الروائي العراقي فؤاد التكرلي 1927-2008 توفي الأحد الماضي في العاصمة الأردنية - محط غربته الأخير، بعد باريس وتونس ودمشق. صاحب"الرجع البعيد"تزامنت غربته الاجتماعية مع اغترابه النفسي والروحي، تزامناً لم يكن بمقدور إنسان حساس بتكوين التكرلي، أن يتحمله ويخرج معافى منه. إلاّ أنه مع ذلك، وعلى امتداد هذه العقود الثلاثة الأخيرة، كان يعاقر الداءين: الغربة المكانية، والاغتراب الذاتي، ويداويهما بالكتابة، إذ كتب في خلال هذه السنوات أكثر بكثير مما كتب في سنوات عمره السابقة. كان فؤاد التكرلي ثاني اثنين باشرا تجديداً حقيقياً في القصة العراقية القصيرة، وهما يوصفان معاً بالريادة. فعبد الملك نوري في"نشيد الأرض"، وفؤاد التكرلي في"الوجه الآخر"وضعا، مع بدايات خمسينات القرن العشرين، الأساس الفعلي، الفني والموضوعي لقصة عراقية قصيرة جديدة، ومجدّدة، اعتمدا فيها، كل على طريقته وبأسلوبه ومن خلال رؤيته العالم،"الاتجاه الواقعي". وطورا هذه الواقعية تطويراً حياً من خلال انفتاحهما على الأساليب الجديدة في الكتابة. التكرلي الذي عُرف قاصاً، بل بين أبرز رواد القصة القصيرة المجددة في عراق الخمسينات من القرن العشرين، ما لبث أن تحوّل الى الرواية جاعلاً منها الفن الأكثر حظوة باهتمامه الإبداعي. وكانت"الرجع البعيد"، روايته الأولى، خطوة فنية وإبداعية واثقة في المسار الذي اختار لعمله الإبداعي أن ينتظم فيه. ثم توالت من بعدها أعماله الروائية الأخرى:"خاتم الرمل"، وپ"المسرات والأوجاع"، وپ"اللاسؤال واللاجواب"... ليعود من بعدها الى فنّه الأول: القصة القصيرة، فيكون آخر ما صدر له منها، مطلع العام الحالي:"حديث الأشجار". غير أنه في أعماله هذه، كما في مسرحياته - لم تكن"شخصياته"ولا"الحدث"الذي تصنعه، أو تستقبل تداعياته، أو العالم الذي تجد نفسها محاطة باسقاطاته... لم تكن لتبتعد في شيء عن أرض الواقع، بل ظل"الواقع العراقي"بأزماته واختناقاته، وبانفجارات حياته السياسية والاجتماعية"مرجع"هذه الأعمال ومآلها، حيث الانشغال الذي لا انشغال من بعده: بالإنسان هموماً ومشكلات، وبدنيوية الحياة - وإن من موقف نخبوي، ونظرة كذلك.. فكان هناك الكثير مما يمكن وصفه بالإثراء المتبادل بينه، قاصاً وروائياً وكاتب مسرح، وبين واقع مجتمعه وحياة الإنسان فيه. فقد كان هذا المجتمع، على امتداد حياة الكاتب فيه مع الكتابة، عنصر إغناء لتجربته الإبداعية بوجوهها المتعددة. وإذا جاز القول إن البنية التي قدمتها أعمال التكرلي هذه، القصصية منها والروائية والمسرحية،"بنية عراقية"حدثاً وشخصيات ومشكلات إنسانية، فإن هذه"البنية"هي التي وجد فيها الكاتب تطابقاً بينه"ذاتاً"، بكل مكونات هذه الذات، وبين المجتمع وإنسانه. وقد تابع في ما كتب"تطورات"رؤيته التي ستتنامى حالات وأوضاعاً لتصبح، في مدياتها الأخيرة، تجسيداً لواقع يتراجع، وتعبيراً عن انكسارات ذاتية ونفسية تنطوي على النظير لانكسارات الواقع ذاته. وإذا كان الزمن ? كما يراه جورج لوكاش - هو صانع المفارقة اللاذعة العظيم.. فإنه، في بعده هذا، هو ما يتجلى في أعماله الأخيرة، بفعله المدمّر لكيان شخصياته، ولروحها- وهي تظهر في هزيعها الإنساني الأخير. وكما لعب الزمن أدواراً سلبية في حياة شخصياته، لعب الدور ذاته في حياة الكاتب، فأصبح، كما شخصياته، يعيش لحظة ذهول أمام ما يجري: له، وعلى أرض الواقع أمامه. ولكنه ظل، كما ظلت بعض شخصياته، في مركز الأشياء من نفسه، ليست لحظة الإدراك منه هي التي تحكم مساره الحياتي، بل ما يستطيع ان يدركه من الحياة، في حدودها الشخصية. وأصبح القلق هو ما يأخذ بيده، وقد تحوّل عنده الى قلق حياة من الحياة، فإذا هو قَلِقٌ على قَلَقٍ كأن الريح تحته - تماماً كما شعر"المتنبي"ذات يوم. فمن انتقال في المكان، ومن المكان، الى المكان... الى انتقال في الزمان من الزمان - الصحة، الى الزمان - المرض، فالغربة.. فالموت في الغربة.