الواقعية الشعرية القريبة من قصيدة الهايكو اليابانية، هي ما يبحث عنه الفنان التشكيلي أسامة بعلبكي، ويتقصّاه ويرتحل الى فضاءاته كي يستنبط معالمه من مناخات الشعر التي تتبدى أول ما تتبدى في عنوان المعرض الذي يقيمه في غاليري أجيال،"أقل دخاناً أو أكثر". إذ يشير بأسلوب شعري عن دلالات الفحوى اللونية لألوان الدخان التي تطغى على طلاوة لوحاته التي يعترف بأنه ينشئها في سياق شبيه بالإنشاء الأدبي. في كتيب المعرض الذي يحتوي على مجموعة من القصائد المشفوعة بالحنين إلى ذاكرة الطفولة والمراهقة ورائحة الأم المفقودة، يتحدث عن الواقع كمضمار حقيقي للمستحيل والمجاني.."هكذا يتبدى الحضور الإنساني والمادي في لوحاتي: حضور الإنسان في عزلته الأبدية ومعايشته للمساحات الداخلية بكل ما فيها من أغراض ومناخات نفسية ومن أصوات وروائح وهمسات غامضة. إذ ذاك تغدو اللوحة منصة مسرحية لواقع متأرجح بين ما هو حقيقي وما هو زائف، فهي تنبع من الحدس وتوحي بأنها انبثقت من التعبير الاستعاري. يثير أسامة بعلبكي في أعماله 17 لوحة أكريليك على قماش الكثير من الجدل حيال الإمكانات الشعرية التي توحي بها أشكال الواقع الخاص والمغاير، الذي يعبر عن القلق وقضايا الوجود التي تلامس تداعيات العيش في مجتمعات مفتوحة على الحروب حيث علامات التموضع الإنساني والأشكال الجامدة للأشياء اليومية مجسدة في بنية مسرحية ما بين سكينة أزلية وحزن دفين يصل إلى صراخ مكتوم، مما يثير التساؤل حيال التصوير الذي يرتدي طابعاً أدبياً بكل ما يحمل من فائض هو من إسقاطات العواطف الرومانطيقية للشعراء المتوحدين، وتأثيراتها على صُوَرية الواقع. لذا يضاعف أسامة بعلبكي من ألغاز الواقع من خلال أجواء قاتمة وألوان رمادية داكنة أو سوداوية تعكس الأضواء الخافتة والظلال الكامدة وإيقاعات العجائن اللونية. تلك الإيقاعات توحي بزمن القلق والتطرف، زمن العيش على حافة الحياة حيث الأشياء ما هي إلا صور آتية من الفراغ ومرايا الضياع، مما يجعل الحسي واللامرئي حقيقة تقارب حدود الشعر. كما لو أن صورة الواقع تقوم على تعرية الأمكنة وتعرية أسلوب الحياة المعاشة، كي تُظهر العمق السيكولوجي لما تراه العين وهي تلحق بصوت القلب كي تجعل هذا الصوت المجبول بالحزن نغماً للعالم. من هذا المنطلق يركز أسامة بعلبكي في لوحاته على لحظوية المشهد وسكونيته، والمناخ الشعري المتأرجح ما بين الجلاء والخفاء، وما بين منطق الإيماء وأحاسيس الخوف من رموز الحرب وأدواتها. لذا يرسم المشهد من زاوية ذاتية كرؤية في وسعها أن تعبر عن سيرة جماعية من خلال رمز تعكس ذاكرة أزمات الحروب والانقسامات. نكتشف من بين هذه الرموز منظر الحافلة التي تذكر ببداية الأحداث الأليمة للحرب الأهلية اللبنانية، والأمكنة الخاوية، والسيارات المحطمة، وحوادث السير المميتة، التي أودت بحياة والدته التي قضت في حادثة مفجعة من جراء صدم سيارة. وقد يكون هذا الموضوع هو الأكثر إيلاماً وعمقاً، وهو بمثابة الجرح النازف الذي لم يندمل في ذاكرته ومشاعره. لذا تلاحق قصائده رائحة الأم بوجهها الغائب ورحيلها الذي لا يُصدّق. الشعور بالعزلة يتراءى في خلو المقعد الجلدي، وخرائب السيارات المعطلة كخردة مدمرة ومركونة في حقول النسيان، بكل ما تثيره من حزن هائل وتذكارات مفجعة ودموية. إلى ذلك يرسم أسامة بعلبكي أشكال الحجارة المشطوفة، وهي أدوات الإنسان الأول، فيعود إلى المظاهر البدائية لحقبات ما قبل التاريخ، كي يشير إلى الوسائل الأولى للقتل التي شكلت أسلحة للصيد والعيش والاستمرار. ويدمجها أحياناً في مكان واحد مع العبوات الحديد العملاقة للقذائف كأسلحة حديثة، ويقيم المقارنة بين وسائل التعامل البدائية جنباً إلى جنب مع أجهزة هواتف نقالة. هكذا يعيد إلى الأذهان حكايات الحروب في إيقاعاتها القديمة والمعاصرة والفتن وصراع الممالك وما خلّفته من عنف ودمار وويلات وخرائب. يتراءى المقعد الجلدي الرمادي اللون، في خلوه وتموضعه الكئيب أمام ناظريه مؤنسناً ولكن ضمن صيغة حديثة لموضوع الطبيعة الصامتة، في استعادة لواقع من عالم الشعر وأوهامه وخيالاته، لذا يشير في بعض المواضع إلى قول لنيتشه مفاده:"نمارس الفن لئلا نهلك في هذه الحياة". ويسعى لتفسير هذه المقولة من خلال إهداء لوحة للشاعر الفرنسي رينيه شار الذي رسمه جالساً متكئاً على حائط سور ينظر إلى السماء وعلى جبينه فراشة من ربيع خاطئ، مستسلماً لأوهامه، غير مكترث بالكلب الذي يترصده في أعلى السور. في تلك اللوحة يوحي بعلبكي أن الشاعر يضع وجوده مثله في هواء الحلم، وهو يواجه كل بؤس العالم وجحيم الحروب في بحثه الدؤوب عن الحرية. نشر في العدد: 16732 ت.م: 25-01-2009 ص: 27 ط: الرياض