ربما كان أحد الفوارق الأبرز بين المجتمعات الديناميكيّة والمجتمعات الراكدة الموقف من الهويّة. فالمجتمعات الأولى تصنع هويّتها يوميّاً، فيضاف اليها ويُنقص منها، فيما الثانية تمّت لها هويّتها واكتملت، لا يعدّلها تاريخ ولا يتدخّل فيها بشر وثقافات ومصالح وآراء. والولاياتالمتحدة، وهي أكثر مجتمعات العالم ديناميكيّة، تعاني اليوم هزّة تخترق هويّتها المعهودة التي رسمها حدثان تأسيسيّان كبيران: اعلان الاستقلال في 1776 لمجموعات مهاجرة أرادت أن تصير شعباً، وانتصارات حركة الحقوق المدنيّة في أواسط الستينات، وهي التي أدخلت الأفارقة الأميركان السود في متن الهويّة المستجدّة، والمتحوّلة دوماً، لسكان ذاك البلد. وأما الهزّة التي عبّرت عنها تظاهرة المليون ونيّف بمناسبة عيد العمّال، فتؤذن بالتحوّل حدثاً تأسيسياً ثالثاً يضع الهسبانيين اللاتين في المتن إيّاه. ذاك أن"يوماً من دون مهاجرين"، حسب التسمية التي أطلقها المتظاهرون على الاثنين الماضي، تبيّن أنه يوم لا يُعاش في أميركا. وهنا، لا بأس برصد بعض المقدّمات التصاعديّة كما عاشتها"أمّة المهاجرين"في العقود الأخيرة: ففي 1970، كان أقل من 10 ملايين من سكان الولاياتالمتحدة قد ولدوا خارجها، وبعد عشر سنوات ارتفع العدد الى ما يتجاوز ال14 مليوناً، فإلى 19 مليوناً في 1990، و31 مليوناً في 2000. وتبعاً لاحصاءات"مركز دراسات الهجرة"كما نقلها أندرو ستيفان في مجلّة"نيو ستايسمان"، انتقل الى الولاياتالمتحدة في السنوات الخمس الأخيرة 7.9 مليون انسان، وهي نسبة تفوق بمعدل ضعفين ونصف الضعف الهجرات الأوروبية المماثلة في القرن الماضي. لكن التغيّر الثاني المهم والذي يطرح أسئلة ثقافيّة تخالف تلك التي طرحتها الهجرات الأوروبيّة، ان 63 في المئة من الذين هاجروا، في 1970 مثلاً، ولدوا في أوروبا وكندا، فيما الأكثرية اليوم جاءت من البلدان اللاتينيّة في القارة الجنوبيّة، بحيث غدا سُبع الأميركان الحاليين هسباناً لاتينيين، قرابة أربعة أخماسهم مكسيكيون. وفي أميركا تتضافر حقيقتان مشجّعتان تنضافان الى طبيعة الأمّة ك"أمّة مهاجرين". فالكيلومتر المربّع الواحد يعيش فيه 30 شخصاً فقط قياساً ب243 في بلد كبريطانيا. ثم ان"الرأسماليّة التي لا تعرف حدوداً"، لا سيّما في ظل العولمة، عاصمتها الكونيّة أميركا. يتّضح هذا في حماسة بيل غيتس لتسهيل الهجرة من بلدان تملك خبرات في التقنيّات والاقتصادات الاتّصالية، لكن تعبيراته، في ما خص اللاتين تحديداً، تتجلّى في الفراغات التي تنتظر من يملأها في سوق العمل، كقطاعي المواصلات والبناء وتنظيف المنازل وقطف الفاكهة والعناية بالمُسنّين. وهو جميعاً ما يضعف تعبير"غير شرعيّ"في وصف المهاجرين غير الشرعيين 11.5 مليون نسمة الذين تلحّ الحاجة على جعلهم شرعيّين. ف"كلّ واحد، هنا، مهاجر، والأميركي الحقيقي الوحيد هو الهندي الأحمر"، على ما قال أحد المتظاهرين لوكالات الأنباء. وهذا التكوين التاريخيّ إنما يبثّ في المهاجرين الى أميركا، الدائمة التشكّل، شجاعة لا تتوافر في المهاجرين الى أوروبا التي تشكّلت قبل أن يفدوا اليها. فالهجرة غير الشرعيّة تبدو في القارة الأخيرة مصدر اصطدام بالنسق السائد، فيما هي، في"العالم الجديد"، بعض النسق السائد. غير ان إحقاق هذا الواقع ليس، في آخر المطاف، سهلاً. فقد سبق لصموئيل هنتنغتون أن مدّ"صراع الحضارات"الى المهاجرين اللاتينيين الكاثوليك، وأهم من ذلك تبنّي الكونغرس، العام الماضي، إجراءات صارمة صادق عليها مجلس النوّاب، تجرّم المهاجرين غير الشرعيين، كما تجرّم من يؤيهم ويعينهم، وتعالج المشكلة بتعزيز أمن الحدود. كذلك جُمّد العمل بلائحة كان توصّل اليها أعضاء من الحزبين في مجلس الشيوخ توفّر للمهاجرين غير الشرعيين ممرّاً الى المواطنيّة وبرنامجاً لتأهيل العمالة الأجنبيّة الوافدة. والحال أن حركة الحقوق المدنيّة استلزمت عشر سنوات ونيفاً كي تنتصر، ولم يكن انتصارها ليتحقق لولا وجود ادارة ليندون جونسون التقدميّة في البيت الأبيض. وهذا سبب اضافي يحمل على الجزم بأن الجمهوريين، وبوش في المسألة هذه ليس أسوأهم، آن لهم ان يرحلوا.