لم يطل المناخ المتفائل بتشكيل حكومة الوحدة الوطنية، ولم تطل ايضاً تلك البشائر المفعمة بروح التفاؤل التي طغت على مختلف أوساط الشعب الفلسطيني الذي انتظر طويلاً مخرجاً من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي يعيش وكذلك من المصير المجهول التي آلت اليه القضية الفلسطينية وتراجع مكانتها على الاجندة الدولية والعربية، وتحولها من قضية حرية واستقلال وتقرير مصير للشعب الفلسطيني الرازح تحت نير الاحتلال الى قضية اغاثية وانسانية، كما هو حال العديد من بؤر التوتر في العالم من دارفور الى الصومال. مناخات التفاؤل التي عمت بعد الاعلان المشترك بين الرئيس محمود عباس ورئيس وزرائه اسماعيل هنية عن التوصل الى المحددات السياسية لبرنامج حكومة الوحدة الوطنية، وتداول اسماء معينة لوزارات محددة في بورصة التداول اليومي لتشكيل الحكومة المقبلة رفع من منسوب جدية قرب التوصل الى اتفاق نهائي على تشكيلة الحكومة، رغم التصريحات المتضاربة حول تشكيل الحكومة وطابعها سواء كانت حكومة ائتلاف وطني أو حكومة وحدة وطنية أم حكومة تشارك فيها قوى وكتل برلمانية وممثلو المجتمع المدني والأهلي والقطاع الخاص. وبصرف النظر عن تواتر اسهم الاسماء في البورصة اليومية، فإن ظلالاً من الشكوك راودت العديد ممن يتابعون الشأن الوطني العام انطلاقاً من ان ما تم التوصل اليه لا يعدو كونه خطوطاً عريضة لأسس برنامج في حاجة لترجمة عملية بصيغ أكثر وضوحاً وتفصيلاً، حتى تتحول الى برنامج سياسي يمكن الاستناد اليه لبناء حكومة وحدة وطنية تتجاوز الاشكاليات السابقة عند بدء حركة"حماس"مشاورات تشكيل حكومتها الحالية، وليس استجابة كما يدعي البعض للضغوط والاملاءات الاميركية - الاسرائيلية. ومن هنا فإن الحذر الذي ساد لدى أوساط سياسية عدة بعد ذلك الاعلان المبشر بالوصول الى المحددات السياسية لم يعن بأي حال من الأحوال تشكيكا في النيات بل كان قراءة لما يمكن ان يحصل في ضوء ان الوضع السياسي في اطار حركة"حماس"لم ينضج بعد لتلقي هذه الجرعة الكبيرة والقفزة النوعية في التحول بالموقف السياسي. لذلك كان التحذير من ان هناك جملة من المقومات لنجاح الاتفاق لم تتحقق بعد، وأولها الدخول في تفصيل ما تم الاتفاق عليه، وتحويله الى صيغ عملية وملموسة وواضحة لا تقبل لغة التعمية و"اللعم"، في وقت لم يعد بالامكان التلاعب بالألفاظ والكلمات حول جملة من القضايا التي أصبحت من بديهيات العمل السياسي، ولم يعد ايضاً التلطي وراء الشعارات الكبيرة والاختباء وراء اتهام الآخرين ممن يطالبون ببرنامج سياسي واقعاً مشتقاً من وثيقة الوفاق الوطني وكأنه دعوة للاعتراف بشرعية الاحتلال والتخلي عن الثوابت الوطنية، باعتبار ان هذه الثوابت هي حق حصري أو ماركة مسجلة لهذا الفصيل دون سواه من قوى العمل الوطني الفلسطيني. إن عدم النضج والاستعداد لتبني برنامج سياسي واقعي في اطار قيادة حركة"حماس"وتسارع التصريحات المتناقضة بعد ساعات قليلة من الإعلان عن التوصل الى ما سمي بالمحددات السياسية وتصاعد وتيرة تلك التصريحات كماً ونوعاً، وصولاً الى تصريحات رئيس الوزراء اسماعيل هنية"ان اتفاق المحددات، لا يعني الموافقة على الاتفاقات السابقة"، وتصريحات أخرى بعدم الموافقة على مبادرة السلام العربية، وغير ذلك من التصريحات المتناقضة والملتبسة حول تلك المحددات، والتي قادت الى جملة من المفاهيم الهلامية غير المحددة والمعروفة وخلقت حالة من البلبلة وعدم الوضوح، ليس فقط عند الرأي العام الفلسطيني بل عند القوى السياسية التي لم تطلع على فحوى الاتفاق المبرم ما بين حركتي"فتح"و"حماس". لكن الضرر الأكبر لحق بسمعة ومكانة الرئيس محمود عباس وهو يحاول تسويق فكرة حكومة الوحدة عربياً ودولياً على قاعدة الاتفاق السياسي، وقبيل توجهه الى الأممالمتحدة والتي من المفترض ان يتقدم الأشقاء العرب بمبادرة سياسية تجدد المبادرة العربية وتستند الى قرارات الشرعية الدولية وتلقي بتبعات مسؤوليات متابعة عملية السلام في أحضان مجلس الأمن والأممالمتحدة. في ظل هذا المناخ والتحضيرات التي واكبت وسبقت الوصول الى هذه المرحلة، خصوصاً مع دول الاتحاد الأوروبي، والذي كان بيانهم المشروط مؤشراً على عدم الثقة بأننا نسير باتجاه بلورة رؤية سياسية تستجيب لقرارات الشرعية الدولية وتفي بمتطلبات المجتمع الدولي، والتي من شأنها فك العزلة والحصار السياسي والاقتصادي عن الشعب الفلسطيني. ان جملة المواقف المعلنة التي استهدفت قواعد وجمهور حركة"حماس"لتطمينه بأن شيئاً لم يتغير على صعيد موقف الحركة السياسي قد فوت فرصة ثمينة أمام الشعب الفلسطيني لاستعادة زمام المبادرة لوضع قضيته على الأجندة السياسية الدولية، ومهما بدا خطاب الرئيس محمود عباس في جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة متسماً بالوضوح السياسي ولقاؤه مع الرئيس بوش ووزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، فإن افتقاده لورقة الموقف الموحد سياسياً على المستوى الداخلي يضعف من هذا الموقف ويقلل من قدرة تسويقه وقبوله دولياً كأساس مقبول لفك العزلة السياسية عن الشعب الفلسطيني. إن قرار تجميد العمل بإجراءات تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية كأجراء أولي اتخذه الرئيس لوقف بورصة المزايدة السياسية، ومحاولة تقديم رؤيته السياسية كرئيس منتخب للشعب الفلسطيني، ورئيس للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني هي محاولة أخيرة لانقاذ ما يمكن انقاذه في ذروة التحرك السياسي النشط والمحموم الذي عمل عليه الرئيس خلال الفترة الماضية، وما يمكن تحقيقه من تقدم في هذا المجال سيضع حقائق سياسية جديدة على الأرض ستجعل من العودة الى المربع الأول في المفاوضات، لتشكيل حكومة الوحدة الوطنية، أمراً غير واقعي اذا لم تأخذ هذه المستجدات في الاعتبار اولاً، واذا لم ترسم كل الاتفاقات والتفاهمات الداخلية المبرمة بصورة لا تقبل التأويل والاجتهاد أو التراجع والنكوص والارتداد. ان ازدواجية اللغة والمواقف السياسية التي تأخذ في الاعتبار المحددات التنظيمية والتوازنات الداخلية والارتباطات الاقليمية وتضعها كأولوية تسبق الأجندة الوطنية لن تبني سياسة مسؤولة عن شعب وقضية، بل ستقودهما الى مزيد من التخبط والخسائر والعزلة السياسية. ان مسؤولية المجتمع الفلسطيني وقواه السياسية الحية ومنظمات المجتمع الأهلي والمدني ومكونات الشعب الفلسطيني بمختلف أطيافه، تتزايد الآن بعد التجميد الذي أدى الى انهيار الرهانات السابقة للخروج من المأزق بتشكيل حكومة الوحدة الوطنية، وأن هذه المسؤولية تتطلب نقل الاتفاق على البرنامج السياسي ومحدداته من اطار الاتفاق الثنائي بين حركتي"فتح"و"حماس"الى اطار الاتفاق الوطني العام، وتحميل المسؤوليات عن التراجع والنكوص عما يتم الاتفاق عليه وطنياً، وليس تراشق التهم وتبادل تحميل المسؤوليات، كما ان هناك مسؤولية استثنائية أمام الرئيس وفي ضوء النتائج السياسية التي ستسفر عنها جولته في وضع الاطار السياسي لهذه الحكومة، استناداً للتوافق الوطني العام وإلزام من يشكل الحكومة القادمة به، باعتباره برنامجاً للإجماع الوطني حتى لو تطلب الأمر الدعوة لاستفتاء شعبي على هذا البرنامج. * كاتب فلسطيني