كان للعرب والمسلمين دور مهم في بناء الحضارة الإنسانية، وقد شهد بذلك علماء ومفكرو الغرب، وتشير الدراسات التاريخية الى أن العلماء والمفكرين العرب والمسلمين ساهموا في شكل كبير في تقدم كافة فروع العلوم من هندسة وطب ورياضيات وجغرافية وفلك، إضافة الى الفلسفة والمنطق والموسيقى. ويشار الى أن الحضارة العربية في الأندلس وصلت الى ذروة مجدها وعظمتها واتساعها، وصارت قبلة طالبي العلم والمعرفة والدراسة في وقت كانت فيه أوروبا غارقة في جهل مدقع وتخلف حضاري، وقد شهدت الأندلس تطوراً نوعياً في مجالات العلوم والفنون والآداب والدراسات المختلفة، وامتزجت ثقافات مختلفة في أرض خصبة في ظل لواء الإسلام فأثمرت ثقافات واسعة وفكراً متطوراً، ووصل العطاء الفكري الى ذروته في القرنين الثامن والتاسع الهجري. ومن الأعلام البارزين في تلك المرحلة ابن خلدون العالم والمؤرخ والفيلسوف، والذي اعتبره كبار رجال الغرب واضع أصول علم الاجتماع وفلسفة التاريخ. وتعتبر مقدمة ابن خلدون من ابرز مآثره الحضارية، وكانت بمثابة مؤشر مهم عند شعوب الغرب قبل الشرق ودلالة واضحة على عبقريته ودوره المهم في بناء الحضارة الإنسانية. وكان للعرب والمسلمين بصمة خاصة في الحضارة الإنسانية في مجال الجغرافية، فقبل نحو تسعمئة سنة وضع الشريف الإدريسي أقدم خريطة عالمية جغرافية عرفها التاريخ الإنساني، وقام بتأليف كتاب"نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"يشرح فيها الخريطة ونتائج بحثه، ليؤكد من خلالها بأن الأرض مكورة على شكل بيضة يحيط بها ماء عوضاً عن الاعتقاد بأنها كروية، الأمر الذي جعل العالم الألماني كونراد ميللر يؤكد أهمية خريطة الإدريسي ويعتبرها مرجعاً أساسياً لعلم الجغرافية. كما رفد العرب المسلمون الحضارة الإنسانية بمؤلفات قيمة في الموسيقى بلغ بعضها الذروة، ولا تزال من المصادر المحترمة جداً، ويعترف الباحث الغربي فارمر بأن علماء العرب لم يأخذوا بآراء الذين سبقوهم إلا بعد أن تبينوا وتمحصوا، وقد اعترف علماء الغرب بأن الفراهيدي والفارابي وابن سينا وغيرهم زادوا على الموسيقى اليونانية وادخلوا عليها تحسينات أساسية. وأكد الباحث الغربي سارطون"إن كتاب الموسيقى للفارابي هو أهم كتاب ظهر في الشرق يبحث في نظرية الموسيقى...". وأسهم العلماء والمفكرون العرب في تطور علوم الطب والكيمياء، حيث ترك ابن سينا ذخيرة كبيرة في هذا المجال، فكتاب"القانون في الطب"الذي ألفه ابن سينا يعتبر من أشهر الكتب التي تم تدريسها في الجامعات والكليات العالمية في منتصف القرن السابع عشر، حيث تضمن الكتاب المذكور اكتشاف ابن سينا الطفيلية في الإنسان والتي تسمى الآن الانكلستوما، وكذلك المرض الناشئ عنها المسمى بمرض الانكلستوما، وهذه العدوى تصيب الكثير من سكان العالم، وقد سمى ابن سينا هذه الطفيلية باسم الدودة المستديرة، ولابن سينا مؤلفات كثيرة في علوم الطب وغيرها من أهمها:"كتاب الشفاء"وكتاب"النجدة"وكتاب"الإرشادات والتنبيهات". ومن العلماء العرب المسلمين الذين ساهموا في تطور الطب على المستوى العالمي أبو بكر الرازي، الذي لقب بابي الطب العربي، ومؤلفاته في الطب اكثر من مؤلفاته في جميع فروع المعرفة، وبعد الطب تأتي مؤلفاته في الكيمياء من حيث الأهمية، واشهر كتبه الكيمياوية كتاب"سر الأسرار"الذي بقي مرجعاً أساسياً لمدة طويلة من الزمن. ولقد ألّف أبو بكر الرازي عدداً كبيراً من الكتب منها: 56 كتاباً في الطب، و33 كتاباً في العلوم الطبيعية، و8 كتب في المنطق، و10 كتب في الرياضيات، و17 كتاباً في الفلسفة، و6 كتب في علوم ما وراء الطبيعة، و13 كتاباً في الكيمياء، و10 كتب في مواضيع مختلفة. ومن العلماء العرب المسلمين الذين اسهموا في الحضارة الإنسانية الكندي الذي كان متعدد المواهب وموسوعي المعرفة، حيث كتبَ في الرياضيات والموسيقى وعلوم الطبيعة والطب والفلك والهندسة أيضاً. إضافة الى ذلك يعتبر جابر ابن حيان من أكثر العلماء المسلمين إنتاجاً للكتب ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة، وله كتب عدة خصوصاً في الكيمياء والمنطق والفلسفة، وقد خالف أرسطو في نظريته عن تكون الفلزات في باطن الأرض، وأكد على أهمية التجربة في الحياة العملية لما لها من فوائد عظيمة. وفي مجال الفلسفة يعتبر الغزالي من أهم أعلام المسلمين في هذا المجال، وهو مدافع صلب عن الإسلام بالحجة والبرهان، وصاحب خيال رائع بديع، ويعتبر من اعظم فلاسفة العرب، حيث قام بالبحث عن الحقيقة مبتدئاً بالشك حتى يصل الى اليقين، وتمت ترجمة الكثير من كتب الغزالي الى اللغتين الإنكليزية والفرنسية ومنها كتاب"مدخل السلوك الى منازل الملوك"، وكتاب"المقصد الأقصى"في شرح أسماء الله الحسنى، حيث كان يستشهد في كتاباته بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة. ومن فلسفة الغزالي أنه يؤكد بأن ليس في الوجود موجود حقيقي إلا الله وان كل ما سواه مستمد وجوده منه. ومن العلماء العرب المسلمين الذين اسهموا في مجال تطور الفلسفة الكندي الذي قال:"الفلسفة هي علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان، أي الجهد الذي يبذله الإنسان كيما تماثل أفعاله". كما قال عن الفلسفة إنها"صناعة الصناعات وحكمة الحكم". ولم يبخل علماء المسلمين في رفد علوم الطبيعة والرياضيات والبصريات والضوء بآثارهم العلمية، وتعتبر البصريات من عوامل تقدم الاختراع والاكتشاف، وان كثيراً من آلات البصر والكهرباء تعتمد في صناعتها على قوانين الضوء، وفي هذا السياق تشير الدراسات التاريخية الى ان كتاب"تراث الإسلام"يؤكد ما يأتي:"وصل علم الضوء الى أعلى درجة بفضل ابن الهيثم... وثبت ان العالم كبلر اخذ معلوماته في الضوء وبخاصة في ما يتعلق بانكساره في الجو من كتب ابن الهيثم". وقد ترك ابن الهيثم آثاراً كبيرة على مستوى الحضارة الإنسانية في طب العيون وعلوم الرياضيات والطبيعة وعلم البصريات، وقال العالم ماكس مايرهوف:"إن عظمة الابتكار الإسلامي تتجلى لنا في البصريات". وتبقى الإشارة الى أن العرب والمسلمين ساهموا في بناء الحضارة الإنسانية، من خلال مساهمتهم في تطور العلوم ومجالات الحياة المختلفة، فضلاً عن مساهمتهم في ابتكار أفضل الوسائل للتواصل الإنساني من أجل تطور الحضارة وصيرورتها. * كاتب فلسطيني مقيم في دمشق