السعودية.. الجُرأة السياسية    80 شركة سعودية تستعرض منتجاتها في قطر    برعاية ولي العهد.. 600 خبير في ملتقى الرياض لمكافحة الفساد    مساعدات إيوائية لمتضرري سيول حضرموت    تفاصيل صادمة ل«طفل شبرا».. شُقَّ صدره وانتُزعت عيناه وقلبه لبيعها    «كلاسيكو» تأكيد الانتصار أم رد الاعتبار ؟    اللذيذ: سددنا ديون الأندية ودعمناها بالنجوم    برئاسة آل الشيخ.. إحالة تقارير ومقترحات ل«الشورى»    5 مشروبات تكبح الرغبة في تناول السكَّر    انطلاق بطولة كأس النخبة لكرة الطائرة غدا    محافظ الطائف يناقش إطلاق الملتقى العالمي الاول للورد والنباتات العطرية    سمو ولي العهد يهنئ ملك مملكة هولندا بذكرى يوم التحرير في بلاده    المجرشي يودع حياة العزوبية    «عكاظ» ترصد.. 205 ملايين ريال أرباح البنوك يومياً في 2024    القضية المركزية    القبض على مروج إمفيتامين مخدر    وزير الدفاع يبحث مع نظيره البوركيني التطورات    تدخل عاجل ينقذ حياة سيدة تعرضت لحادث مروري    وصول التوءم السيامي الفلبيني إلى الرياض    هدف لميسي وثلاثية لسواريس مع ميامي    القادسية لحسم الصعود أمام أحد.. الجبلين يواجه العين    صندوق البيئة يطلق برنامج الحوافز والمنح    السعودية وأميركا.. صفحة علاقات مختلفة ولكنها جديدة    وزير الموارد البشرية يفتتح المؤتمر الدولي للسلامة والصحة المهنية    تقويم لائحة الوظائف والنظر في المسارات والفصول الثلاثة.. ماذا تم..؟    ثلاثة آلاف ساعة تطوعية بجمعية الصم بالشرقية    أمير الرياض يحضر افتتاح مؤتمر «المروية العربية»    100 مليون ريال لمشروعات صيانة وتشغيل «1332» مسجداً وجامعاً    الذكاء الصناعي ركيزة في الرؤية    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على بدر بن عبدالمحسن    فيصل بن نواف: جهود الجهات الأمنيّة محل تقدير الجميع    فيصل بن مشعل: يشيد بالمنجزات الطبية في القصيم    شاركني مشاكلك وسنبحث معاً عن الحلول    وزير الدفاع يستعرض العلاقات الثنائية مع "كوليبالي"    "سلمان للإغاثة" يُدشِّن البرنامج الطبي التطوعي لجراحة القلب المفتوح والقسطرة بالجمهورية اليمنية    أمراء ومسؤولون وقيادات عسكرية يعزون آل العنقاوي في الفريق طلال    فلكية جدة : شمس منتصف الليل ظاهرة طبيعية    باسم يحتفل بعقد قرانه    البحث عن حمار هارب يشغل مواقع التواصل    60 طالباً وطالبة يوثقون موسم «الجاكرندا» في «شارع الفن» بأبها    أبها تستضيف أول ملتقى تدريبي للطلاب المشاركين في برنامج الفورمولا 1 في المدارس    الدور الحضاري    رحيل «البدر» الفاجع.. «ما بقى لي قلب»    المعمر، وحمدان، وأبو السمح، والخياط !    ورحل البدر اللهم وسع مدخله وأكرم نزله    عزل المجلس المؤقت    تأملاّيه سياسية في الحالة العربية    يوفنتوس يتعادل مع روما في الدوري الإيطالي    "جاياردو" على رادار 3 أندية أوروبية    تقدير دعم المملكة ل "التحالف الإسلامي لمحاربة الإرهاب"    مهرجان الحريد    إستشارية: الساعة البيولوجية تتعطَّل بعد الولادة    آل معمر يشكرون خادم الحرمين الشريفين وولي العهد    رعى حفل التخرج الجامعي.. أمير الرياض يدشن مشروعات تنموية في شقراء    النملة والهدهد    لا توجد حسابات لأئمة الحرمين في مواقع التواصل... ولا صحة لما ينشر فيها    "الفقه الإسلامي" يُثمّن بيان كبار العلماء بشأن "الحج"    كيفية «حلب» الحبيب !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعضهم غاب وبعضهم مكتئب والباقي يركض وراء العمر . هؤلاء العمالقة صنعوا عصر السينما الذهبي
نشر في الحياة يوم 01 - 03 - 1993

كانوا، ذات يوم كالكواكب المشعة، بهم ومعهم بدأت السينما تخرج من عوالم النجوم الى آفاق الأداء الفني، فعرفت ثورة الخمسينات التي نقلت الفن السابع من فن الحلم والتخدير الى فن الحياة والتعبير النفساني. كلهم لا يزال حياً بيننا، لكن الذين نعرفهم شباناً ذوي طلعات وسيمة صاروا اليوم عجائز. أصغرهم روبرت ردفورد الذي يقارب الخامسة والخمسين، وأكبرهم بيرت لانكستر الذي أشرف على الثمانين. رافقوا مخيلات طفولتنا، وشغلوا ايامنا، واليوم ينشغل أحدهم بأطفاله الخائبين، ويحاول الثاني ان يستعيد مجداً فقده، بينما يرضى الثالث والرابع والخامس بالنسيان يلفه، فيما يواصل البعض حياته العملية عبر ادوار مختلفة... وكأن شيئاً لم يكن. في ما يأتي جولة في حياتهم وفنهم الكبير.
في اللقطة الأخيرة من فيلم "لون المال" الذي حققه قبل سنوات قليلة المخرج مارتن سكورسيزي يصور هذا لنا ممثل الفيلم الرئيسي بول نيومان، وهو يقبض على عصا البليار بكلتا يديه، بكل عزم وتصميم، ويخبط الكرات الملونة وهو يصرخ "ها أنذا عائد"!
كانت صرخة من تلك الصرخات التي تقول اكثر بكثير ما يراد لها ان تقوله في المشهد الذي يختتم بها. صرخة من ذلك النوع الذي يعكس ارادة عالم بأسره ورغبته في ان يعود الى التجسد بعد غياب. ولئن كانت تلك الصرخة جاءت يومئذ لتعبر عن رغبة المخرج نفسه في الاعلان عن حضوره، فانها عكست كذلك - وفي الوقت عينه - تلك الطاقة المتفجرة في تعبير بول نيومان الادائي، وارادته في البقاء قطباً من أقطاب الفن السابع الهوليوودي، هو المنتمي الى جيل قيل عنه انه ينقضي: الجيل الذي صنع مجد السينما الواقعية الهوليوودية في الخمسينات والستينات ثم بعض السبعينات، سينما الحياة، التي اعطت المجد لممثلين كبار، كانوا نقطة الفصل بين جيلين. الجيل الأول كان أولئك النجوم الذين دخلوا الاسطورة فصاروا بدورهم اساطير تتجاوز سمعتهم ويتجاوز حضورهم حضور وسمعة أفلامهم، من ثيرون باور الى كلارك غايبل، ومن ايرول فلين وصولاً الى غاري كوبر، مروراً بهمفري بوغارت وجون واين وغيرهم. اما الجيل الثاني فكان جيل الممثلين الذين خضعوا لسطوة المخرج، وتميزوا باداء كان مستقى طبعاً من جودة اداء الجيل السابق، لكنه خضع لقوة الموضوع وسيطرة احداث الفيلم.
من هنا يمكن القول ان الجيل الذي يمثله شخص مثل بول نيومان، كان الجيل الذي عاش آخر موجات حضور فردية النجم وقد امتزج اخيراً مع الممثل لينصهرا في بوتقة واحدة. هذا الجيل الذي نعنيه ضم اسماء قد يفاجأ القارئ اليوم بأن بعض اصحابها ما يزالون على قيد الحياة، وقد يفاجأ بتقدم بعضهم الآخر في العمر عتياً. اذ من يصدق مثلاً، ان غلين فورد لا يزال حياً يرزق، وأن غريغوري بيك لا يزال حياً وناشطاً رغم بلوغه السادسة والسبعين من عمره؟
جيل الشيوخ
قد لا يكون من المفاجئ ان نكتشف مثلاً ان روبرت ردفورد وهو من ألمع ابناء ذلك الجيل وأصغرهم قد بلغ الخامسة والخمسين من عمره، ولكن ألا يعني لنا شيئاً ان نكتشف ان بيرت لانكاستر يقارب الثمانين، يتلوه فرانك سيناترا وانطوني كوين 77 سنة لكل منهما، ثم غلين فورد وغريغوري بيك وكيرك دوغلاس 76 سنة لكل منهم، ثم مارسيللو ماستروياني ومارلون براندو وبول نيومان وشون كونري بين الثانية والستين والثامنة والستين، بينما لا تقل اعمار آلان ديلون وجان بول بلموندو عن الستين سنة؟! لقد شاخ جيل بأسره. فهل نقول ان ابقاء هذا الجيل - على تفاوت اعمارهم - كانوا آخر العمالقة في عالم الفن السابع؟
الحقيقة ان ورود هذه الاسماء الى جانب بعضها ليس اعتباطياً، كما ان المسألة ليست مسألة عدد السنين، او التقدم في العمر، المسألة هي وجود قاسم مشترك يجمع مثلاً بين بيرت لانكاستر وروبرت ردفورد على رغم ربع القرن من العمر الذي يفصل بينهما. وهذا القاسم المشترك يمكن العثور عليه في ذلك الاداء الطبيعي الواقعي الذي ميز كل واحد منهم، سواء أكان من متخرجي "استديو الممثل" مثل براندو ونيومان، أم من حواريي السينما الأوروبية بأدائها الواقعي - السيكولوجي، وتركيزها على ضرورة استخلاص اقصى ما يمكن استخلاصه من داخل الممثل.
اليوم، قد يبدو هذا كله طبيعياً، فهذا الاداء دخل في عاديات السينما، وحسبنا ان نراقب اداء هيبوليت جيراردو في فرنسا أو توم كروز في اميركا، او أي ممثل آخر من طينتهما، لنشعر ان التجديد الذي اضافه جيل الخمسينات والستينات لم يضع. في ذلك الحين كان غلين فورد، بأدائه في "غيلدا" او في أي فيلم بوليسي يمثله، يعتبر "بطلاً مضاداً"، والنزعة الطبيعية والاداء المنبعث من الداخل الذي كان يقدمه بيرت لانكاستر او كيرك دوغلاس او مارلون براندو أو بول نيومان، كانا يسهلان على النقاد وصفهم بأنهم "اوربيو النزعة" فالنزعة الاميركية كانت في ذلك الحين تتراوح بين الحذلقة في الاداء والتعبير الخارجي السطحي عن طريق الحركة المبالغ فيها، من دون ان يكون للنظرات او تعبير الوجوه اي دور حقيقي كاري غرانت، او طوني كورتيس، او جيمس ستيوارت.
من هنا لم يكن من مصادفة ان يختار لوكينو فيسكونتي، الايطالي الكبير، بيرت لانكاستر للعمل معه في اثنين من اعظم أفلامه: "عنف وعاطفة" و"الفهد". ولم يكن من مصادفة ان يبرز لانكاستر في الفيلمين بروزاً هائلاً، ليس لكونه نجماً هوليوودياً بل لكونه ممثلاً عملاقاً، يسهّل على لوي مال او برناردو برتولوتشي الاستعانة به في بعض افلامهما "اطلانطيك سيتي" للأول، و"1900" للثاني.
اوروبا في هوليوود
على أي حال، من المعروف ان المخرجين الذين عمل معهم بيرت لانكاستر في هوليوود نفسها لم يكونوا أقل أوروبية عن فرد زينمان، او ريتشارد بروكز أو روبرت الدريتش، او حتى جون فرانكنهايمر... فهؤلاء المخرجون وغيرهم كانوا من ذلك الصنف من المخرجين الذين يطالبون ممثليهم بالتعبير عن الداخل، عن عمق الاحاسيس، سواء أكان الفيلم من أفلام رعاة البقر فيراكروز، أو فيلماً حربياً من هنا الى الأبد أو اجتماعياً المرغانتري، في تلك الأفلام وغيرها أدخل بيرت لانكاستر على هوليوود عالم الاداء النفسي، حتى لو يكن في الاصل من تلامذة "استديو الممثل" هذا الاستديو الذي كان مسؤولاً عن المستوى الابداعي الكبير الذي وصل اليه نجوم من طراز مارلون براندو وبول نيومان...
بالنسبة الى مارلون براندو، كان ولا يزال عملاقاً كبيراً من عمالقة التمثيل، منذ ادائه الرائع في "على الرصيف" 1954 حتى الآن، بل ومن قبل ذلك حين مثل في فيفازاباتا وفي "عربة اسمها اللذة". منذ بداياته كان مارلون براندو ممثلاً كبيراً، قادراً على التعبير بوجهه الهادئ عن أعمق مشاعره، وعلى جعل لحظات الصمت موازية للحظات الكلام، كما كان ولا يزال قادراً على التعبير عن اقصى درجات العنف بنظرة او طرف من نظرة. وفي هذا المجال لم يكن من مصادفة ان يلتفت المخرجون الأوروبيون اليه ويستعينوا به في بعض افضل افلامهم: من جيلو بوننكورفو، الى برناردو برتولوتشي. ومرة اخرى لا بد من الاشارة الى "أوروبية" المخرجين الأميركيين الذين اعطوا مارلون براندو بعض ادواره الأساسية، من ايليا كازان الذي رافق اعظم بداياته الى آرثر بن وفرانسيس فورد كوبولا، وخاصة جون هستون. ترى هل يمكننا اليوم ان ننسى اللحظات الرائعة التي ظهر فيها مارلون براندو في "يوم القيامة الآن" او "العراب" مع كوبولا، او في "انعكاسات في عين ذهبية" مع جون هستون؟
ان لحظات مثل هذه هي التي تعطي بعض فن السينما خلوده وذلك السحر الذي لا يزال قائماً حتى اليوم، مشعراً إيانا بالحضور الدائم لأولئك الممثلين الكبار.
راعي بقر... ومدير محبط
كيرك دوغلاس أيضاً ذو حضور دائم. فلئن كان الرجل في هذه الأيام منهمكاً في كتابة مذكراته ورواياته، بعيداً عن السينما التي تشهد نجاح ابنه مايكل. فاننا لسنا بعد على استعداد لنسيان احلى وأعمق الأدوار التي قام بها كيرك... الكبير، هذا العملاق الآخر، الذي وصل الى البطولة باكراً، منذ العام 1949 في فيلم "البطل" من اخراج بول روبسون، ثم واصل مسيرته، التي اوصلته في العام 1969 الى تقديم واحد من أجمل ادواره في "التدبير" من اخراج ايليا كازان.
وربما يصح ان نقول ان ادوار كيرك دوغلاس كانت الأكثر تنويعاً وغزارة بين كل الممثلين الذين ذكرناهم، من راعي البقر في "رجل من دون نجمة" 1955 الى المدير ذي الاحساس الوجودي المفاجئ في "التدبير" الذي اعتبر اشبه بسيرة ذاتية لدوغلاس كما لايليا كازان مخرج الفيلم الى الممثل الذي يعيش أزمة حادة في "اسبوعين في مدينة أخرى" الى ادائه الرائع لدور الرسام فنسان فان غوغ في "ظمأ للحياة" من اخراج فنسنت مينيللي، بيد ان كيرك دوغلاس الكبير، الذي لا ينسى يظل هو ذاك الذي رافق بعض افضل بدايات ستانلي كوبريك في فيلميه الكبيرين "دروب المجد" 1957، و"سبارتاكوس" 1960، في ذينك الفيلمين، قام دوغلاس بدور المتمرد الخاسر، الخاسر سواء أكان قائداً لفرقة عسكرية فرنسية متمردة في الحرب العالمية الأولى دروب المجد، او قائداً لثورة البسطاء في اليونان القديمة سبارتاكوس...
الخاسر الاخر كان بول نيومان على الدوام. وهو لئن كان يشارك كيرك دوغلاس اكتفاءه في معظم الأحيان بالعمل في السينما الأميركية، على رغم ان الجمهور الأوروبي والنقد في أوروبا، كانا أكثر اهتماماً به من الجمهور والنقد الأميركيين، فانه يشارك مارلون براندو، كونه متخرجاً من "استديو الممثل"، وكونه "أوروبي" الاداء، حتى لو لم يكن يحس بذلك في البداية.
ويشارك نيومان براندو ايضاً في قاسم مشترك فحواه انعدام العناوين السيئة بين الافلام التي مثلها كل واحد منهما، وخصوصاً منذ برز نيومان في دوره الرائع في "قطة على سطح من الصفيح الساخن" المأخوذ عن مسرحية لتنيسي ويليامز... وليس مصادفة طبعاً ان يكون براندو بدوره بدأ مجده عبر فيلم مأخوذ عن تنيسي ويليامز. فالأفلام المقتبسة عن اعمال هذا الكاتب المسرحي الاستثنائي تزخر بالعلاقات المعقدة، وبعوامل الشعور، والانعكاس الخارجي للصراعات المحتملة داخل الشخصيات، وهو ما يلتقي كل الالتقاء بأسلوب "استديو الممثل" الذي ينتمي اليه براندو ونيومان كلاهما.
ولئن اصبح براندو في ايامنا هذه عملاق الجسم دائم الحزن بطيء الحركة لا يستعان به الا لأداء ادوار قصيرة "مقابل ملايين الدولارات طبعاً...، ويمضي جل وقته في محاولة حل مشاكل اولاده الموزعين بين قاتل مسجون، وفتاة كئيبة لا تكف عن محاولة الانتحار، فان بول نيومان لا يزال متألق الشباب خفيف الحركة يساير عصرنا الحاضر وكأنه جزء منه، قادراً دائماً على البدء من جديد، كما يعبر المشهد الأخير من "لون المال" كما ذكرنا آنفاً.
وصول الى داخل النفس
بول نيومان لا يزال حاضراً في السينما الحديثة. لكن غلين فورد كان شبه مختفٍ وتكاد أخباره تكون غائبة عن مسرح الحياة السينمائية منذ عشرين عاماً، على الرغم من ظهوره العابر في "سوبرمان" لريتشارد وونر في العام 1978 في دور أب سوبرمان بالتبني. ولئن كان جمهور اليوم لا يعرف شيئاً عن ذلك الممثل الجيد المولود في كندا، والذي أمضى كل سنوات مساره السينمائي في هوليوود، وتوزعت ادواره بين اقصى درجات الرومانطيقية في "غيلدا" 1946، الى جانب ريتا هايوارث، وعرف اجمل لحظات مجده في أفلام حملت تواقيع فرتيز لانغ وجورج مارشال ودلمر دايفيز، وفرانك كابرا، وأدى دور الجندي والضابط الأميركي بارتياح في افلام مثل "شرب الشاي في ضوء القمر" و"10و3 الى يوما"، فان غلين فورد بأدائه الهادئ ومسحة الحزن المشرب بالسخرية على طرف فمه، عرف طعم الشهرة والشعبية في سنوات الخمسين، حين كان واحداً من قلة من الفنانين، ظهرت قبل جيل "استديو الممثل" لتمزج النجومية بالاداء، وتحاول ان تعبر عن الادوار المنوطة بها، من الداخل.
يلتقي غلين فورد في هذا مع غريغوري بيك الذي تميز اداؤه دائماً بمسحة ارستقراطية، وكان من اكثر ممثلي جيله دقة في اختيار ادواره. ولئن كان غريغوري بيك عرف اولى خطوات مجده في فيلم هتشكوك "بيت الدكتور ادواردز" 1945 وكانت هوليوود قد بدأت لتوها تكتشف علم النفس الفرويدي، والمشاعر الداخلية والمركبات النفسية، فان الفيلمين الرئيسيين اللذين يمكن التوقف عندهما من بين افلام غريغوري بيك هما "صراع تحت الشمس" لكنغ فيدور 1946، وخاصة "موبي دك" 1959 لجون هيستون، عن رواية ملفيل الشهيرة. لقد أتى غريغوري بيك من المسرح، كما كان حال غليف فورد وكذلك مارلون براندو وبول نيومان، ومن هنا تميز اداؤه منذ البداية ببعد نفساني واضح، على الرغم من أن مخرجين قليلين تمكنوا من ابراز ما يمكن ان يعتمل من عصاب نفساني داخل شخصية غريغوري بيك وفي هدوئه وتصرفاته المتأنقة.
وعلى عكس غلين فورد، لم ينته غريغوري بيك كممثل بعد، ولو كان استبعد اخيراً عن اداء الدور الذي كان يفترض به ان يؤديه في فيلم "الطاعون" للويس بوينزو، فان هذا كان اسند اليه دوراً لا ينسى في فيلمه السابق "الغرينغو العجوز" الذي من المؤسف ان قوة اداء غريغوري بيك 76 سنة فيه لم ينقذه من السقوط!
وللمافيا دورها الحاضر
فرانك سيناترا قد يكون منتمياً الى فصيلة الكبار في الهوليوود، ولكن ما الذي دفع هذا المغني ذا الوجه الطفولي، الى العمل سنوات طويلة من دون ان يخلد دوراً او يخلده دور؟
سؤال سيظل يشغل بال العديد من محبي فرانك سيناترا، سواء أتعلق ذلك بالعديد من الأفلام الموسيقية التي اداها أم بالعديد من الادوار غير الموسيقية. هل يكمن السر في ان صاحب اغنية "غرباء في الليل" لم يتمكن ابداً من التوفيق بين اداء سينمائي ظل ينقصه على الدوام، وتعامل جدي مع العمل الفني، وبين انخراط في السياسة، وتحديداً في السياسة عبر صفقات المافيا؟
ربما كان الجواب يكمن ها هنا. وربما كان في هذا القول شيء من التعسف. ولكن يبقى ان سيناترا اضاع على الدوام فرصاً كبيرة، وان ادواره، القصيرة احياناً، في أفلام مثل "من هنا الى الأبد" و"المرشح المانشوري" و"التحري"، خصوصاً من اخراج غوردون دوغلاس وهو افضل ادواره على الاطلاق تكشف عن ان هذا الفنان كان عملاقاً صنيع نفسه ووقته بشكل من الاشكال.
ولئن كان بين الممثلين "الهوليووديين" الكبار واحد لا يمكن ان يقال عنه انه ضيع وقته، فهذا الممثل هو انطوني كوين. فقد كانت كل العوامل تشتغل ضد هذا الفنان العملاق: اصله المكسيكي، قبح وجهه، طبيعته الصاخبة، بل وموهبته المحدودة. لكن كوين عرف كيف يحول كل هذه النقائص الى مزايا، وذلك منذ ظهر للمرة الاولى في "فيفازاباتا" فلفت الانظار... بل وصلت سمعته الى أوروبا، حيث سرعان ما استعان به فدريكو فلليني للقيام بالدور الرئيسي في فيلم "لاسترادا" الطريق الى جانب جولييتا ماسينا. ومنذ ذلك الحين لم يكف انطوني كوين عن التنقل بين أوروبا وهوليوود، بالمعنى الجغرافي والفني للكلمة، فهو اشتغل مع ادوارد ديمتريك والكسندر ماكندريك وفنسفت مينيللي، كما اشتغل مع دايفيد لين في "لورنس العرب" ومع مايكل كاكويانيس في "زوربا اليوناني"... وبعد ذلك مع العربي الأصل مصطفى العقاد في "الرسالة" حيث لعب دور حمزة وفي "أسد الصحراء" حيث لعب دور المجاهد عمر المختار.
تميز اداء انطوني كوين دائماً ببعد عاطفي مشوب، ومن هنا لجأ المخرجون الى اعطائه دائماً أدوار شخصيات غريبة الاطوار عاطفية الابعاد، ولا سيما في الأفلام التاريخية. فهل نقول ان حصر انطوني كوين لنفسه في هذا النوع من الافلام جعله بعيداً اليوم بعض الشيء عما يحدث في السينما العالمية، أو أن ثمة مؤامرة لاستبعاده بعد قيامه بأدوار عربية؟ المهم أن انطوني كوين شبه غائب اليوم، وهو أمر مؤسف للسينما.
هروب من جيمس بوند
يشترك شون كونري، الاسكتلندي الأصل، مع انطوني كوين، في العديد من سمات شخصياته، ولا سيما قدرته على التعبير عن الاقبال على الحياة بنهم، ورد فعله تجاه الصدمات. لكن مشكلة شون كونري، التي تمكن أخيراً من تجاوزها، هي ان شخصيته ارتبطت لفترة طويلة بدور جيمس بوند الذي أداه في نحو نص دزينة من الافلام، فالتصق به كجلده.
من هنا كان على كونري ان يبذل جهوداً مضاعفة حتى يتمكن من الخروج من تلك العباءة اللاصقة، ولقد أدت جهوده الى نتيجة طيبة، اذ منذ سنوات بدأ الناس ينسون جيمس بوند ويتذكرون شون كونري، ولا سيما بعد ادائه الرائع في عدد من الأفلام، مثل "اسم الوردة" لجان - جاك آنو، و"الرجل الذي أراد ان يصبح ملكاً" من اخراج جون هيستون، وخاصة "مارني" من اخراج الفريد هتشكوك، و"زاردوز" من اخراج جون بورمان. امتد اداء كونري لهذه الافلام الجيدة على مدى ثلاثين عاماً، قبل ان يتمكن من فرض حضوره كممثل، لا كدور كما كان حاله في الافلام البوندية. ومهما يكن فان شون كونري هو الوحيد من بين كل ابناء هذا الجيل، الذي لا يكاد يخرج من فيلم حتى يدخل في غيره. انه يعمل بلا انقطاع ويفرض حضوره، على رغم بلوغه الثانية والستين من عمره، وذلك عبر اداء يتميز بذلك التوازن الحساس الذي يقيمه كونري بين شخصية نزّاعة الى الفردية، وبين تعبير يميل الى سحق الاسطورية التي تحيط بالشخصيات التي يؤديها. وهو توازن من الصعب الوصول اليه عادة، لكن كونري تمكّن منه كسيد كبير من أسياد الشاشة.
ردفورد... أكثرهم شباباً
يقل روبرت ردفورد، سناً، عن شون كونري بسبع سنوات، وكان من المنطقي عدم ادراجه بين ابناء الجيل الذي نتحدث عنه، لكن هذا الفنان الذي لا يزال في عز شبابه حتى الآن 55 سنة ينتمي فنياً الى جيل العمالقة، ولربما كان يصح القول انه ختم ذلك الجيل، معلناً ولادة الجيل الثاني: جيل داستين هوفمان وهاريسون فورد، وريتشارد درايفوس وويليام ديفو وغيرهم.
لقد شكل روبرت ردفورد حلقة الوصل بين الجيلين، لكنه كان على الدوام اكثر قرباً من مارلون براندو وبول نيومان، منه الى روركي وجاك نيكلسون، وذلك عبر ادائه المستقى هو الآخر من المدرسة الاوروبية ومن عوالم "استديو الممثل" في آن معاً... واضافة الى هذا حاز شعبية كبيرة أهلته في اواسط السبعينات لاحتلال المركز الأول بين اكثر الممثلين شعبية، وخاصة عبر افلام مثل "كل رجال الرئيس" و"أيام الكوندور الثلاثة" و"اللثغة" وخصوصاً "كما كنا"... ولئن كان ردفورد مثل الحلم الأميركي المكسور في أفلام مثل "غاتسبي العظيم" و"المطاردة" لارثر بن، فانه عرف كذلك كيف يمثل القلق الاميركي، قلق ما - بعد - فيتنام، في أفلامه التالية. وردفورد يعتبر اليوم الأكثر نشاطاً وأوروبية بين ابناء جيله.
وقد لا يكون من التعسف، الانتقال في نهاية هذا الحديث، الى اوروبا بشكل مباشر، لنتوقف عند ثلاثة أوروبيين ينتمي كل منهم على طريقته وبشكل من الاشكال الى العوالم الفنية التي يمثلها جيل الخمسينات والستينات الأميركي: مارتشيللو ماستروياني من ايطاليا، وآلان ديلون وجان - بول بلموندو من فرنسا. فهؤلاء الفنانون الثلاثة ظهروا خلال المرحلة نفسها التي كان لانكاستر ودوغلاس ونيومان وبراندو اسيادها... ولئن كان هؤلاء الأربعة اضفوا مسحة اوروبية على الاداء التمثيلي الأميركي في هوليوود، فان ما فعله الاوروبيون الثلاثة كان امراً مشابهاً وإن في الناحية المقابلة.
ماستروياني
فمارتشيللو ماستروياني تعامل مع السينما الايطالية تعاملاً هوليوودياً بامتياز، ولكن كما يمكن لپ"عاشق لاتيني" ان يتعامل مع تلك السينما. ومن هنا كان النجم الاكبر للسينما الايطالية سواء لعب في أفلام طليعية تحمل توقيع فلليني "الحياة اللذيذة" أو "ثمانية ونصف" أو انطونيوني "الليل"، أو في أفلام شعبية تحمل تواقيع ايليوبيتري، أو ايثوري سكولا، او فيتوريو دي سيكا.
بدأ ماستروياني حياته فناناً كبيراً، ولا يزال حتى الآن فناناً كبيراً، بل غالباً ما يعتبر وجوده في فيلم من الافلام ضمانة طيبة لنجاح الفيلم، وهو يتنقل اليوم بكل راحة بين افلام فنية وأفلام شعبية، بين دور العاشق ودور الأب بين السينما الفكهة والادوار الجادة. وحضوره هذا جعل ناقداً يقول: "ترى كيف سيكون بإمكاننا يوماً ان نتصور وجوداً للسينما الايطالية من دون ماستروياني؟".
ماستروياني اليوم في التاسعة والستين من عمره، لكنه يبدو اكثر حيوية ونجاحاً من أي وقت مضى، وتتهافت عليه الادوار، ويعتبر اكثر الممثلين الايطاليين حضوراً في الخارج، حيث نراه مرة في فيلم بريطاني وأخرى في فيلم يوناني أو فرنسي أو روسي. وإذا كان بامكاننا ان نقول ان فن السينما هو الفن الاكثر عالمية في عصرنا هذا، فمن المؤكد ان ماستروياني يمثل هذه العالمية خير تمثيل.
ديلون وبلموندو
قد تكون لكل من آلان ديلون وجان - بول بلموندو، الزميلين الألدين في عالم السينما الفرنسية سمعة عالمية، لكن حضور كل منهما يكاد يقتصر على السينما الفرنسية، بل على العصر الذهبي لهذه السينما. فحركة افلام ديلون وبلموندو باتت اليوم بطيئة، خصوصاً ان جيلاً جديداً من الممثلين قد ظهر في فرنسا، يعتبر جيرار ديبارديو خير رمز له، وأن الادوار الكبيرة في حياة هذين الفنانين صارت وراءهما. فاليوم لم يعد ثمة وجود لملفيل او فيسكونتي او رينيه كليمان او جوزيف لوزي ليعطو ديلون ادواراً كتلك الرائعة التي مثلها في "روكو واخوته" أو "شمس ساطعة" أو "الفهد" او غيرها من الافلام. ولم يعد غودار قادراً على اعطاء دور لبلموندو، ولم تعد تجربة "ستافسكي" مع آلان رينيه، او تجربة "اللص" مع لوي مال، ممكنتين بالنسبة لبلموندو الذي سار في خط سينما شعبية ترفيهية قبل سنوات، انطفأت هي أيضاً. فهل معنى هذا ان آلان ديلون وجان - بول بلموندو قد انطفأ؟
الى حد كبير اجل. ايامهما الكبيرة صارت وراءهما... تماماً كما صارت في عداد الماضي البعيد، كل تلك الوجوه الطيبة التي صنعت سينما سنوات الخمسين والستين: السينما الأكثر جدية والأكثر فنية في تاريخ فن السينما.
صحيح ان واحداً كردفورد لا يزال حاضراً بقوة... لكن الادوار التي تعطى لماستروياني او كونري هي ادوار عجائز يتقدمون في السن رغماً عنهم. بيك ولانكاستر ودوغلاس يكادون يكونون غائبين تماماً عن شاشة اليوم، ونبحث عن انطوني كوين فلا نجده.
أما مارلون براندو فمنكب على مشاكل اولاده، مثله في هذا مثل آلان ديلون، الذي بات عليه ان يمضي جل وقته وهو يجيب على اسئلة الصحافة حول الكراهية المتبادلة بينه وبين ابنه انطوني. صحيح ان جان - بول بلموندو على وفاق مع ابنه بول، ولكن ماذا يفيده ذلك الوفاق؟ وفرانك سيناترا أين هو؟ اذا كنا نقرأ اسمه في الصحافة في ايامنا هذه، فلمناسبة تدخله للتوفيق بين وودي آلن وميافيرو لا أكثر.
فهل هذا لأن عالماً بأسره قد انقضى، عالم كان هؤلاء النجوم رموزه وكواكبه، وآن له اخيراً، وآن لهم، ان يصبحوا جزءاً من ماض متسع لم يعد له مكان كبير في عالم اليوم؟ ربما.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.