المرة الأولى كانت في طرابلس، وحسرني فيها حال ليبيا والليبيين! والثانية في بروجيا، تعجبت فيها من ابن رئيس دولة، لسانه زالف كأبيه! والثالثة في باريس، وفيها رثيت لحال الكرة وأهلها! تلك المرات الثلاث التي التقيت فيها المهندس الساعدي القذافي، نجل الرئيس الذي كان يوماً"معمراً"! الطريف أن اللقاءات الثلاثة جاءت متعاقبة في غضون 12 شهراً فقط، من مايو 2003 إلى مايو 2004، وتركت في نفسي انطباعاً عاماً بأن الفتى المدلل"غلبان"! و"الغلب"هنا ليس على المستوى المادي بالطبع، بقدر ما يحمله المعنى من سذاجة التفكير، ورداءة التخطيط والتنفيذ على مستوى العمل.. أما كإنسان، فللحق لم أر من الساعدي سوى تواضع وهدوء وصراحة قاتلة .. لذا كانت دهشتي كبيرة على مدى شهور الثورة من توارد الأنباء أن الساعدي يقود كتيبة جيش تحمل اسمه، وهو الذي لم يكن قادراً على قيادة فريق كرة قدم! زرت طرابلس العاصمة في مايو 2003 في إطار حملة ليبيا للترويج لملفها المشترك مع تونس لتنظيم كأس العالم 2010.. كان مقرراً للزيارة أن تمتد ثلاثة أيام، لكن بعد ثلاث ساعات فقط من وصولي، قررت اختصارها إلى 18 ساعة! نزلنا بالفندق الكبير الذي كان أكبر وأفضل فنادق العاصمة حينها، إلا أن حاله كان كحال المطار والشوارع والمباني والفقر الطافح على البشر ممن تقابلهم.. كانت الزيارة لبلد أحببته عن بعد، ولما اقتربت منه، عصرتني الحسرة على حال هذا البلد النفطي الغني! في المساء، حضرت المؤتمر الصحافي للساعدي.. وفي الصباح الباكر نهضت قبل أن تصحو الطيور، وغادرت طرابلس والمرارة في حلقي.. وإذا كان العجب في سؤال: كيف كانت ستُنظم ليبيا كأس العالم؟ فالسؤال الأعجب منه: كيف صبر الليبيون على حالهم لأكثر من 40 عاماً؟! وفي أغسطس 2003 التقيت الساعدي في مدينة بروجيا الإيطالية، حيث كان يستعد مع فريقها الذي يلعب له لانطلاق الدوري الإيطالي.. كان اللقاء لإجراء مقابلة صحفية اخترتها للعدد الأول من مجلة"سوبر"الإماراتية، المتوقفة الآن عن الصدور، وراهنت على الصفحة التي يمكن أن تثيرها المقابلة، وبالفعل كان رهاناً صائباً ومفاجأة صحفية مدوية، فالساعدي باح بما لم أكن أحلم كصحافي بسماعه، فكشف بتلقائية شديدة كيف أمضى ليلة الانتخابات الرئاسية للفيفا 2002 ساهراً حتى الفجر يستقبل في جناحه بفندق"لوتو"بالعاصمة الكورية سيول، والذي شهد الانتخابات، أعضاء الجمعية العمومية للفيفا، الذين كانوا يتوافدون على جناح الساعدي للحصول على ثلاثة أو أربعة أو خمسة آلاف دولار مقابل التصويت لبلاتر في اليوم التالي، وقال الساعدي بالحرف الواحد:"أمضينا الليل حتى الفجر شغالين على هذا الموضوع"! جاءت هذه القنبلة التي حملها كلام الساعدي من دون أن أسعى إليها، فقد قال ما قال حتى يجيب على سؤالي:"لماذا تقول أنك واثق من دعم بلاتر للملف الليبي التونسي"؟. أحدث نشر الحوار دوياً هائلاً في أروقة الاتحادات القارية وداخل بيت الفيفا على وجه الخصوص، ونال الساعدي بسببه توبيخاً مباشراً من بلاتر واستدعاءً رسمياً، وحمل ذلك تحولاً في موقف الساعدي تجاهي 180 درجة، فبعد أن اتصل بي الزميل العزيز حازم كاديكي، الذي قام بترتيب المقابلة في بروجيا التي حضرها أيضاً الصديق خالد بيومي، عقب نشرها مباشرة قائلاً:"المهندس بيشكرك جداً على الحوار.. ويطلب منك عشر نسخ إضافية من هذا العدد"! عاد كاديكي بعد أسبوع واتصل بي، وقد ظننت لأول وهلة عندما رأيت رقمه أنه يستعجل وصول الأعداد، لكنني فوجئت به يقول:"منك لله... الساعدي اتصل بي في السادسة صباح اليوم وقال لي بسببك: حازم مش عاوز أشوف وجهك مرة أخرى"! المرة الثالثة التي التقيت فيه الساعدي كانت عابرة في قاعة كوسال دي لوفر أثناء حفلة الفيفا بمئويته، وكانت فاترة إلى درجة أنني شعرت بالساعدي يصافحني مضطراً... في تلك المئوية، كرّم بلاتر كل من أعطوا وخدموا كرة القدم على مدار مائة عام... وأذكر أن على رأس من كرمهم بلاتر بالأوسمة، التريندادي جاك وارنر أحد رموز الفساد بالفيفا، والنيوزيلندي تشارلز ديمبسي الذي لا أتذكر له أي خدمة لأسرة كرة القدم سوى أنه امتنع عن التصويت في اقتراح البلد المنظم لمونديال 2006 ففازت ألمانيا على حساب جنوب أفريقيا. والساعدي اليوم يفي ضيافة الفجر لأسباب انسانية كما قالوا، وإن كنت أرى أنها لأسباب أخرى، سرعان ما تزول إذا ما نفد من الساعدي ماله، فسيتم حينها تسليمه إلى ليبيا. حينها أرجو من ثوار ليبيا ومجلسهم الانتقالي إذا ما سقط الساعدي في أيديهم ألا يفوتهم أن تشمل تحقيقاتهم وقائع ملف الفيفا... فقد يفعلوا ما لم يقدر عليه أحد في العالم حتى الآن، ولو حدث ذلك، فلا تتعجبوا إذا قرأتم خبراً يقول إن معبد الفيفا في زيوريخ انهار فوق رأس بلاتر جراء زلزال مركزه جنوب المتوسط في طرابلس الحرة... درجته تتراوح ما بين ثلاثة وأربعة وخمسة آلاف دولار...!! [email protected]