نسمع كثيراً عن "جماعة الفارس الأزرق" التي أسسها كاندينسكي وفرانز مارك وآخرون عام 1911 في ميونيخ. من المهم تقريب المجهر على نقاط طليعية في هذه المدرسة، واستشرافها الا أن مستقبل الحداثة والمعاصرة في القرن العشرين. ورغم أنها لم تستمر اكثر من سنتين، إلا أن محاولة أقطابها خصوصاً كاندينسكي ومارك بناء نظرية نقدية - تربوية - فلسفية في الفن لا تقل أهمية عن نظائرها لدى"المستقبليين"في ميلانو أو"التصعيديين"في موسكو. ابتدأ هذا النشاط بنشر المراسلات المتبادلة بين كاندينسكي ومارك لكتشف من خلالها أسباب التسمية. يقول كاندينسكي:"نحن نحب اللون الأزرق، مارك يحب الأحصنة وأنا الفرسان". ويبدو أن الألمان لم يدركوا في البداية أهمية الرؤيوية الفكرية التي يحملها كاندينسكي معه من روسيا، وما تأسيسه"جماعة الفارس الأزرق"الا رد فعل على اختلافه مع الجمعية التي سبقتها، والتي منعت عرض لوحة له بدعوى كبر حجمها، ولكنه ابتداء من تأسيسه مدرسة"بلوروتير"الألمانية ونشاطه النظري فيها حتى بدأ الاعتراف بطليعيته، بل إن بعض النقاد يعتبرونه اليوم المنظّر الأول في القرن العشرين لمفهوم الحداثة ورأس حربة المعاصرة. يكشف كتاب كاندينسكي الذي ألّفه خلال نشاطه في المجموعة:"ما هو روحاني في الفن"الملامح الاستدلالية التي تتجه مباشرة الى جوهر الابداع وهو البعد الروحي أو السحري أو الحدسي الذي يدعوه ب"الضرورة الداخلية"، هو ما يتجاوز اللبوس التقني، ويرفع الحواجز بين أنواع الفنون والصناعات وبين أزمنة هذه الفنون وتباعد حضاراتها. ترسخت هذه الشمولية في النظرة الفنية بعد انتساب بول كلي الى المجموعة، وتوضحت"الضرورة الداخلية"بثيوصوفية العلاقة بين الألوان والنواظم الموسيقية، خصوصاً أن كلي كان محترفاً العزف على الكمان، كما كانت زوجة كاندينسكي محترفة في العزف على البيانو. هو ما يفسّر مقولة كاندينسكي:"سيأتي يوم قرب أم بعد تتحول فيه اللوحة الى نوطة موسيقية، ينفذها فريق عمل مثل الاوركسترا". ولم تتحقق هذه النبوءة الا على يد الجيل الثاني من مدرسة"الباوهاوس"، وهي المدرسة التي اجتمع فيها كاندينسكي وبول كلي كمدرّسَين بعد عشرين عاماً. يعلم الأول مادة الفسيفساء والثاني الزجاج المعشق. وهذه المدرسة ثمرة تربوية للأفكار التي طرحت في ساحة"الفارس الأزرق". بدأت الدعوة من منابرها ومحاضراتها ومختبراتها البحثية الى رفع الحدود بين الفن النخبوي والفن الشعبي، والمساواة وفق تعبيرهم بين الحفر الشعبي الروسي والتصوير على الزجاج أو النحت غير الأوروبي مع النقوش والاشارات الفرعونية وصولاً الى رسوم الأطفال. فكينونة المادة الابداعية بالنسبة اليهم تتجاوز اللبوس الفيزيائي مادة التعبير وتتجاوز بالتالي السلّم المألوف في أفضلية نوع من الفن على سواه، من هنا تبدو الدعوة الى وحدة الموسيقى مع التصوير. هو ما قاد المجموعة الى تقارب اسلوبي"برزخي"يقع بين التشخيص والتجريد. ولو تأملنا أعمال جاولنسكي لوجدنا أقنعته عبارة عن ذريعة لرصف مساحات لونية مسطحة ومشبعة بالصباغة بطريقة موسيقية ايقاعية - لحنية. ترسخت هذه الشمولية من خلال لقاح الحساسيتين التشكيليتين بين باريسوميونيخ، ليس فقط من خلال العروض المتبادلة أو المشتركة، وانما أيضاً من خلال التبشير ببعض المناهج الفرنسية من خلال تدريسها: فرانز مارك كان يعلّم اسرار فان غوغ، وكاندينسكي يحلل ألوان روبير دولونوي أو الغاز الجمركي هنري روسو، وعقد الروابط بين الوحشية اللونية الألمانية والوحشية اللونية الفرنسية، خصوصاً من خلال فلامينغ وبيكاسو لوحة بول كليه: تحية الى بيكاسو. لا يمكننا أن نتجاوز في هذا المقام عمق تأثير الفن الاسلامي أو الزخارف العربية، بخاصة من خلال أسفار كاندينسكي وماك وكليه الى تونس، واستمرت هذه التقاليد بعد استشهاد اثنين من اقطابها في الحرب الأولى وهما فرانز مارك وأوغست ماك، فأكمل كاندينسكي وكليه ما انقطع مع غيابهما.