمدد عقد الشهري لمدة موسم    ملك البحرين يصل إلى الرياض وفي مقدمة مستقبليه نائب أمير المنطقة    رئيس جمعية الكشافة يكرِّم شركة دواجن الوطنية لدعمها معسكرات الخدمة العامة    قطاع ومستشفى المجاردة الصحي يُنظّم فعالية "اليوم العالمي لنظافة الأيدي" و "الصحة المهنية"    انطلاق منافسات "آيسف 2025" في أمريكا بمشاركة 40 طالبًا من السعودية    أطفالنا.. لسان الحال وحال اللسان    100 مبادرة إثرائية توعوية بالمسجد النبوي.. 5 مسارات ذكية لتعزيز التجربة الرقمية لضيوف الرحمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أمين الحافظ يتذكر ما أغفله ايلي سالم
نشر في الحياة يوم 07 - 06 - 1993

مذكرات الصديق الدكتور ايلي سالم نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية اللبناني السابق التي تنشرها "الوسط" على حلقات أتابعها بشغف، وأتفحصها وأفحصها بكثير من التدقيق والتبصر. ليس فقط لأن هذه المذكرات تدور حول احداث سلخنا حقبة بليغة من عمرنا في معايشتها وممارسة بعضها، وليس فقط لأن طاقات هُدرت، وأرواحاً زُهقت، ومواقع هُدمت، ووطناً تدمر وكاد يتلاشى هو وطننا، بل ايضاً لأنني عندما مضيت في مطالعتها اكتشفت ظاهرة غير مألوفة تستحق التوقف عندها، على الاقل من باب الفضول، دفعتني الى متابعة ذلك التحول والتغير الذي حدث في شخصية استاذ جامعي ابتدعته الاقدار وأعادت خلقه، ولا أقول مسخته الى غير رجعة سياسياً محترفاً، يتقن المناورة لأنها من متطلبات اللعبة، ولو اهمل الرزانة العلمية، ويجيد مخاطبة اهل الحكم والمسؤولين مخفياً اموراً ومعلناً اخرى، ولو ركن جانباً واجب العَالِم ان يقول كل الحقيقة، ولا شيء الا الحقيقة. والدليل أنه كتب هذه المذكرات بأسلوب السياسي المحترف لا بنهج رجل العلم.
وبصراحة وجدت نفسي، من دون أن أتعمد، ماضياً في مقارنة ما تأتّى لصديق وما طرأ عليه، بصروف الزمن التي كانت قبل ذلك بعقود ثلاثة داهمتني، اذ انني قدمت من مرتع شبيه، وهو العالم الجامعي، ومن موقع مماثل الى حمأة فرض على كلينا فيها ان يخضع لبعض قواعدها، وأن نبتكر لأنفسنا اعذاراً وذرائع، كي نبرر ما يعلق بأهدابنا من أدران.
عرفت البروفسور ايلي سالم في الحرم الجامعي مثقلاً بالمسؤوليات يستعين عليها بطبعه المرح، مدركاً تجهم الخلاصات التي تتولد من مادة العلوم السياسية حول ظروف بلدنا ومنطقتنا، فيجرع مرارتها لطلابه بضحكة فاقعة رنانة تنسي بحلاوتها في المظهر شناعة صروف ومجريات الاحداث في وطننا، ولو الى حين، فيتعلق به ويستعذب دروسه وحلقاته مئات الطلاب وعشرات الاساتذة. وكنت انا منهم وما زلت!
فاذا به في "مذكراته" يروي احداثاً بريشة مغموسة بالطلاوة والجاذبية، لكنها تفتقر في عدد وافر من المقاطع الى "البراءة" التي كنا نتلذذ بها من خلال صخبه المجلجل قبل ان تدركه الوزارة والسياسة والديبلوماسية، فيُظلم من خلال رواياته الذهن، ولا يعود القارئ يعرف ما اذا كان بامكانه ان يتمتع بالطرائف التي يرويها الكاتب من خلال سطور الحديث عن الليالي المدلهمة بالسواد والصباحات الملطخة بالدماء، او ان يبتسم لها في حين ان كل متتبع لما جرى ايام وزارته، علم ان كثيراً من الحقائق طمس، وأن بعضها تحور، وان المسؤولين في تلك الفترة الذين كانوا يدعون الفخر انقلبوا عنه الى التنصل والزعم بالتبرؤ.
ولقد دأب الكاتب في مذكراته على القفز من واقعة يمعن اسهاباً في وصفها الى اخرى يتعمد ان يمر عليها مرور الكرام، ويكاد يتمنى لو يتمكن من اغفال ذكرها تماماً، فلا يخصها الا بمجرد الذكر في حين انها هي التي تستحق التوقف عندها لأنها تكون من المفاصل الرئيسية لقصة ولاية الرئيس امين الجميل. واليكم مثالاً على ذلك.
من المعروف ان حجر الرحى في تلك الولاية كان اتفاق 17 ايار مايو 1983 الذي نعت بالمشؤوم، وأن سنوات العهد الست يمكن تلخيصها بأنها كانت مسرحاً لسلسلة لا تنتهي من كر وفر، ومطاردة وملاحقة، وتصلب ثم ملاينة، ثم عودة الى البدء، المرة تلو المرة. وكان هذا التحرك السياسي المتغلب يجري في اجواء دموية تدميرية هي امتداد لما كان قبل العهد ولما حدث بعده. الا انه تميز عن سائر العهود التي عايشت الفتنة بأنه كان لا ييأس من رحمة الكبار، ولا يفقد ثقته بنفسه وبأنه يستطيع ان ينال منهم مأربه، بالحيلة حيناً او بالمفاجآت احياناً او بضربة حظ كأنه يقول لنفسه: لعل وعسى.
توالت الاحداث اثناء المفاوضات على الاتفاق اللبناني - الاسرائيلي وبعدها، بحيث قتل وهو جنين، لا بفضل المعارضة اللبنانية الشعبية والرفض السوري القاطع فحسب، بل قبل كل شيء بسبب التخلي الاميركي الذي عهدناه منذ ما قبل تلك الفترة وبقينا نكتوي بناره حتى يومنا هذا. وانعقد مؤتمر جنيف اواخر العام 1983 في محاولة تصالحية كان من ابرز مهامها دفن ذلك الوليد المجهض، فابتدعت عبارة "التجميد" للاتفاق، وطلب المؤتمرون من الرئيس الجميل البحث عن بديل يؤدي الى التخلص من الاحتلال الاسرائيلي للجنوب من دون ان يأتي ذلك مشفوعاً بمبادئ "17 ايار"! انطلق رئيس الجمهورية في هذه الطريق متطلعاً بعين الى الافق الذي ينشده له مؤتمر جنيف، لكنه بقي رانياً بالعين الاخرى الى الوراء، لعل النخوة الاميركية تعود فتستيقظ وتعينه على حمل اسرائيل وسورية على تسهيل عودة الروح الى الاتفاق الميت.
"اعتمدوا علينا"
وفي احدى الأمسيات الزاهرة من اواخر تشرين الثاني نوفمبر 1983 وبينما كنت امتع النفس في فندق "بلازا اتينيه" في باريس، وأستريح بعيداً عن الاتون الجهنمي في لبنان الذي كنت غادرته قبل ايام، اتتني مخابرة هاتفية من الرئيس امين الجميل اعادتني الى الوعي السياسي الذي جعلتني دوامة العقم انساه، اذ طلب مني ان ارافقه في رحلته الى واشنطن لمقابلة الرئيس ريغان، فأحلّ مكان رئيس الوزراء شفيق الوزان الذي لم يعد اشتراكه في مثل هذا الوفد وارداً، لأن انهيار اتفاق 17 ايار مايو جعل من المقتضى ان تملأ الفراغ الاسلامي في الوفد اللبناني شخصية عارضت ذلك الاتفاق. قبلت في الحال عندما فهمت من الرئيس ان الذهاب الى واشنطن هو من اجل تنفيذ ما اتفق عليه في جنيف.
تركت باريس الى العاصمة الاميركية التي وصلتها صباحاً فتوجهت في الحال الى دار التلفزيون بطلب من برنامج "صباح الخير يا اميركا" الواسع الانتشار، وجرى بيني وبين المذيع الحوار الآتي:
لماذا أتيتم هذه المرة الى واشنطن؟
- لأن رئيسنا عندما حضر في المرة السابقة وقف الرئيس ريغان الى جانبه في البيت الابيض امام كل وسائل الاعلام، اي امام العالم بأسره، وتطلع اليه بنظرة ملؤها القوة والثبات والثقة بالنفس، ثم ضرب بيده على صدره وهو يهتف: "تستطيعون ان تعتمدوا علينا"! ومنذ ذلك الحين أصبحت الحالة في لبنان تسير من سيىء الى أسوأ، فالشرعية تفقد كل يوم موقعاً لها، والقتل قائم يتزايد، والسيادة ممزقة، والاستقلال منتهك، بينما تكتظ ادراج مكاتب رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية بعشرات البرقيات من رؤساء الولايات المتحدة المتعاقبين، وآخرهم الرئيس الحالي، وهي تؤكد وتشدد على حرصهم على استقلال لبنان وحريته وسيادته وديموقراطيته. فنحن هنا اليوم لكي نجد كيف يمكننا أن "نعتمد" عليه!
فسارع المذيع الى سؤالي:
هل معنى ذلك أن الرئيس ريغان خيّب أملكم؟
وهنا لم يعد من الجائز لي أن أتمادى في لهجتي التهكمية، لئلا أقع في مجافاة اللياقة بالتحدث باسم من لم يصل بعد وينتظره أصحاب الدعوة في المساء، فسارعت الى بعض الاستدراك قائلاً:
- نحن بالضبط موجودون هنا لنكشف لأنفسنا عما إذا كان علينا أن نشعر بخيبة الأمل، أو ان هناك أملاً جديداً بالمستقبل.
وهكذا تمكنت من التخلص من الحرج، لكن كل ما أفضيت به من حديث تلفزيوني، وهو يحوي بعض العتاب وبعض اللوم، لم يكن ليروق لرهط من أنصار الرئيس الجميل ومحازبيه الذين كانوا ينتظرون قدومه، وذلك تمشياً مع ما تعودوه حيال الحاكم "الفرنجي" بأن يداهنوه لعله يرضى، وان يبادروه قبل أن يغضب بالقول "انما الفيلة تحتاج الى فيل".
ولما حطت الطائرة ليلاً وخرج الجميّل منها هرع هؤلاء الى الاحاطة به وانبرى بعضهم يشكوني اليه، بينما طفق البعض الآخر يهيب به ألا يتخلى عن اتفاق 17 ايار، فتشجع الرئيس وتحمس - وهو ما زال في المطار - وارتجل في الحال أول تصريح له، وهو يتضمن تنويهاً بالاتفاق المشؤوم! وكان يرافق الرئيس بقية أعضاء الوفد الذين أذكر منهم الوزير ايلي سالم والدكتور علي الخليل والاستاذ غسان تويني والدكتور وديع حداد والسفير عبدالله بوحبيب، فلم أملك إلا أن أعرب أمامهم عن امتعاضي من هذه المفاجأة التي ما كنت أتوقعها بعد وعود جنيف. وبلغ اعتراضي سمعه، ولا أدري ما إذا كان هذا الاعتراض سبباً في امتناعه عن العودة فيما بعد الى التحدث عن الاتفاق، ولكني أرجح أن السبب الرئيسي كان أنه سرعان ما اكتشف عند لقائه الأول بوزير الخارجية جورج شولتز أن اتفاق 17 ايار مايو أصبح، في الحساب الأميركي، في خبر كان، لأن اسرائيل بالذات لم تعد تريده، بل انها زهدت به مسبقاً يوم اتضح لها أنها لن تتمكن من تطبيع العلاقات بينها وبين لبنان، بل بالأحرى بين الشعبين، لأن اللبنانيين يرفضون كامب دايفيد جديدة. فعمدت اسرائيل حينذاك الى إرسال الرسالة الشهيرة الى شولتز وفيها أن الاتفاق لن يكون سارياً إلا اذا تزامن انسحاب القوات السورية مع الانسحاب الاسرائيلي. وبديهي ان الاسرائيليين من الذكاء بحيث أنهم يعلمون أن مثل هذه الدعوى التزامنية من شأنها أن تنسف الاتفاق من أساسه، مما يدل على أنهم هم الذين نسفوه فعلاً، ربما لأنه لم يكن يفي بكل ما ابتغوه، وربما لأنهم أدركوا ان رجوع الاستقرار الى لبنان في ذلك الحين ليس هذا أوانه قبل إتمام الاجهاز على كل احتمال بأن يعود لبنان للوقوف على رجليه لينافس اسرائيل يوم تدخل المنطقة عن طريق عملية السلام الشامل التي كانت التحضيرات لها بدأت.
وبينما كان من واجب شولتز البديهي ومن مصلحة سمعته كمهندس للاتفاق أن يرفض تسلم الرسالة الاسرائيلية، وهو يعلم أن رصاصة الرحمة تطلق على الاتفاق، إذا به لا يحرك ساكناً، وكأنه يريد أن يتنصل من شبهة الصداقة مع العرب وأن يهيىء لمستقبل أشد اغراء له عند أصدقاء جدد، حظي بموقع سخي عندهم فيما بعد.
وأمضي في ذكرياتي فأستحضر الوقائع التالية: عندما اجتمعنا في البيت الأبيض للبدء بالمحادثات يوم الأول من كانون الأول ديسمبر 1983 دخل الرئيسان ريغان والجميل الى المكتب البيضاوي واختليا بعض الوقت. في هذه الأثناء اقترب مني السيد لورنس ايغلبرغر الذي كان يومذاك مساعداً لنائب وزير الخارجية، والذي اشتهر بالألمعية والذكاء الحاد، وفي الوقت نفسه بالتحيز المروع لاسرائيل، وبأنه تلميذ نجيب لداهية الصهيونية الدكتور هنري كيسنجر، وهو رقي فيما بعد الى منصب نائب وزير الخارجية أيام الرئيس بوش، ثم تسلم في آخر الولاية مركز وزير الخارجية عندما تفرغ جيمس بيكر للانتخابات الرئاسية. اقترب ايغلبرغر مني وبدأ معي الحوار الآتي:
شاهدت بالأمس حديثك التلفزيوني فأثار اهتمامي وترك عندي انطباعاً قوياً، ولكني أرجوكم ان نتعاون سوية من أجل ارجاء تعهداتنا حيال لبنان الى ما بعد.
- لماذا؟
لأن علينا ضغطاً قوياً من الكونغرس يجبرنا على الانسحاب عسكرياً من القوة المتعددة الجنسيات بعد الانفجار الذي أودى بحياة مئات جنود المارينز، وسياسياً بعد أن فشل اتفاق 17 ايار مايو.
- انك - يا مستر ايغلبرغر - تقول الحقيقة، بل نصف الحقيقة ولا تذكر النصف الثاني وهو: ما هي القوة التي تمارس الضغط على الكونغرس لكي يضغط عليكم في الادارة؟
ماذا تعني؟
- أعني أن انسحابكم العسكري ليس سببه الانفجار، وكنتم دائماً تقولون إنكم لا تخافون ولا تذعنون لمن تسمونهم "الارهابيين"، كما ان انسحاب حاملة الطائرات "نيوجرسي" ليس سببه رشقات المدفعية الضعيفة التي كانت تناوشها من مرتفعات جبال الشوف! وكذلك حكاية فشل الاتفاق الاسرائيلي - اللبناني، لأن اسرائيل هي السبب في كل هذه الحالات، لأنها لا تسمح بأن تتم تسوية أو يحصل تدخل منكم في منطقة الشرق الأوسط من دون إشراكها هي كشرطي أو كلاعب أول، ولقد تجاوب معها "اللوبي الصهيوني" الأميركي فأحسستم بالضغط على الكونغرس، ثم بضغط الكونغرس عليكم. وإذا بقي الأمر على هذا المنوال فلن يتاح للولايات المتحدة أن تبرهن على مصداقيتها في أمور تتعلق بحقوق العرب عامة، وبالوعود التي قطعتها للبنان كي تساعده في استعادة سيادته واستقلاله.
صحة الأسد
وهنا أدركنا الوقت، وقطع علينا الحديث خروج الرئيسين، فاتجهنا الى طاولة المحادثات. ولشد ما كانت دهشتي عندما اتضح لي أن إلمام الرئيس ريغان بالموضوع كان سطحياً ومجزوءاً، وان المتحدثين الأساسيين كانا شولتز وايغلبرغر. وزادت دهشتي عندما سمعت من أفواه الحاضرين من الأميركيين ما يتناقض مع حديث الأخير معي على انفراد، اذ تجددت عبارات التأكيد بالحرص على حل الأزمة اللبنانية في أسرع وقت من أجل استعادة لبنان حريته واستقلاله وسيادته و... و... والخ!!
لكني بدأت أحس ان في الجو نوعاً من الاتفاق على ترقب حدث ما يكون من شأنه أن يغير الأحوال، وربما يعيد الحياة الى الاتفاق الاسرائيلي - اللبناني، وسرعان ما تحول احساسي الى ظن ثم ظني الى شبه يقين، اذ ما لبثت أن فوجئت بالسيد ايغلبرغر نفسه يوجه إليّ الحديث من دون غيري، وهو يسأل:
ما هي معلوماتك عن صحة الرئيس حافظ الأسد؟
لم يخف عليّ مغزى اختياري أنا بالذات للاجابة عن هذا السؤال، ومن المعلوم ان الرئيس السوري كان وقتئذ يمر بفترة نقاهة بعد وعكة صحية رافقتها إشكالات سياسية داخلية، ولم أتأخر طويلاً في التفكير، بل أجبت متعمداً تغليف ردي ببعض الفكاهة قائلاً:
- معلوماتي أن صحته ليست في الوقت الحاضر من التحسن بالدرجة التي تتحدث عنها وسائل اعلامه، ولكنها في الوقت ذاته ليست من السوء على الوجه الذي يتمناه له اعداؤه!
وصدحت الضحكات الصاخبة، وكان أوقعها رنيناً ضحكة صديقي الوزير إيلي سالم.
وبعد،
إذا كنت أنا - صاحب الدور الطارىء الهامشي في تلك الرحلة - تجمَّع لدي كل هذا الدفق من المعلومات حول منعطف رئيسي من تاريخ العلاقات الأميركية - اللبنانية لا يزال ماثلاً بواقعه وآثاره حتى الآن، فما قولكم بما يمكن أن يكون تحصل في جعبة الدكتور سالم، وهو الذي قام بالدور الأول في هذه العلاقات خلال تلك الحقبة، حتى لو نافسه في دوره هذا كل من الاستاذين وديع حداد وغسان تويني؟ وعلى رغم ان الصديق إيلي كان خلال اقامتنا في واشنطن يهمهم كأنه يحدث نفسه مشتيكاً مما كان يسميه "الوشوشات" والمناورات والأحابيل التي كانت تطلق حوله في أذن الرئيس الجميل، فإن مجرد اختيار الرئيس الجميل له في البداية وزيراً للخارجية بسبب علاقاته الأميركية الحسنة أدى الى إضعاف تأثير أصحاب المناورات فهل يدهشنا كثيراً كون كاتب المذكرات مر على كل قصة الرحلة الجميلة الرئاسية الأخيرة والحاسمة الى واشنطن بجملة واحدة مقتضبة هي الآتية: "وفي واشنطن اكتشفنا بعد محادثاتنا مع ريغان ونائبه جورج بوش وشولتز وكبار المسؤولين الأميركيين أن الولايات المتحدة تريد الانسحاب من لبنان بعد فشل الاتفاق اللبناني - الاسرائيلي".
فقط لا غير؟
وإذا لم تكن عندنا هذه الخلفية التاريخية فكيف يمكننا أن نتبصر بوضوح في مآل التدبير الأميركي حول لبنان إبان مخاض جولات المفاوضة الثنائية المقبلة، ثم في متاهات المفاوضات المتعددة الأطراف اذا ما عقدت؟
ألا يستحق هذا المستقبل من صاحب التجربة الغنية أن يمدنا بأكثر من هذه الجملة المقتضبة التي لا تسمن ولا تغني من جوع؟ أم لعل في الكتمان ما يراه صديقنا ذا فائدة وطنية يستعين به من أجل لبنان وصوناً لمستقبل العلاقات اللبنانية - الأميركية، ولا يستعمل الكامن المختبىء ولا يخرجه الى الهواء والنور إلا عندما تأزف ساعة "الحشرة"!
***
وأخيراً، لا أزال أتابع بنهم مسلسل هذه المذكرات من خلال "الوسط"، وقد يكون لي عود اليها عندما استكمل القراءة وبالتالي استكمل ما عندي من تعليقات ومداخلات.
* رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب اللبناني ورئيس الوزراء السابق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.