لم يقتبس المخرج العراقي جواد الأسدي نصّ الشاعر الاسباني لوركا "بيت برنانردا ألبا" بل أعاد كتابته نصاً وعرضاً مشهدياً بعدما أمعن فيه تفكيكاً، حاذفاً منه مقاطع وشخصيات ومضيفاً اليه مقاطع وأبعاداً."البيت"الذي شاءه الشاعر القتيل رمزاً لپ"السجن"الذي وسمت به اسبانيا في عهد الديكتاتور فرانكو جعله الأسدي عبارة عن"بيت خراب"بحسب عبارة إليوت الأرض الخراب، بيت عراقي وعربي في آن واحد. ولعل المشهد المأسوي الأخير الذي أطلت النسوة الخمس من خلاله بملابسهن السود، بدا أشبه بپ"وقفة"على أطلال ذاك البيت، الذي دمرته مواقفهن المشبعة بالكراهية والحقد والثأر، علاوة على الحروب المعلنة في الخارج التي أتت نيرانها على الحقول والحدائق. ينجح جواد الأسدي دوماً في"استيحاء"النصوص العالمية وإعادة كتابتها حتى ليصبح وكأنه مؤلفها الثاني. هذا ما فعله سابقاً في نصوص لجان جينه وانطون تشيخوف واوغست سترندبرغ وسواهم. وعرضه المسرحي البديع"الاغتصاب"أثار حين تقديمه حفيظة صاحبه الكاتب سعدالله ونوس اقتبس نصه عن مسرحية لأنطونيو باييخو، نظراً الى"الخيانة"الجميلة التي مارسها الأسدي إزاء هذا النص الملتبس. في نص لوركا الذي أصبح"نساء السكسو... فون"مسرح بابل، بيروت حذف الأسدي ثلاثاً من الفتيات وأبقى على اثنتين هما أديلا وماغدولينا. برناردا ألبا نفسها جعلها مغنية أوبرا محافظاً على تسلطها وپ"ديكتاتوريتها". أديلا لم تنتحر كما في النص الأصلي وماغدولينا جعلها تقتل أباها عن غير قصد. الخادمتان اختصرهما في خادمة واحدة هي لابونتيا... لكنه لم يبدل الأسماء ودمج الفصحى بالعامية ساعياً الى ترسيخ أكثر من مستوى للّغة المسرحية تماشياً مع مستويات العرض المسرحي نفسه الذي تراوح بين الغروتسك أو التضخيم والبورلسك والأسلبة والواقعية والباروديا أو المحاكاة الساخرة التي لم ينج منها حتى الغناء الاوبرالي المزدوج ديو بين برناردا والخادمة. ونجح الأسدي في دمج الأنواع هذه مشهدياً جاعلاً من اللعبة المسرحية لعبة بصرية تهذي وتتفجر. إنها"خشبة"جواد الأسدي أولاً وأخيراً. سينوغرافيا بديعة بألوانها المتنافرة الأسود، الأحمر... وجداريتها التي وضعها الرسام العراقي جبر علوان الذي صمم أيضاً الديكتور والملابس. والنسوة اللواتي عُرف علوان بهن لم يغبن عن مخيلة الأسدي أديلا حين تتمدد بجسدها المتفجر على الطاولة أو على الكنبة وهن كنّ حاضرات في صالة المسرح عبر معرضٍ جميل، بأوضاعهن الجسدية والنفسية. وبدا المعرض مدخلاً الى المسرحية، مدخلاً جمالياً ودرامياً. شاء الأسدي خشبته أكثر من خشبة: عالم داخلي تفصله عن"معترك"النسوة ستارة من"نيلون"كأنها غشاء بكارة حيناً وراءها يكمن عالم اللاوعي الذي يتفجر حين تنفتح الستارة بعنف غالباً، أو كأنها تارة جدار تتعارك معه الفتاتان، جدار سجن هو البيت نفسه. واختلق الأسدي أيضاً خشبة هامشية او زاوية للجدة العجوز الخرقاء والمهلوسة التي أدى شخصيتها ببراعة الممثل رفعت طربيه موظفاً طاقاته خلف قناع تلك العجوز التي تعيش على حافة"الذكريات"والهواجس الجنسية. عالم داخلي، مغلق ومسوّر، تفجره النسوة المتشابهات، الأم والفتاتان والجدة والخادمة وكأنهن أمام مرايا ذواتهن وأجسادهن المقموعة. ضحايا وپ"جزارون"في وقت واحد، مسكونات بالكراهية والبغضاء، ينتظرن اللحظة التي تتيح لهن الانتقام من"الآخر"ومن أنفسهن، هن اللواتي وجدن في صورتهن صورة القامع نفسه. موت الزوج والأب لم يكن إلا موتاً للماضي السلبي: الزوجة برنردا التي تألمت لموته ظاهراً وجدت في هذا الموت متنفساً لها وراحة لن تطول كثيراً. لقد تحررت من هذا الجسد"المعطل"الذي مكث عشرة أعوام في فراش المرض وهي عشرة أعوام من الحرمان الجنسي. أما الابنتان فقد انتهتا عبر موته من فكرة"الأب"الغائب أصلاً وپ"الخائن"الذي لم يكن يبالي إلا بنفسه وهواياته وحياته الخاصة. حتى الخادمة لم تستطع أن تكن له المحبة، مثله مثل برناردا المتسلطة التي تعاملها باحتقار وقسوة لكونها الخادمة، على رغم انها كانت أداتها لتتسقط أخبار الابنتين، ولم تكن الخادمة تتوانى عن الوشاية بهما انتقاماً لنفسها. عالم من الكراهية والكبت والبغضاء المتبادلة تصنعه نسوة مكبوتات ومحرومات يسعين الى انتهاز الفرصة كي يقتلن بعهن بعضاً، كي يقتتلن ويدمرن حياتهن المدمرة أصلاً. هكذا ذهب جواد الأسدي بعيداً في رسم ملامح هذه النسوة، متخطياً الملامح التي كان رسمها لوركا، معتمداً القسوة واللاوعي والحوافز النفسية الخبيئة. برنردا ألبا، الأم القاسية تجد نفسها وحيدة، ليس بعد موت الزوج وإنما بعد تحررها منه. الحداد الذي تعلنه كأنما تعلنه على نفسها، هي مغنية الأوبرا التي لم تبق لها سوى الذكريات. تلجأ الى الغناء الأوبرالي والكنسي السرياني... وبعض الفلامنكو ظهر في البداية أيضاً بحثاً عن عزاء. تمارس على ابنتيها سطوتها تعويضاً عما فاتها، لكنها لا تتمكن من قتل ما بقي من حنان الأم. هنا تكمن قوة هذه الشخصية التي جسدتها بقوة ورقة في وقت واحد المغنية جاهدة وهبي التي كانت احدى مفاجآت العرض. الابنتان أو الاختان، أديلا ايفون الهاشم في إطلالة جميلة جداً وماغدولينا نادين جمعة في اداء قدير، تفيضان بالكره والبغض، تشي واحدتهما بالأخرى، وتغار واحدتهما من الأخرى، خصوصاً في ما يتعلق بالجنس وپ"رجل الاسطبل". فتاتان تعيشان بجسديهما المحرّقين الى الرغبة، بل بالأحرى بهواجسهما الجنسية وپ"الفانتسمات"المتفجرة. جسدان على حافة الانهيار، يحتاجان الى نار الرجل التي تشعل فيهما اللذة. جسدان متألمان من شدة الحرمان وسط هذا السجن، وسط هذه العزلة القاتلة. حتى الخادمة التي أدت دورها عايدة صبرا بمهارة فائقة مازجة بين التضخيم والأسلبة والسخرية، بدت تعيش هاجس الجنس، لكنها راحت، بخبثها كضحية، تذكّيه في الأخريات، لا سيما في برناردا ألبا، التي ذكرتها مرة بعجزها عن الاستمناء. ولم تنجُ الجدة بدورها من هذه الفانتسمات"التي باح بها جسدها العاجز. دخل جواد الأسدي أعماق هؤلاء النسوة ونفذ الى لاوعيهن وهواجسهن وأحوالهن الداخلية وفجّرها، فاذا بهن كتل من لحم ودم وشبق وحقد وبغضاء. يكرهن العالم البيت مثلما يكرهن صورهن، مثلما يكرهن بعضهن بعضاً، مثلما يكرهن فكرة الأب والأم والسلطة كيفما تجسدت. وعوض ان تنتحر اديلا تُجنّ، وهكذا شقيقتها. انها القسوة التي طالما انتهجها جواد الأسدي، القسوة التي لا تطهّر الذات إلا بالعنف الداخلي بالموت، القسوة التي تجيب على الأسئلة التي لا أجوبة لها، عبر إلغائها. وعندما تجد النسوة أنفسهن أمام لحظة الموت المجازي أو العزلة المطلقة يلجأن الى التداعي من خلال"المونولوغ"مواجهاتٍ أنفسهن بأنفسهن. الأم والابنتان والخادمة، جميعهن يلجأن الى"الاعتراف"، اعتراف ما قبل الموت، ما قبل الخراب الذي سيدمر البيت. ولعل أجمل"مونولوغ"هو الذي تبادلته ماغدولينا مع الخادمة، وقد غدا"مونولوغاً"بصوتين انطلاقاً من دفتر المذكرات الذي دونتها ماغدولينا. يجيد جواد الأسدي العمل على الممثل وكانه عماد اللعبة المسرحية. فالعرض هو عرض الممثلين مثلما هو قائم على السينوغرافيا والديكور والموسيقى والحوار... يعطي الأسدي الممثلين فرصة تحقيق ذواتهم انطلاقاً من الشخصيات التي يبنيها باحكام ومن العلاقات التي ينسجها بمتانة. يجد الممثل نفسه على خشبة الأسدي وجهاً لوجه أمام ذاته متجلية في ذات الشخصية التي يؤديها. هنا يصبح التمثيل بحسب الأسدي تجسيداً للذات الانسانية، بصراعها الداخلي وهواجسها وأحاسيسها العميقة. لكن التمثيل لن يخلو أيضاً من فن اللعب لا سيما في لحظات الهتك والسخرية والتضخيم. لم يكن من المفارق أن يحول جواد الأسدي"بيت برناردا ألبا"بيتاً عراقياً وعربياً وأن يدمره ويجعله أطلالاً، مغلّباً طابع التشاؤم على المصير أو المستقبل، فالمأساة التي عاشها ويعيشها كمواطن منفي ومقتلع تشهد على عمق التجربة التي يكابدها. والمهم أن"الخطاب"المأسوي هذا ابتعد كل البعد عن التفجع والمأسوية المباشرة والكربلائية العراقية من خلال اللعبة الدرامية الفاتنة التي أدتها هؤلاء النسوة ? الممثلات والتي توازت فيها السخرية العابثة والفجيعة الداخلية. انهن"نساء السكسو... فون"كما عبّر العنوان. وكلمةپ"السكسو..."ليست هي"الساكسو..."انها اللفظة الموسيقية المحرّفة بغية ان تشمل حال الجسد. انه العزف الموسيقي على مقام الجسد. وما أجمل هذا العزف حقاً.