يعيش اللبنانيون هذه الايام هاجس الحرب الأهلية بعدما ظنوا لوهلة أنهم نجحوا في تجاوزها. الجميع يخشى من الحرب الأهلية وهم محقون بخوفهم، لأنها إن وقعت لن تترك أحداً سالماً من شرها، ولا يمكن لأحد ان يدعي بعدها انه حقق نصراً. لكن الغريب في لبنان ان جميع الساسة يجمعون على النفور من الحرب وأنهم لن ينجروا ولن يدعوا أحداً يجرهم الى هذه المتاهة. زعيم"حزب الله"السيد حسن نصرالله ردد هذه المقولة مرات ومرات، وأكد ان"حزب الله"لن يوجه سلاحه الى الداخل. كذلك بقية الزعماء بدءاً بالحريري ومروراً بجعجع وانتهاء بجنبلاط، كلهم أصر على رفضه الحرب مهما كانت الأسباب. إذن لماذا الخوف من الحرب الاهلية؟ القضية ليست داخلية بحتة، ولا يمكن النظر للأزمة اللبنانية من منظار داخلي، بل هي ناتج دولي واقليمي اختلط به المحلي والتاريخي والسوسيولوجي، لتخرج معادلة مركبة بالغة في التعقيد. وقع وضع الشيخ صبحي الطفيلي، الأمين العام السابق ل"حزب الله"يده على الجرح عندما قال:"هل كل الذي يجري من أجل وزير؟"، بالطبع لا، فالقضية ليست وزيراً ولا حكومة وحدة وطنية، ما يحدث على ساحة لبنان قديم وجديد في الوقت ذاته. القديم هو ظاهرة المحاور التي يراها اللبنانيون أمام أعينهم حيث لكل فريق داعمه الخارجي، ولكل خارجي مؤيد له محلي يراعي رغباته ومتطلباته. فالمعادلة واضحة: ايران داعمة"حزب الله"وسورية داعمة بقوة لبقية المعارضة بدءاً بالبعث وانتهاء بالحزب القومي السوري. أما على الجهة الثانية، فإن قوى الرابع عشر من آذار تحظى بالدعم الدولي والاقليمي من الدول العربية المعتدلة. هذا القديم كان من السهل احتواؤه وصوغ معادلة ما لضمان وفاق قد يصمد أمام المتغيرات الآنية. لكن ما جعله عرضة للتأزم هو العامل الجديد والذي قلما أخذه الآخرون في الاعتبار أو أخضعوه للتمحيص والتدقيق. لقد ظهر على الساحة تيار شيعي لم يعد ينظر الى العالم نظرة غير عابئة لما يجري. بعبارة أخرى هذا التيار الجديد يشعر بأنه ليس بالإمكان التعبير عن نفسه إلا بفرض نفسه على الساحة، وحمل الآخرين على الاعتراف به مهما كان الثمن. بالطبع"حزب الله"يريد ان يظهر للعالم ان قضيته هي قضية بسيطة، حكومة وحدة وطنية تدير البلاد وتقلع الفساد. لكن ما لم يفصح عنه"حزب الله"هو السوسيولوجية الجديدة التي بدأت تتحكم به. لقد بدأ يرى نفسه حزباً أكبر من لبنان، وحزباً قادراً على فرض تسويات داخلية تسمح له بأن يكون لاعباً اقليمياً. وقد ساعدت حرب تموز يوليو الماضية على تعزيز هذا الشعور السوسيولوجي، ودفعت بقيادته وقاعدته الى الاقتناع بأن دوراً تاريخياً ينتظرهما. هذا الشعور له رافد أساسي مهم وهو الثقافة الشيعية القائمة على قيم المظلومية التاريخية. كثيرون يعتقدون ان"حزب الله"ينفذ سياسات سورية في لبنان، لكن واقع الأمر ان"حزب الله"بقدر ما هو قريب من سورية، بعيد عنها."حزب الله"يعرف خطوطه، ويدرك ان سورية هي الورقة التي يحتاجها لتأكيد دوره، ومن دونها قد يجد نفسه وحيداً في معادلة اقليمية قد تجعله مكشوف الظهر. فعلاقة"حزب الله"بسورية هي علاقة منفعية بحتة لا تقوم على أسس عقائدية أو رؤية استراتيجية طويلة المدى."حزب الله"يعرف ماذا تريد سورية! فهي ليست ضد اسرائيل في المطلق ولا تريد شن حرب غير قادرة عليها، ولا تفكر بذلك. و"حزب الله"يفكر بالمطلق ولا يخاف من حرب مهما كانت نتائجها ان كانت تصب في خانة الحق والباطل حسب مفهومه. لذلك فإن العلاقة ليست علاقة ثابتة. ولا يمكن بالتالي الرهان عليها كثيراً، لكن بالإمكان تلبية بعض الرغبات السورية، مقابل تلبية سورية رغبات"حزب الله". وما ينطبق على علاقة"حزب الله"بسورية ينطبق ايضاً على علاقة ايران بسورية. ولتتضح الصورة أكثر لا بد من فهم التشابك القائم بين طهران و"حزب الله". ف"حزب الله"لا تقوم علاقته مع ايران على نمط علاقات تقليدية على قاعدة تابع ومتبوع، انما على اساس علاقة تكاملية، فنصر"حزب الله"هي نصر لإيران، وحيازة ايران للسلاح النووي هو نصر ل"حزب الله"، الاثنان معاً يحاولان كبداية صوغ عالم جديد في الشرق الأوسط. فإيران لا تعادي اسرائيل من منطلق المنفعة الموقتة، انما تعاديها من باب القضية الكبرى التي ترى انها ضرورية لزعامة العالم الاسلامي الذي فقد بوصلته ولم تعد شعوبه تصدق أياً من القادة يتبعون. فعندما يهدد الرئيس الايراني احمدي نجاد اسرائيل بالدمار والخراب، تنشرح صدور الشعوب العربية، وعندما يدك"حزب الله"اسرائيل بالصواريخ وان كانت محدودة التأثير عسكرياً، ترتفع صور نصرالله وتهتف له القلوب. هذا هو المشروع الذي تريده ايران ومن ورائها"حزب الله". بعبارة أخرى، يريد"حزب الله"وملهمته ايران زعامة العالم الاسلامي وزرع ثقافة المنتصر، وصوغ التاريخ من جديد. من الصعب جداً على"حزب الله"وفق هذه المعادلة ان يدخل في صيغة لبنانية ما لم تكن له فيها اليد الطولى، وذلك كي تتسنى له متابعة رؤيته دونما عائق أو تصد من أحد. ف"حزب الله"لا يريد ان يدخل اللعبة السياسية في لبنان، لكنه أجبر عليها بعد خروج سورية التي كانت تضمن له الحماية مقابل امتناعه عن التدخل في سياستها اللبنانية الداخلية، ف"حزب الله"لن يقبل بتسليم السلاح الذي هو جزء كياني منه ولا يقبل بأن يساوم على قضية السلام مع اسرائيل. فالسلام بالنسبة إليه قضية سابقة لأوانها وبالنسبة الى ايران مسألة تعيق مشروعها الطموح. ومع شعور الحكومات العربية بالعجز أمام اسرائيل، وشعور ايران بالعلو، ومع قبول الحكومات العربية بالسلام، ورفض ايران ليس السلام، بل وجود اسرائيل، تصبح المعادلة معروفة وواضحة:"حزب الله"لن يقبل بأي تسوية، على رغم اصراره على تسوية سياسية، ما لم يحقق رؤيته الاستراتيجية في تلك التسوية. وهو إن قبلها مرحلياً، فإنها ستكون خاضعة للتعديل والتبديل وفق تغير المعطيات والظروف. هذا ما مارسه"حزب الله"وما زال يمارسه الآن تحت كثير من الشعارات والذرائع. انه باختصار يمارس سياسة نفعية بحتة بكل المقاييس تنصب كلها في إطار مشروعه الخاص. لا يمكن ل"حزب الله"ان يقبل ابداً بتسليم سلاحه ولا التسليم بمنطق الدولة ومبدأ احتكارها للقوة، ولا يقبل بحكومة تدار وفق تحالفات مدروسة تحرمه من منطق الفصل والرفض. ولذلك فإن مصير كل المبادرات العربية سيكون الفشل طالما ان القضية السوسيولوجية غائبة عن المناقشة. وبما ان العرب عاجزون عن مواجهة ايران أو لنقل غير راغبين بها، وبما ان الولاياتالمتحدة تجد صعوبة بالغة في مواجهة ايران وجها لوجه بعد حرب العراق، لم يبق من السهام في جعبة الاميركي سوى التضييق على المشروع الايراني ورفع وتيرة التوتر كي تستفز المنخرطين فيه وتدفعهم لاستجلاب العون من مخزون المظلومية، فينزل"حزب الله"مضطراً الى ساحة الصراع الطائفي، فتطحنه الحرب كما طحنت قبله العراق، فيهزل خطابه، وتضعف قوته، ويسهل أكله. هذا ما نعايشه في العراق وقد نراه لا سمح الله قريباً في لبنان. ان المستمع لخطاب"حزب الله"يدرك ان القيادة تعي هذا المطب، لكنها تنجر على أرض الواقع سواء بوعي أو لا وعي الى ما تحذر منه وتعتبره مؤامرة صهيونية. ايران و"حزب الله"قوتان قد تخدمان الاسلام والمسلمين والعرب ان عرفتا كيف توجهان سلاحهما، فلا العرب ضدهما ولا السنة يعادونهما، بل الجميع يريدونهما رديفاً، لكن عليهما وحدهما ان يعرفا مكمن الخطر، ويتجنبا الدخول مرة أخرى في دروب الدم كي لا يتكرر المشهد ثانية ويرقص الأعداء على اشلائنا. * مستشار اعلامي