ما أن فرغ السودان من حرب الجنوب أو كاد حتى كانت حرب أخرى في دارفور فرضت نفسها لا على السودان وحده بل على القارة الإفريقية والمجتمع الدولي كله، حيث أصبحت منظمة الأممالمتحدةوالولاياتالمتحدة الأميركية والغرب عموماً والدول الإفريقية وخصوصاً دول الجوار منها أطرافاًً مشاركة في تطورات ما يجري على أرض أكبر الدول الإفريقية مساحة، أو على الأقل اصبحت تتابع باهتمام ما يحدث في إقليم دارفور. وأنا ممن يظنون أن الحديث عن المواجهات الإقليمية المتتالية في السودان يؤكد أنها ليست مجرد أزمات عابرة أو مواجهات بين تجمعات بشرية مختلفة في ذلك القطر الإفريقي العربي الكبير، فالمسألة أكبر من ذلك وأخطر لأنها في حقيقة الأمر تعبير عن صدام حقيقي بين من ينتمون لأصول عربية ومن ينتمون لجذور إفريقية حتى أن المواجهة أصبحت عرقية بالدرجة الأولى، ولذلك فإن الأمر على امتداد الساحة السودانية جد خطير وأوسع بكثير مما تبدو عليه النظرة الأولى، وسأحدد ملامح ما أريد قوله في هذه السطور من خلال محاور عشرة هي: أولاً: إن العديد من المواجهات العسكرية والقبلية في القارة الإفريقية تدعو إلى القلق وتثير المخاوف لأنها تؤدي غالباً إلى العنف المتصاعد الذي يكاد يصل إلى مستوى جريمة إبادة الجنس البشري Genocide ولعل في ما حدث في رواندا وبوروندي ومنطقة البحيرات العظمى خلال العقدين الأخيرين ما يقدم مؤشراً لهذه التوجهات الجديدة والخطيرة في ذات الوقت والتي باتت تهدد استقرار القارة التي تعاني من الفقر والمرض على نطاق واسع. ثانياً: إن الصراعات التي تشهدها إفريقيا تشير إلى حجم المشكلات الكامنة وراء النزاعات المختلفة حيث لا يوجد ضابط ولا رابط بين النعرات التي تنطلق منها وتتأسس عليها، كما أن الدراسات الانثروبوليجية تؤكد كذلك أن الحديث عن النقاء العرقي وهم كامل، فلا توجد دماء خالصة في عصور اختلط فيها البشر وتداخلت المجتمعات وانصهرت الثقافات وامتزجت الأسر والجماعات. ويجب ألا ننسى هنا أن ثلثي العرب هم أفارقة أيضاً يعيشون في تلك القارة التي استقبلت العرب المسلمين في أول هجرة على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حيث لقوا حفاوة نسبية من الأحباش وغيرهم مع سنوات فجر الإسلام. ثالثاً: إن السودان الأكبر مساحة في القارة كلها والذي يمتلك وفرة في المياه ويكاد يمتلك أيضاً وفرة من البترول ومشتقاته عرف حدوداً طويلة يشترك فيها مع عدد كبير من دول الجوار الإفريقي، ونحن نندهش كيف أن الخريطة التي رسمها الاستعمار البريطاني قبل أن يرحل بكل مخططاته وأهدافه بدأت تتعرض هي الأخرى للانقسامات على نحو يهدد السلامة الإقليمية ووحدة الأراضي لدولة مهمة بحجم السودان. رابعاً: إننا نعتقد أن المواجهة بين شمال السودان وجنوبه لن تضع أوزارها بالمعنى الكامل بل قد تظل حالة الانتظار والترقب لسنوات عدة، كما قد تكون نتائجها وخيمة على مستقبل السودان ودول الجوار أيضاً. ونحن ندعو إلى دراسة السوابق الدولية للاستفتاءات حول حق تقرير المصير والتي انتهت في معظمها الى انفصال أقاليم عن الدولة الأم والانسلاخ عنها، ونحن لا نعرف استثناءً لهذه الظاهرة في العصر الحديث إلا إقليم كيبيك الكندي الذي لم يتمكن الاستفتاء الشعبي حوله من تحقيق أهداف من دعوا إليه من غلاة المتشددين في انتمائهم للثقافة الفرنسية داخل الدولة الكندية، وهذا أمر يدعو إلى القلق على المستقبل القريب للسودان والمخاطر المحتملة أمام وحدة جنوبه وشماله. خامساً: إن أبناء الشمال السوداني المنتمين في أغلبهم لأصول عربية لا يدركون حجم المخاطر القادمة أو هم يشعرون أن وجود دولة عربية مسلمة في شمال السودان يكفي بديلاً للأوضاع غير المستقرة في السودان الكبير كله، وهذا تفكير خطير لأنه يعني الاستسلام لمنطق التجزئة ويغلب الرؤية الوقتية على غيرها من عناصر التماسك ومظاهر التعددية التي عرفها السودان قبل الاستقلال وبعده. ويدهشنا أن الشعب السوداني العظيم استطاع اسقاط نظامي إبراهيم عبود وجعفر النميري بأسلوب العصيان المدني الذي لا يزال يدرس في دوائر المعنيين بنظم الحكومات والحياة السياسية في الدول النامية. سادساً: إن حرب الشمال والجنوب في السودان كانت ولا تزال أخطر بكثير مما نظن، لأنها تشير إلى المواجهة الصامتة أحياناً والمتفجرة أحياناً أخرى بين الأصول العرقية، فهي مواجهة على خط التماس بين ما يسمى في السودان بالشمال العربي والجنوب الإفريقي، لذلك كان طبيعياً أن يتم تدويل الصراع وأن تدخل فيه أطراف كثيرة بدءاً من دول مجموعة"الإيغاد"مروراً بالدول الاسكندنافية وصولاً إلى الدول العربية والإفريقية ثم الولاياتالمتحدة الأميركية التي أرسلت هي وبريطانيا مبعوثين دائمين لهما الى الخرطوم لمتابعة مجريات الأمور والمشاركة في رسم خريطة المستقبل وفقاً للمصالح الغربية. وهنا يبدو دور كينيا على سبيل المثال دوراً ناشطاً أحياناً بينما يبدو الدور المصري بديلاً في أحياناً أخرى. ولكن مكمن الخطورة دائماً هو أن المواجهة تبدو عرقية على التخوم الجنوبية للحدود الفاصلة ثقافياً وحضارياً بين العرب والأفارقة، وهذه مأساة حقيقية لأنها تنقل الصراع إلى مرحلة خطيرة تكاد تهدد العلاقات بين من يجب أن ينتموا الى جبهة واحدة في مواجهة الفقر والتبعية والتخلف. سابعاً: إن مشكلة دارفور هي امتداد طبيعي للحرب العرقية في الجنوب والتي سبقتها بعشرات السنين، وتزداد خطورة الموقف إذا أدركنا أن الصراع الذي يدور هناك بين القبائل الرعوية المتحركة والقبائل الزراعية المستقرة هو مواجهة بين أطراف سودانية تشترك في الديانة الإسلامية وإن كانت تبحث في الاختلافات العرقية، لذلك فهي حرب تتميز بدخول المجتمع الدولي طرفاً مؤثراً فيها كما أن مستوى التصعيد الذي ارتبط بها يثير الجدل حول ذلك دور الحكومة الشرعية في الخرطوم والذي يعطي شبهة انحياز الى الأصول العربية في السودان الكبير منذ قيام"ثورة الإنقاذ"سنة 1989 وظهور توجهاتها الإسلامية التي لا نعترض عليها ولكننا نشير فقط إلى المخاوف والمحاذير المرتبطة بها، ولذلك جاء دور المجتمع الدولي منتقداً بل مهاجماً للنظام السوداني برمته وكانت مسألة دخول قوات للأمم المتحدة إلى دارفور هي قمة المواجهة الدولية الحادة، خصوصاً وأن المسألة أصبحت قضية كرامة قومية ومصلحة وطنية لدى الحكومة السودانية. ثامناً: إننا نظن ويشترك معنا في ذلك معظم المعنيين بالشأن السوداني أن الرواية لم تتم فصولاً فاحتمالات مماثلة لما جرى في جنوب السودان وغربه يمكن أن تتكرر غداً أو بعد غد في كردفان أو جبال النوبة أو غيرهما من الأقاليم التي عاش فيها السودانيون في إطار امتزاج حضاري وثقافي لقرون عديدة. وهنا تظهر المخاوف من المستقبل المجهول لدولة مؤثرة في قارتها الإفريقية ومنطقتها العربية على نحو يهدد بتحول السودان إلى دويلات تؤثر سلباً في استقرار القارة عموماً وأمن دول الجوار خصوصاً حيث أنها تعطي سابقة قابلة للتكرار في مناطق أخرى داخل السودان وخارجه. تاسعاً: لقد سمعنا وقرأنا في الشهور الأخيرة عن انتقادات حادة توجهها بعض القيادات الإفريقية للحكومة السودانية وتتهمها بارتكاب جرائم تصل إلى حد التطهير العرقي الذي أشرنا إليه، بل ويتجاوز البعض ذلك إلى توجيه اتهامات مباشرة لعدد من المطلوبين من المسؤولين السودانيين على نحو استفزازي أثار ردود فعل مستنكرة لما يمكن أن يحدث في هذا السياق. ولكن جوهر المشكلة يكمن في النزعة العنصرية الجديدة التي تفرق بين العرب والأفارقة في مخطط خبيث يبدو أنه حقق نجاحاً نسبياً أغرى بعض القيادات الإفريقية بإصدار تصريحات سلبية وبيانات عنصرية تجاوزت حدود الوضع في السودان إلى التذكير بما أسماه البعض بالدور التاريخي للعرب في أفريقيا وضرورة وضع حد له، بل إن المسألة برمتها أصبحت سجالاً بين من يؤمنون بوحدة السودان ومن يرفعون على الجانب الآخر شعارات معادية للأصول العربية ويتحدثون في سلبية واضحة عن الدور العربي في افريقيا، بل إن بعضهم بدأ يتخذ مواقف تراجعية عن دعم الحقوق العربية. عاشراً: إنني أدعو جامعة الدول العربية التي لعبت دوراً ناشطاً في المسألة السودانية أن تفتح جسور الاتصال مع الاتحاد الأفريقي لدعم أوجه التعاون وتعزيز قنوات التشاور بين الجانبين العربي والإفريقي في وقت نحن أحوج ما نكون فيه لذلك، فلا بد من التأكيد على العلاقات المتينة بين العرب والأفارقة والكف عن إثارة النعرات العرقية والنبش في الماضي بصورة لا تخدم أحداً، كما أن الحكومة الشرعية في الخرطوم تتحمل المسؤولية الأولى عن تهدئة الأوضاع واحتواء القوى والجماعات كافة في سودان يؤمن بالتعددية العرقية والدينية. إن خلاصة ما نريد قوله من هذه المحاور العشرة هو أن ندق ناقوس الخطر من تداعيات التطورات الجارية على أرض السودان، وحتى يكون ذلك بداية للمصالحة الحقيقية بين القوى المختلفة داخل الوطن السوداني عندما يسود مفهوم المواطنة الذي يساوي بين أبناء الوطن الواحد ويقاوم النعرات العرقية والنزعات الدينية ويتعامل مع الجميع في مساواة كاملة وانفتاح حقيقي ورؤية واضحة. * كاتب مصري.