شغلت مسألة العلاقة بين العلماء والحكام، أو بين المثقف، والسلطة حيزاً كبيراً من الفكر العربي الإسلامي منذ قرون عدة، وما زالت تشغل تفكير الكثيرين، علماء ومثقفين وحكاماً، فضلاً عن العامة من الناس، وهم المراقبون للمثقف والسلطان على حد سواء. والناظر إلى حال امتنا، والمراقب طبيعة العلاقة بين ولاة الأمور والرعية ومن جملتهم العلماء، يرى أنها في كثير من الأحيان علاقة صدام وتنافر، بل إن هذه النظرة أصبحت ظاهرة عامة، وكأنها هي القاعدة وما خالفها فقد شذ عنها، والشاذ لا حكم له! وإذا وجد نوع من العلاقة التوافقية بين الحكام والعلماء، فان نظرة الآخرين إلى هذه العلاقة تكون نظرة شك واتهام، فهذا عالم منافق مداهن، باع نفسه للسلطان، أو باع دينه بدنياه، وهذا سلطان جائر استخدم العلماء والفقهاء مطية لإضفاء الشرعية على جوره وظلمه. فهل يا ترى هذه طبيعة العلاقة بين العلماء والحكام، وهل من المفترض أن ننظر دائماً إلى العلاقة الحسنة بين العلماء والحكام نظرة شك واتهام؟ أليس في تاريخنا الإسلامي علماء ورعون، عاملون بعلمهم، ناصحون لولاة أمورهم، لم يمنعهم قربهم من السلطان من قول كلمة الحق بالحكمة والموعظة الحسنة؟ أليس في تاريخنا الإسلامي أيضاً من الولاة والحكام من كان يتقي الله في حكمه، ومن كان يقرب العلماء والوعاظ للاستفادة من علمهم والاستئناس برأيهم؟ ثم أليس في تاريخنا الإسلامي الكثير من الصور المشرقة التي تبين"عطف العلماء على الأمراء والأمراء على العلماء"؟ إن من يقرأ التاريخ يرى الكثير من تلك الصور المشرقة حقاً، التي تظهر طبيعة التكامل بين العلماء والحكام أو إن شئت فقل: بين السيف والقلم، يلخصها هذا الحوار المختصر بين فخر الدين الرازي والسلطان شهاب الدين محمد بن سام الغوري، صاحب غزنة المتوفى سنة 602ه، إذ يقول الرازي للسلطان:"نحن في ظل سيفك"فيرد عليه السلطان بقوله:"ونحن في شمس علمك". وإذا كانت هذه هي النظرة المتبادلة بين الطرفين - اعني العلماء والحكام - فانه لحري أن تتولد روح الثقة بينهما، وان يسعى كل طرف للاستفادة من الطرف الآخر، وقبل ذلك يسعى إلى القيام على مصالحه بالنصح والإرشاد والتقويم، وان يتقبل كل من الطرفين ما يسدي إليه الطرف الآخر من نصح. فهذا الفخر الرازي نفسه يعظ السلطان شهاب الدين الغوري، فيقول:"يا سلطان، لا سلطانك يبقى ولا تلبيس الرازي، وان مردنا إلى الله"، فبكى شهاب الدين حتى رحمه الناس لكثرة بكائه. ولما توطدت علاقة الثقة بين الحكام وعلمائهم عملوا على تقريبهم، وجعلهم من خواصهم وبطانتهم الصالحة، التي تحضهم على الخير وتعينهم عليه، حتى وصل الأمر ببعض الحكام إلى حد العجب، فهذا نظام الملك الحسن بن علي بن إسحاق المتوفى سنة 485ه يروى انه كان شديد التعلق بالفقهاء والعلماء، إذ يقضي معهم غالب نهاره، فقيل له: إن هؤلاء قد شغلوك عن كثير من المصالح، فقال:"هؤلاء جمال الدنيا والآخرة، ولو اجلستهم على رأسي ما استكثرت ذلك"! ولم يكن ذلك منهم ادعاءً فقط، بل كان ديدنهم تقريب العلماء، والأخذ بنصحهم والعمل بمواعظهم، فهذا الخليفة الأموي سليمان بن عبدالملك المتوفى سنة 99ه، لما حج استحضر أبا حازم سلمة بن دينار المتوفى سنة140ه ليعظه، فوعظه موعظة بليغة بكى منها سليمان بكاءً شديداً، فقال رجل من جلسائه: أسأت إلى أمير المؤمنين! فقال أبو حازم: اسكت فان الله اخذ ميثاق العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه، ثم خرج من عنده، فلما صار إلى منزله، بعث إليه بمال، فرده إليه، وقال للرسول: قل له:"يا أمير المؤمنين والله ما ارضاه لك، فكيف ارضاه لنفسي"؟ ومن هذا المنطلق، فإن الإمام أبا الفرج بن الجوزي يعمل في هذه الرسالة على وضع الأسس السليمة للعلاقة بين العلماء والحكام، وترسيخ مبدأ التكامل والتعاطف بين الحكام والعلماء، ونبذ التصادم والتنافر بين الفريقين. وهو من جهة أخرى يضع القواعد الأساسية لأسلوب النصح الموجه من العلماء إلى حكامهم، والحدود التي ينبغي أن يلتزم بها العلماء في علاقتهم مع حكامهم ووعظهم لهم. ولما كان الحديث عن منهج ابن الجوزي في كتابه هذا ذا صلة بما مر من الحديث عن العلاقة بين الحكام وعلمائهم، فإنني ألخص ذلك المنهج في نقاط موجزة، مدللاً على كل منها بما قاله المؤلف نفسه. - إن الناس لا غنى لهم عن كلا الفريقين:"رأيت قوام الخلق كلهم بعلمائهم وأمرائهم". - تكامل وظيفة العلماء والحكام:"فالعلماء يصدون بالفتاوى عن الحيف، والأمراء لمن لا يقومه إلا السيف". - أقسام العلماء في تعاملهم مع الأمراء:"ورأيت العلماء، في الغالب، منقسمين إلى خيّر يخاف على دينه، فيبعد من الأمير، ومنافق يخالط السلطان مخالطة الشرير، ومراده استلاب دنياه، فلا يأمره بخير، ولا ينهاه". - لا بد للسلطان من عالم ينصحه ويحضه على الخير:"فإذا كان هذا ? أي العالم المنافق ? يؤذي السلطان بالقرب منه، والعالم الخير ينأى عنه، فمن الذي يحضه على الصواب، ويثقفه بآداب السنة والكتاب". - لا يعظ السلطان إلا عالم:"عن سفيان الثوري، قال: لا يأمر السلطان بالمعروف إلا رجل عالم بما يأمر، عالم بما ينهى، رفيق في ما يأمر، رفيق في ما ينهى، عدل في ما يأمر، عدل في ما ينهى". - التلطف في نصح الحكام:"وإنما اخترت التلطف، لأن التشديد لا يكاد ينفع، والتلطف قد ينفع، خصوصاً في حق الملوك. ومن الغلط تكليمهم كتكليم العوام". - موعظة السلطان الجائر الذي يقتل تكون مشروطة:"إن الذي أراه جواز موعظة الجائر الذي لا يتيقن أنه يقتل، بل يتردد الأمر. فأما إذا تيقن أنه يقتله نظر، فإن كان في قتله إعزازاً للإسلام، فلا بأس بالإقدام. إلا أن التلطف أولى". - أن يذكر الواعظ للسلطان فضل الولاية، مع بيان ثواب العدل:"وينبغي لمن يذكر السلطان أن يجعل موعظته ممزوجة بذكر فضل الولاية... ممزوجة بذكر ثواب العدل". - ألا تكون الموعظة في مجمع من الناس:"ولتكن الموعظة للسلطان في خلوة... إشارة لا تصريحاً". - عدم الموعظة إذا تيقن عدم استجابة السلطان:"فإن علم أن السلطان لا يسمع موعظته ولا يبالي بها لم يعظه... فإذا تلمح الواعظ أن الموعظة تنفعه عند السلطان انبسط بالموعظة، وإلا ورَّى وتلطف أو ترك". - السلاطين ثلاثة أقسام، وينبغي أن يكون تعامل العلماء معهم تبعاً لهذا التقسيم:"عادل تابع للحق، فإعانة هذا واجبة، والتردد إليه عبادة... والثاني: سلطان يعمل بالصواب ويعمل بالخطأ، فينبغي أن ينبه ويذكّر على قدر قبوله الصواب، ويتلطف الأمر معه بالمكتوبات إليه... والثالث: سلطان يغلب عليه الجور، ويندر منه الصواب، فقد بينت وجه الإقدام على الإنكار على هذا، وأمرت بالتلطف مهما أمكن. واجتناب مثل هذا لازم، إلا إذا أمكنت التذكرة، فإذا أمكنت، فهي أفضل الأعمال". - لا تجوز مخالطة السلطان إلا لمن يقوى على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:"ومن قوي على مخالطة السلطان على وجه يسلم فيه ? وإن كان ذلك بعيداً ? جازت المخالطة، لأنه يكون قادراً على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الحق". ومع كل ذلك، يبقى هذا الكتاب إسهاماً في مسألة شغلت، كما ذكرنا في بداية مقالنا هذا، فكر الكثيرين من المثقفين، وتظل موضوعاً حياً يحتاج إلى كثير من الندوات والكتابات لتجليتها وتجسير شقة الخلاف بشأنها. وعلّ كتاب ابن الجوزي هذا يفتح الباب من جديد لطرح القضية للبحث والمناقشة. * محقق الكتاب