استطاع المسلسل اللبناني"بين بيروتودبي"، كما يبدو، ان يستقطب نسبة جماهيرية كبيرة منذ الحلقة الأولى، والأهم، كما يبدو ايضاً، أنّه تمكّن من أن يحافظ على جمهوره، إذ كثيراً ما تفقد المسلسلات متابعيها مع تقدّم الحلقات إذا لم تكن متينة ومتراصّة. من ناحية السيناريو، نجح الكاتب جبران ضاهر في أن يُحافظ على إيقاعٍ جيّد، فتفادى منذ اللحظة الأولى التطويل والتمادي في الطّرق على نقطة واحدة. والأهم انه بعدما ظنّ المشاهدون في الحلقات الأولى حين اتضحت ملامح الشخصيات، أنّ المسلسل سيروي قصة ذلك الرجل المتزوّج من امرأتين، وأنّه سيحاول أن يحافظ على سرّه كي لا تكتشف إحدى زوجاته وجود الثانية، حتّى يُفتَضح أمره في الحلقة الأخيرة وينتهي أمره، سار المسلسل خلافاً للمتوقع، مدركاً انه لو كان الأمر هكذا لكان خسر أكثر من نصف متابعيه، خصوصاً مع اشتداد المنافسة بين الأعمال المحلية. لذلك، ما لفت الانتباه وأثار فضول المشاهدين هو أنّ الزوجة الثانية تعرف بوجود الأولى، والزوجة الأولى اكتشفت منذ البداية ما اعتبرته"خيانة"، إذاً كان من الطبيعي أن ينتظر الناس قائلين:"إن كانت هذه هي البداية، فماذا ستكون عليه النهاية؟". وهنا لا بد من التنويه بقدرة الكاتب الذي استطاع أن يجعل المشاهدين يطرحون هذا السؤال عند نهاية كلّ حلقة، إذ من الصعب جداً أن يتكهّن أحدهم كيف ستتابع الأحداث. ففي كلّ مرّة تبدأ الحبكة بالظهور وتنكشف خيوطها حتّى يضعها الكاتب جانباً ليبدأ حبكة جديدة على صعيد آخر، وهو أمر صعب خصوصاً مع الشخصيات الأساسية القليلة نسبياً التي لا تتعدّى عدد أصابع اليدين، ما يؤدي الى تغيّر مسار كل شخصية مرّات. ولكن ما يؤخَذ على ضاهر، وهو أمر يطاول غالبية كتّاب السيناريو في لبنان، هو هروبه من تسمية الأمور بأسمائها وعدم إطلاق أسماء على شخصياته توضح ديانتها، فكلّ الأسماء التي استعملها، هي أسماء تُطلَق عند مختلَف الديانات مثل: وليد، أمل، فاتن، غنوة، سامر، زياد... علماً أنّ القصّة تعالج تعدّد الزوجات وهو أمر مقبول شرعاً في الإسلام، والحبكة الأساسية هي في عدم إمكانية التبنّي، وهي مسألة محرّمة في الديانة الإسلامية، وإلاّ لما كان وليد سعد تزوّج ثانيةً بهدف الإنجاب، بل كان اكتفى بتبنّي ولد ليعيش مع زوجته أمل حياة هانئة. كلّ شيء في المسلسل يدلّ على البيئة الإسلامية، من المنطق العام في التصرّف إلى العادات والتقاليد فإلى بعض الكلمات مثل"الشرع"... كلّ شيء ما عدا الأسماء! قد يسأل بعضهم: ما ضرورتها ما دام الأمر واضحاً؟ والواقع ان ضرورتها ترتبط بمسألتين"الأوّلى أن يبدو العمل أكثر واقعية وأقرب إلى الحياة العادية، والثانية، وهي الأهم، أن يتحرّر الكتّاب في لبنان من"عقدة"أن لبنان بلد التعايش والطوائف المتعدّدة معتبرين أنّ الأسماء يجب ألاّ تميل إلى ناحية دون الأخرى، علماً أنّ اعتبار لبنان بلد التعايش يجب أن يكون المحفّز الأساس للأسماء المباشرة بدل اللف والدوران والتحايل لإيصال الفكرة من دون تسميتها مباشرة! على صعيد الإخراج، استطاع ميلاد أبي رعد أن ينقل صورة معبّرة تماماً عن الحوار بتقطيع جيّد وكادرات لافتة، خصوصاً تلك التي كانت تؤخذ من إحدى زوايا موقع التصوير حيث يضع مثلاً أحد التماثيل الذهبية في الأمام لنشاهد في الخلفية حديثاً عن الغِنى أو ما شابه، ولكن هذا الأمر تحوّل في بعض المشاهد إلى نقطة سلبية إذ كان يُستَعمل من دون هدف درامي واضح، فاقتصر الأمر على الناحية الجمالية التي لا تعود كذلك إذا تكرر الامر بكثرة. الإضاءة كانت لافتة وكذلك مواقع التصوير حيث تجلّت مظاهر الغنى لتعكس واقع الحياة الثرية التي تعيشها الشخصيات إن في لبنان أو في دبي. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن المشاهد في دبي صُوِّرَت فعلاً هناك بدلاً من اعتماد الإيحاء بأن الأحداث تجري في دبي في حين أنّ التصوير يتمّ في لبنان. أمّا طريقة"الفلاش باك"التي شاعت الاستعانة بها بكثرة في الآونة الأخيرة فلم تغب عن بال المخرج والكاتب في هذا العمل أيضاً، إذ استُعملت في كثير من المشاهد، وقد لا يمكن الحكم في شكلٍ قاطع إن كانت هذه نقطة سلبية أم إيجابية. فصحيح أنّ"الفلاش باك"الذي يذهب أحياناً إلى تكرار مشهد عرض في حلقة سابقة قد يؤثّر سلباً في المتابعين بانتظام كلّ الحلقات لأنّهم سيعيدون مشاهدة ما قد شاهدوه سابقاً، لكنّه سيفيد المشاهدين الذين غابوا عند عرض بعض الحلقات. أما في الأداء فتميز الممثلون بلعب شخصياتهم المركّبة، ففادي إبراهيم لعب بحرفية عالية دور"وليد سعد"الشخصية المركّبة من رجلٍ فقير يعجز عن مواجهة الأمور المادية على رغم تحلّيه بعزّة نفسٍ عالية، ومن رجل غنيّ همّه عائلته أو بالأحرى عائلتاه. وكذلك تميّزت كارمن لبّس بلعب شخصية"أمل"التي تتأرجح بين المرأة المجروحة القاسية التي تريد تدمير زوجها وبين المرأة الحنون التي تبكي ضعفها وتسارع إلى إنقاذ زوجها من أعمالها، كما تميّزت كريستين شويري بدور الزوجة المثالية التي تقف مع زوجها ضدّ أحاسيسها وكرامتها أحياناً، لكنّها لا تلبث أن تثور إن اقترب أحدهم من عائلتها... كلّ الشخصيات حملت في طيّاتها صراعات داخلية محبوكة بإتقان، ما سمح للممثلين بإظهار قدراتهم التمثيلية فتميّز كارلوس عازار وعصام الأشقر كما تميّزت نيللي معتوق وسمر جميل بدوريهما الأولين، إضافة إلى بقية الممثلين الذين استطاعوا بإطلالاتهم القليلة أن يضيفوا رونقاً إلى المسلسل مثل رندة كعدي ومي صايغ وطوني عيسى ووليد العلايلي وختام اللحّام وسميّة الشمالي وفرانسوا إبراهيم وناظم عيسى وفراس الحاضر وغيرهم. "بين بيروتودبي"استطاع أن يسجّل محطة بارزة في مسيرة الإنتاج الدرامي اللبناني، ولكن على آمل أن تكون حلقاته الأخيرة في مستوى الحلقات السابقة فلا تتسارع الأحداث وتظهر مفاجآت من أمكنة مجهولة لتعيد المياه إلى مجاريها، بل تأخذ الأحداث مجراها الطبيعي لتصل إلى"ما لا يتوقّعه أحد". نشر في العدد: 16702 ت.م: 26-12-2008 ص: 26 ط: الرياض