النيابة العامة: إدانة مواطن بجريمة تزوير شيكات تقدر ب أكثر من 34 مليون ريال منسوبة لجمعية خيرية    الصناعة والثروة المعدنية تعلن تخصيص مجمعين لخام الرمل والحصى في بيشة    «الداخلية»: القتل تعزيراً لنيجيري هرّب الكوكائين إلى السعودية    470 ألف مستفيد من فعالية الإعلانات الرقمية    "مسبار" صيني يهبط على سطح "القمر"    الأهلي يلاقي الأهلي المصري في اعتزال خالد مسعد    توافد حجاج الأردن وفلسطين والعراق    أرامكو تبدأ طرح 1.5 مليار سهم    تواصل تسهيل دخول الحجاج إلى المملكة من مطار أبيدجان الدولي    "الصحة العالمية " تمدد مفاوضات التوصل إلى اتفاقية بشأن الأوبئة    «الصهيونية المسيحية» و«الصهيونية اليهودية».. !    البرلمان العربي يستنكر محاولة كيان الاحتلال تصنيف الأونروا "منظمة إرهابية"    إرهاب «الترند» من الدين إلى الثقافة    السعودية تتوسع في تجربة تبريد الطرق بالمشاعر المقدسة لمعالجة "ظاهرة الجزيرة الحرارية"    كارفخال يشدد على صعوبة تتويج الريال بدوري الأبطال    ارتفاع ملموس في درجات الحرارة ب3 مناطق مع استمرار فرصة تكون السحب الممطرة على الجنوب ومرتفعات مكة    عدا مدارس مكة والمدينة.. اختبارات نهاية الفصل الثالث اليوم    جنون غاغا لا يتوقف.. بعد أزياء من اللحم والمعادن.. فستان ب «صدّام» !    توجيه الدمام ينفذ ورشة تدريبية في الإسعافات الأولية    جامعة بيشة تحتفل بتخريج الدفعة العاشرة من طلابها    أمير تبوك يهنئ نادي الهلال بمناسبة تحقيق كأس خادم الحرمين الشريفين    «الشؤون الإسلامية» بالمدينة تفعّل خدمة «فعيل» للاتصال المرئي للإفتاء بجامع الميقات    غرامات وسجن وترحيل.. بدء تطبيق عقوبة «الحج بلا تصريح»    المملكة تستضيف بطولة العالم للراليات 2025    الهلال.. ثلاثية تاريخية في موسم استثنائي    الإسباني" هييرو" مديراً رياضياً للنصر    فرنسا تستعد لاحتفالات إنزال النورماندي    التصميم وتجربة المستخدم    مقاطع ريلز التجريبية أحدث ميزات «إنستغرام»    لهو الحيتان يهدد السفن في المحيط الأطلسي أرجعت دراسة ل "اللجنة الدولية لصيد الحيتان"، سبب    صندوق الاستثمارات يتصدر العلامات التجارية الأعلى قيمة    الدفاع المدني يواصل الإشراف الوقائي في المسجد النبوي    إحباط تهريب 6,5 ملايين حبة كبتاغون في إرسالية "إطارات كبيرة"    «المدينة المنورة» صديقة للتوحد    «تراث معماري»    تكريم «السعودي الأول» بجائزة «الممارسات البيئية والحوكمة»    تعزيز العلاقات الاقتصادية مع ايطاليا    بعضها أغلق أبوابه.. وأخرى تقاوم.. تكاليف التشغيل تشل حركة الصوالين الفنية    اطلاق النسخة الثالثة من برنامج "أيام الفيلم الوثائقي"    البرامج    قصة القرن 21 بلغات العالم    قيصرية الكتاب: قلب الرياض ينبض بالثقافة    روبوتات تلعب كرة القدم!    المملكة تدعم جهود الوقف الفوري والدائم لإطلاق النار    "أسبلة المؤسس" شهود عصر على إطفاء ظمأ قوافل الحجيج منذ 83 عاماً    توزيع 31 ألف كتيب لإرشاد الحجاج بمنفذ البطحاء    آرسنال يقطع الطريق على أندية روشن    تركيا: تكاثر ضحايا هجمات الكلاب الشاردة    إصدار 99 مليون وصفة طبية إلكترونية    ورشة عن سلامة المختبرات الطبية في الحج    توصيات شوريَّة للإعلان عن مجالات بحوث تعزيز الصحة النفسية    ثروتنا الحيوانية والنباتية    بلد آمن ورب كريم    وزير الداخلية يلتقي أهالي عسير وقيادات مكافحة المخدرات ويدشن مشروعات جديدة    مشروع الطاقة الشمسية في المركز الميداني التوعوي بالأبواء    مدينة الحجاج بحالة عمار تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    وزير الداخلية للقيادات الأمنية بجازان: جهودكم عززت الأمن في المنطقة    الأمير فهد بن سلطان: حضوري حفل التخرُّج من أعظم اللحظات في حياتي العملية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حكاية الأخوين رحباني على لسان منصور رحباني . من البلدية الى فيروز الى مطالع الشهرة 4
نشر في الحياة يوم 06 - 12 - 1993

بعدما روى منصور رحباني قصة اخفاقه مع شقيقه عاصي في سلك الوظيفة ونجاحهما في اعمال غنائية وموسيقية ومسرحية، بدأت في ساحة الضيعة وتطورت مع نادي انطلياس وانطلقت الى الحفلات في المقاهي والقرى والمصايف، يتابع في هذه الحلقة الرابعة رواية قصة انفتاح فرصة مهمة امام عاصي لدخول الاذاعة اللبنانية، تلتها فرصة اخرى دفعته هو ايضاً الى ترك بزة البوليس العدلي والانصراف كلياً الى اعمال بدأت تظهر بتوقيع "الاخوين رحباني".
من المصادفات التي تغير عادة في مجرى حياة كاملة، ان حضر احدى حفلاتنا في نادي انطلياس عام 1945 صديق قديم للوالد يدعى ايليا ابو الروس. في نهاية الحفلة جاء يهنئنا، عاصي وأنا، وقال: "يجب ألا تبقوا محصورين في انطلياس، وبحفلاتكم المتفرقة في القرى. يجب ان تصلوا اسرع الى اكبر عدد من الناس. والطريقة الوحيدة هي الاذاعة". ولما لم نكن نعرف احداً في الاذاعة مركزها عهد ذاك في السراي القديم، ارسلنا الى صديق له فيها يدعى ميشال خياط.
وحين التقيناه بعد ايام احب لوننا الجديد ودعانا الى اللقاء بلجنة مختصة في الاذاعة كي تسمع الى اعمالنا. وأمام اعضاء تلك اللجنة ميشال خياط، نقولا المني، حليم الرومي، جورج فرح،... قدمنا بعض اعمالنا "سمراء مها"، "يا ساحر العينين"، "زورق الحب لنا"... ففوجئوا بأغنيات لا تكاد تبدأ حتى تنتهي، في حين كانت الاذاعة اللبنانية فترتئذٍ معتادة على اعمال مصرية طويلة او بدوية متوسطة، وبعض اعمال محلية من نقولا المني ويحيى اللبابيدي وعمر الزعني وخالد ابو النصر وسامي الصيداوي وفيلمون وهبي وسواهم. لكن ميشال خياط كان داعماً كبيراً لنا فقبلتنا اللجنة على مضض، وأتاحت لنا تقديم بعض الاعمال من حين الى آخر.
لولا فؤاد قاسم . . .
كان معظم اعمالنا مكتوباً للكورس. ولم تكن لدينا مغنية سولو في ذاك الحين، فاضطررنا مجدداً الى الاستعانة بشقيقتنا سلوى، سميناها "المطربة نجوى". لم يكن صوتها خارقاً بل مقبول ومعتدل يميل الى الجمال. بدأنا نقدم اغانينا مباشرة على الهواء قبل عهد التسجيلات. قدمنا "برد برد برد/شتي وبرق ورعد/قربي النارات/قربيهن بعد" وكنا ننفخ بأفواهنا حول الميكروفون كمؤثرات صوتية لنوهم بهبوب الهواء وبعدها مجموعة أغان لامست عواطف الناس وتكلمت باسمهم فتجاوبوا معنا بسرعة. بدأنا نزيد ريبرتوارنا الغنائي عما كان ايام نادي انطلياس وحفلاتنا الجوالة. جاءت اغانينا بجديد في الاوركسترا، حاملة الحاناً طالعة من هذه الارض. وجئنا بمحتوى شعري ذي اغراض مختلفة. في ذلك الوقت كان الغناء الشائع يحمل الكثير من الكلمات الذائبة المعطرة البنفسج، الياسمين، العواذل، الوصال وكلام دائم عن الحرمان وعبارات رقيقة سريعة العطب، وأقصر اغنية تبلغ عشرين دقيقة. فجئنا نحن بوحدة الدقائق الثلاث وكلام مغاير وحتى اللفظ المغاير: فمثلاً كنا نلفظ "ليل" بفتح اللام وتسكين الياء، فيما كان الشائع المصري بكسر اللام ومفردات الوعر والصخر والشوك وسواها. كان الكثيرون يرفضون الغناء معنا، حتى في الكورس، لأن كلماتنا "قاسية جبلية". كما كان الموسيقيون يشيحون عن عزف اغنياتنا لخروج جملها الموسيقية عن مألوف ما كانوا يعزفون. هكذا قبلنا الجمهور ورفضنا العاملون في الحقل الموسيقي والغنائي.
وسط هذه الصعوبة بدأنا. والوعر الذي تحدثنا عنه في اغانينا كان يواجهنا كل يوم من المعنيين في الاذاعة وأعضاء الفرقة الموسيقية والكورس، حتى امضينا السنوات الثلاث الاولى محفوفة بصعوبات اوصلتنا الى حافة فقدان الأمل من امكان المواصلة وتقديم ما كنا نزخر به من جديد.
في تلك الفترة الرمادية من مقاربة اليأس، قيض الله للاذاعة اللبنانية مسؤولاً يدعى فؤاد قاسم. وهو رجل واعٍ مثقف منفتح، كان مهيأً ليكون وزيراً او نائباً لكنه من رعيل رياض الصلح لذا حيّدوه وأرضوه بمنصب مدير البرامج في الاذاعة اللبنانية. حين استمع الى اعمالنا فور تسلمه منصبه اعجبه اننا نغني باللبنانية وسط ذاك المد المصري عهدئذ، فاستدعى عاصي وعرض عليه ان يوظفه في الاذاعة 1948 عازف كمان وملحناً. قبل عاصي الوظيفة وزاوج بينها وبين وظيفته الاخرى في بلدية انطلياس فترة سنة ونيف ثم استقال من البلدية نهائياً لينصرف الى وظيفته في الاذاعة، حيث بدأ عازف كمنجة وملحن اركان الركن مجموعة من اربع اغنيات. وأخذت انهي دوامي في الشرطة ولا اعود الى انطلياس بل اتوجه الى الاذاعة عند عاصي اشاركه في تلك الاركان. من يومها بدأنا بتوقيع "الاخوين رحباني". كنا من الأساس نشعر بأن وحدة الفن هي في ما هو اكبر من الاغنية. لذا اعتمدنا اللوحات الاسكتشات الغنائية "جيران البحر" مثلاً، و"راجعون" في ما بعد حتى انتهينا لاحقاً الى المسرحيات الغنائية الكبرى.
حين احسست بدخولنا فعلاً عالم الاحتراف، شعرت ان ما تعلمناه مع بونا بولس الاشقر يكفينا على صعيد الهواية فقط ولا يزودنا بمادة للاحتراف. فاقترحت على عاصي ان نأخذ دروساً في التأليف الموسيقي لدى برتران روبيار كان استاذاً في الاكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة حيث درس عاصي. ولروبيار فضل كبير على جيل الموسيقيين اللبنانيين. درسنا معه، عاصي وأنا، نحو تسع سنوات متواصلة وأقنعنا صديقنا توفيق الباشا بأخذ دروس معنا ففعل. في تلك الحقبة عاد من باريس توفيق سكر فطلبنا منه ان يعطينا دروساً في التحليل الموسيقي تحليل السوناتات والسمفونيات مقابل ما اعطيناه نحن دروساً في الموسيقى الشرقية والأرباع الصوتية.
بدأت شهرتنا تتوسع منذ تلك الفترة بأغنياتنا وموسيقانا واسكتشاتنا، وكان فؤاد قاسم مؤمناً بها ويشجعنا على الغناء باللبنانية ويعطينا فرصاً اوسع للعمل وأركاناً اضافية نلحنها. هكذا ولدت اركان جديدة مثل "شداة الوادي" و"لمى ولمياء" و"عروس المواسم" وسواها من الاركان التي كان عاصي مضطراً الى تلحينها كي تصرف له الاذاعة معاشه آخر الشهر كپ"ملحن/مؤلف اركان". بعد عام اكتشف ان امين صندوق الاذاعة كان يختلس قسماً من معاشه ويعطيه الباقي وهو لا يدري. بدأ المستمعون يتابعون اعمالنا بشغف، وهذا ما لمسناه من ازدياد الطلب على حفلاتنا في القرى والمدن والمصايف.
اللقاء - المفصل
تلك الفترة ايضاً شهدت اللقاء/المفصل الذي سيغير في حياة عاصي. كانت صبية تجيء الى الاذاعة مع فرقة فليفل تغني الاناشيد. وصدف ان استمع حليم الرومي الى غنائها المنفرد فأعجبه صوتها كثيراً ورأى فيها مستقبلاً عظيماً. استدعى عاصي الى مكتبه وقال له: "عندنا صبية جديدة ذات صوت خارق. ارى ان تتعاون معها في اركانك". وهكذا كان. واختار لها حليم الرومي لقبين: "فيروز" أو "شهرزاد" فأعجبها الأول. وبدأت من يومها 1949 العلاقة المهنية بين عاصي ونهاد، وأول اغنية لحنها لها: "حبذا يا غروب" شعر قبلان مكرزل. ولم تكن اشتهرت قبلها سوى صباح ونجاح سلام وسعاد محمد.
من الناس من يجيئون متوجين منذ الاطلالة الأولى. هكذا جاءت فيروز، ذات الصوت المتفرد. انضمت الينا. اصبحنا ثلاثة. راح صوتها يخترق الحواجز العاطفية وأخذ في لا وعي سامعيه يرسي الافكار التي يحملها. كانت فيروز هي المنتظرة لأجل اكتمال المسيرة الرحبانية وانطلاقها الى ابعد، وسينعكس حضورها الآسر ايجاباً في ما بعد على حركتنا المسرحية.
الطريف في امر تلك الفترة ان عاصي كان عازفاً سيئاً في فرقة الاذاعة. وأكثر الذين كانوا يأمرونه ويصرخون في وجهه لائمين متذمرين من عزفه السيئ، باتوا في ما بعد عازفين ثانويين في قيادته الاوركسترا او مرددين عاديين في كورس "الفرقة الشعبية اللبنانية" التي شكّلناها في ما بعد.
اخذ عاصي يدرب فيروز، وهي تتأقلم بحسها المرهف الخارق، وتطل بتلك الانواع الجديدة التي غنتها. اعادت اغاني كنا اعطينا لأصوات اخرى شقيقتنا سلوى، كروان، حنان، ... مثل: "شداة الوادي"، "زورق الحب لنا"، "سلمى"، "هذه الربى والجنان"، "عذارى الغدير"، "هل ترى تعرف يولا"، "سمراء مها"، "هيفا والديب"، "جيران البحر"، و"عتاب" التي انطلقت في شكل مذهل:
"حاجه تعاتبني يئست من العتاب من كتر ما حمّلتني هالقلب داب"
وكانت هذه الاغنية ركيزة اساسية في ازدياد شهرة فيروز والاخوين رحباني.
مع صبري الشريف
في هذه الاثناء، بعد نحو ثلاث سنوات من شيوع اغانينا، سمع بعضاً منها خاصة "زورق الحب لنا" و"برد برد" صبري الشريف رئيس القسم الموسيقي في اذاعة الشرق الادنى قبرص ومدير تلك الاذاعة محمد الغصين. فطلب الاخير من صبري ان يجيء الى بيروت التي "يبدو ان فيها ظاهرة فنية جديدة تستحق الاهتمام". جاء صبري سريعاً والتقيناه على موعد وأسمعناه اعمالاً لم يكن سمعها بعد، فذهل وسألنا: "اين درستما الموسيقى؟ في اسبانيا"؟ فأجبناه اننا "لم نسافر ابداً بل درسنا في بيروت على بونا بولس الاشقر ونواصل اليوم على برتران روبيار". ومنذ ذاك اللقاء بدأ تعاون مع صبري الشريف استمر الى اهم مرحلة مر بها الاخوان رحباني. ولم يغادرنا الا بعدما وقّع معنا اتفاقاً على وضع مجموعة من الاغاني ننفذها في بيروت ويأخذها ليذيعها من "محطة الشرق الادنى للاذاعة العربية" وكانت تديرها وزارة الخارجية البريطانية كشركة مستقلة تذيع برامج وأغنيات و"تمرر" سياستها في نشرات الاخبار.
اشهد للتاريخ هنا ان لصبري الشريف، هذا الرجل المبدع، فضلاً عظيماً على الموسيقى اللبنانية. وقد جاهد كثيراً مع رفاقه لنقل مكاتب الاذاعة وموازنتها الضخمة من القاهرة الى بيروت. كان يرى امكان تحقيق اعمال فنية مهمة انطلاقاً من لبنان.
وفعلاً، بعد نقل مكاتب الاذاعة الى بيروت، احتضننا: عاصي وأنا وتوفيق الباشا وزكي ناصيف وعبدالغني شعبان وتوفيق سكر وشلة من المثقفين موسيقياً. وفي تلك الفترة صدر فصل من اوبرا اذاعية عنوانها "دنبو الجبار" غناها بأصوات كلاسيكية كل من عاصي وخليل مكنية وعبدالغني شعبان. ويومها اشتهرنا بپ"فرقة الخمسة" عاصي، منصور، زكي، الباشا، سكر وقمنا بالنهضة الفنية التي اتسم بها لبنان. كنا نقيم اجتماعات دورية وندعو الناس الى اسماعهم اعمالنا الجديدة، عاصي وأنا، وكذلك توفيق الباشا الذي كان أصدر حديثاً موشح "اسق العطاش" وقصيدة "ولد الهدى"، وزكي ناصيف الذي لحّن حوارية "هو وهي" وغناها مع فيروز. وقد اعطى توفيق وزكي منذ مطالعهما الحاناً رائعة.
في تلك الفترة وقّعنا، عاصي وفيروز وأنا، عقداً لسنوات عدة مع صبري الشريف على انتاج عدد من الاعمال. شعرت بأن اعمالنا لاذاعة الشرق الادنى تتخذ طابعاً مكثفاً انتاجياً واحترافياً. ولما كان عقدي مع صبري الشريف 750 ليرة شهرياً فيما كان معاشي في الشرطة 200 قدمت استقالتي من سلك الوظيفة 1953 وانصرفت مع عاصي الى الأعمال الفنية.
رحنا ننتج برامج اذاعية كنا قدمنا بعضها على المسرح في نادي انطلياس: اغان فولكلورية "بو فارس عندو جنينة"، ... واسكتشات "بو فارس وسبع ومخول" اشترك فيها عاصي وأنا وفيلمون وهبي ونصري شمس الدين وسعاد هاشم وعفيف رضوان، "روكز خطب" فيروز ووديع الصافي "روكز تجوز" فيروز ووديع الصافي، "الموسم الازرق" صباح وعاصي، "جيران البحر" فيروز والكورس، "عروس المواسم" فيروز ووديع الصافي. كنا نأتي بالألحان الشعبية الفولكلورية المعروفة وننسجها في قصة تجمعها الى بعضها البعض ونطلقها بأصوات فيروز وصباح ووديع الصافي. وأخذنا نطور في المألوف بمساعدة صبري وآرائه. كما اخذنا اغاني الفولكلور وزدنا عليها فقرات وجملاً كلامية وتنويعات لحنية جديدة شاعت ويظنها الناس اليوم من صلب الفولكلور القديم بينما هي من زيادتنا نحن. منها مثلاً في اغنية "هيك مشق الزعرورة"، هذا المقطع الذي اضفناه كلاماً وجملة موسيقية مغايرة عن اللحن الاصلي:
والليل العاطي سرارو ومضوي دارو
نزلو بضيعتنا خبارو ودلونا عليك
او كنا نضع "رسماً ميلودياًَ" يشبه الفولكلور. كما في اغنية "يا غزيل يا بو الهيبة" التي زدنا عليها جملة موسيقية تقول "آوف يا با" وهي من تلحيننا ولم تكن موجودة اصلاً في تلك الاغنية الشعبية. ووضعنا اغاني شعبية من تلحيننا، لأننا منذ تلك الفترة كنا نعي مسؤولية ان نجعل الاغنية اللبنانية سداً امام المد الفني الغريب الذي كان يتدفق على لبنان، فكان علينا ان نعالج اكثر من لون من الوان الموسيقى والغناء كي نوسع ريبيرتوار الاغنية اللبنانية الاصلية.
عالجنا الألحان الفولكلورية كما هي، ثم زدنا جديداً على الفولكلور كي نقربه اكثر من متناول العصر فوضعنا اغاني مستوحاة من الفولكلور في اطار "الرسم الميلودي الفولكلوري". ووضعنا اغاني حرة "احبك في صمتي الوارف وفي رفة الهدب الخائف". كما اتينا بأغنيات عالمية شائعة التانغو مثلاً تكون صدرت في باريس بالفرنسية وفي روما بالايطالية فلم نجد حرجاً من وضعها كذلك بالعربية "ماروشكا"، "فيردي لونا"، .... وبلغ اندفاع صبري الشريف صوب هذه الظاهرة ان اتى بادواردو بيانكو، ملك التانغو آنئذ، وعزف مقطوعاته الشائعة وغنتها فيروز بالعربية. كما قدمنا موجة الاغاني المترجمة الراقصة منها مثلاً "جوني غيتار" التي قدمناها مع عزف على العود من منير بشير رافق فيروز ولم ندّع انها من تأليفنا بل كنا نوقعها: "اعداد الأخوين رحباني". ثم بدأنا بتأليف الاغاني الراقصة "بعدنا"، "عند حماها"، "بلدتي"، ... حتى اننا وضعنا موسيقى للجاز هاي يا ام العين الكحلا"، ...". وواجهنا حملة عنيفة، حتى ان احد الموسيقيين دس لأحد اصدقائه الصحافيين فطالب هذا "بمحاكمة الاخوين رحباني لأنهما متواطئان مع الانكليز لتسليمهم واحة البريمي" مشكلة كانت بين الانكليز والسعوديين على تلك الواحة في الجزيرة العربية.
لفتة الى الموشحات
والتفتنا ايضاً الى الموشحات بعدما كانت مصر اخمدتها ولم يعد احد يغنيها في العالم العربي. جئنا بموشحات كنا حفظناها من طفولتنا، فأعدنا توزيعها تسريعاً وتنويعاً وتعديلاً بسيطاً لبعض الكلمات وتسجيلاً بأوركسترا كبيرة: منها "لما بدا يتثنى" الارجح ان ملحنه يدعى سليم النجار، وضعه في مصر منذ نحو مائتي عام، "بالذي اسكر من عذب اللمى" من نغم البيات زدنا عليه مقاطع ووزعناه بأرباع الصوت وكان يقال بأن توزيعه بربع الصوت مستحيل، "زوروني كل سنة مرة"، "يا لور حبك". وحين اطلقنا تلك الموشحات كانت لها ضجة غير عادية في الناس وفي الصحافة كما حصل حين غنيناها على مسرح دمشق لاحقاً. ولم نكتف باعداد الموشحات واعادة اطلاقها في العالم العربي بل وضعنا نحن موشحات جديدة، كلاماً ولحناً.
خضنا ايضاً ميدان القصيدة المغناة. وتمشياً مع مبدأنا الفني وضعنا الپ"ميني قصيدة". فبعدما كانت القصائد العربية المغناة عمودية طويلة غالباً ما تكون ذات قافية واحدة تستغرق نصف الساعة او اكثر، جئنا بقصائد قصيرة "ما للهوى المنسي عاد يزور"، "لملمت ذكرى لقاء الأمس بالهدب"، ... لا تتعدى الدقائق الخمس او الست على الاكثر.
جميع تلك التنويعات كانت تمريناً مهماً ومفيداً جداً لصوت فيروز التي كانت مطواعة فيها جميعها في شكل فريد مذهل، فإذا بصوتها الجميل يؤدي جميع تلك الأنواع في طواعية مذهلة.
هذه المعالجة الواسعة لمواضيع كثيرة متنوعة جاءت من وعينا مسؤولية وضع ركيزة قوية متينة للأغنية اللبنانية. عالجنا مختلف الألوان الغنائية. وفتح لنا صبري الشريف رصيداً تنفيذياً كبيراً في اذاعة الشرق الأدنى، منه فرقة موسيقية كبرى من نحو أربعين بين كمنجات ونحاسيات وخشبيات جمعت أشهر عازفي الزيتونة بكازينوهاتها وملاهيها التي بلغت أيامها نحو العشرين وفي جميعها عازفون أجانب مهرة. هكذا تمكنا من تحقيق كل تلك الانجازات على المستوى الأفضل.
الزواج
وسط تلك المرحلة الغنية المعجوقة بالانتاج الغزير، كانت قصة حب كبير تنسج خيوطها بين الأستاذ عاصي وتلميذته نهاد. وما هي حتى وصلت الى الأهل والأصدقاء والوسط الفني بطاقة دعوة، قرأوا فيها على صفحة اليمين ما حرفيته: "سعدى أرملة حنا عاصي الرحباني تتشرف بدعوتكم لحضور حفلة زفاف ولدها عاصي على الآنسة نهاد حداد" وعلى الصفحة اليسرى: "وديع حداد وعقيلته يتشرفان بدعوتكم لحضور حفلة زفاف كريمتهما نهاد على السيد عاصي الرحباني"... وذلك في الساعة الرابعة من بعد ظهر الأحد 23/1/1955 في كنيسة سيدة البشارة للروم الأورثوذكس - حي الفرنيني" بيروت.
بعد الزواج جاءت دعوة من اذاعة "صوت العرب" في القاهرة. فذهبنا، عاصي وفيروز وأنا وصبري الشريف وزوجته، حيث التقينا أحمد سعيد ووقعنا على عقد لتنفيذ أغان وأناشيد وبرامج خلال مدة ستة أشهر. في تلك الفترة وضعنا "النهر العظيم" وأعمالاً أخرى بعضها لسوانا من شعر هارون هاشم رشيد ومرسي جميل عزيز. وذات يوم قال لي أحمد سعيد: "اذا وفرنا لكما طائرة عسكرية الى غزة هل تذهبان لتسمعا الأغاني الفلسطينية هناك"؟ وكنا نخاف الطائرات كثيراً فطلبنا منه استحضار التسجيلات الى القاهرة. وهكذا كان. استمعنا اليها فإذا فيها نواح واستجداء وشكوى. قلنا له: "قضية فلسطين لا تعالج هكذا. لا يسترد فلسطين إلا الفلسطينيون. لا ابن القاهرة يموت عن القدس ولا ابن بيروت ولا ابن دمشق". ولتثبيت مقولتنا وضعنا "راجعون" وما فيها من استنهاض همم الفلسطينيين المشردين، وسجلناها بأصوات فيروز وكارم محمود والكورس لاحقاً أعدنا تسجيلها في بيروت مع فيروز وميشال بريدي. وعنها قال لنا في بيروت الصحافي الكبير ميشال أبو جودة: "أنتما مؤسسا العمل الفدائي". ذلك أننا كنا نؤمن بالعودة من الخارج الى الداخل ولن يكون التحرير إلا من الداخل ببقعة مقاتلة تكون المنطلق. وقد عدنا الى هذه الفكرة لاحقاً في "جبال الصوا" حين قلنا: "اللي بيقاتلوا من برا بيضلوا برا: المصدر جوا". وهذا ما حصل أخيراً في ثورة الحجارة.
في القاهرة، وفي سهرة خاصة، قال لنا توفيق الحكيم والدكتور حسين فوزي: "أنقذتما في أعمالكما التراث الكلاسيكي من البلادة". وهناك أيضاً جاء ملحنون مصريون اجتمعوا بنا وانتقلت اليهم عدوى أغانينا القصيرة وكلماتنا اللبنانية "شباك"، "مشوار"....
بعد ستة أشهر عدنا بنتائج فنية وشخصية: أعمال كبيرة بقيت في اذاعة القاهرة، جنين في أحشاء فيروز سيكون زياد في ما بعد، وقد حبلت به في أرض الكنانة، وقصة حب عشتها أنا مع حسناء تدعى جولي كانت مديرة بنسيون الزمالك حيث نزلنا طوال تلك الفترة.
كانت فترة الشرق الأدنى غنية جداً ومثمرة جداً. وهي أول اذاعة دخل اليها الاعلان التجاري، وكنا عاصي وأنا أول من وضع الاعلان عن فتح الدائرة التجارية، وهو يقول:
فيه مشروع منربح فيه ع الهينه
ومنحطّ بجيبتنا 100 جنيه استرليني
ووضعنا نحن أول اعلان كلاماً ولحناً، وكان لبراد "كروسلي" جاء فيه:
كروسلي كروسلي براد كروسلي
واقف بالدار... يرقصلي
وباعتراف صاحب الشركة أنه باع نحو خمسمئة براد بفضل ذاك الاعلان الذي راج على ألسنة الناس.
في تلك الفترة اقترح علينا فيلمون وهبي أن يأخذنا الى اذاعة دمشق، وأن يعرفنا الى مديرها أحمد عسة الذي كان "متطوراً ويحب كل جديد"، حتى أنه استورد آلات أوركسترا سمفونية ماركة "بتروف" أرغم جميع عازفي الاذاعة أن يتعلموا عليها مع مدربين جاء بهم خصيصاً، ذهبنا لمقابلته، عاصي وفيروز وأنا، وكان لقاؤنا الأول به سيئاً لأننا أسمعناه أغنيات قديمة. لم يقتنع بنا. ثم عدنا فرتّبنا معه لقاء آخر أسمعناه فيه أعمالاً جديدة تبناها فوراً ووضع إمكانات الاذاعة في تصرفنا. وأشهد اليوم أن لهذا الرجل فضلاً كبيراً علينا، لأن إذاعة دمشق عهدئذ كانت قوية البث وما يذاع منها يشيع. هكذا، بين مؤيد متحمس ومناهض متشدد، شاعت من دمشق أعمالنا الجديدة: "الأسوار" برنامج ضخم تشترك فيه أوركسترا ضخمة، "مشوار" شعر سعيد عقل، "بردى" و"وداد" شعر الأخطل الصغير، "من نعمياتك لي" شعر بدوي الجبل الذي أذهله صوت فيروز فتعرف بنا وأعطانا من شعره، "نحنا والقمر جيران" بصوت فيروز وحدها بعدما كانت صدرت قبلذاك بصوت فيروز وحنان معاً، وبرامج كثيرة ك "الحصاد" و"السلاح" و"النصر للانتاج" وأغنية "عتاب" وهي صدرت من اذاعة بيروت وكانت سيئة البث لكنها شاعت من اذاعة دمشق التي جعلت لنا جمهوراً واسعاً ورصيداً شعبياً وصداقات غالية ستحتل كل مساحة العمر ولا تزال مستمرة حتى اليوم. وهكذا كنا نذهب الى دمشق مرة كل اسبوع أو كل أسبوعين، نحمل أعمالاً جديدة نتقاضى مقابل كل أغنية 25 ليرة عن الكلام و25 عن اللحن نسجلها ونعود الى ورشة عملنا المكثف في اذاعة الشرق الأدنى.
بقينا في هذه الأخيرة من 1953 الى 1956 حتى الاعتداء الثلاثي على مصر، حين أسفرت الاذاعة عن وجهها الحقيقي وأخذت تذيع البلاغات الحربية للحلفاء الثلاثة ضد مصر، فقررنا أن نوقف التعامل معها. كان عقدنا معها حتى عام 1960 فأصررنا على التوقف لأنها اذاعة معادية للعرب. وعدنا الى جذورنا كأولاد حنا عاصي، فقررنا عاصي وأنا أن نمنع بالقوة الدخول اليها. اجتمعنا بالفنانين الذين استقطبتهم الاذاعة فوافقوا على مقاطعتها وكذلك توفيق الباشا وزكي ناصيف وصبري الشريف وفريق الفلسطينيين الذي فيها، فكان أن توقفت الاذاعة وأقفلت مكاتبها. قدمنا شكوى بواسطة محامينا صهرنا عبدالله الخوري فنلنا تعويضنا الكامل حتى 1960 مع أننا أوقفنا العمل معها سنوات أربعاً قبل انتهاء مهلة العقد.
مع توقف الاذاعة 1956 تأسست "شركة التسجيلات اللبنانية" لارك بتمويل وديع بولس مؤسس استديو بعلبك في ما بعد، واتخذ صبري الشريف مديراً، ووقعنا عقوداً لانتاج أعمال فنية سجلناها حيث كنا نسجل أعمالنا لاذاعة الشرق الأدنى صالة سينما الفرير على محطة الداعوق، وراحت الشركة تبيع أعمالنا لاذاعات الدول العربية.
في تلك الفترة بالذات، بعد ميكروفونات اذاعة بيروت واذاعة دمشق وتسجيلات اذاعة الشرق الأدنى، كانت خيوط القدر تنسج لنا الفرصة الكبرى التي نقلت أعمالنا الى احتراف فني آخر: المسرح.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.