"حزب الله" ينظم مهرجان"الانتصار الالهي". الكتلة المتراصة من جمهوره، نواة المهرجان الصلبة، تستجيب للتعبئة المباشرة. بعضها يأتي مشياً على الاقدام كما في العراق، والآخر من خارج لبنان. الحماسة الفائقة، الدموع، الصراخ، حالات الإغماء. آيات الذكر الحكيم تُختار اختياراً بما يجمع"نصر الله"و"حزب الله". الراية المرفوعة ليست راية لبنان. علم لبنان يبدو يتيماً في هذا المهرجان. فالراية الكاسحة لكل الرايات راية"حزب الله"الصفراء: وفي عمق المعاني، التي يصعب اخفاؤها في الرموز،"النصر"عملياً، هو نصر"حزب الله"، لا"نصر"لبنان. وذلك على رغم"التنوع"الذي يشدّد عليه بحرقة خطيب المهرجان، حسن نصر الله. فالتنوع الذي يشير اليه هو تنوّع مؤيدي النظام السوري في لبنان. وهناك استثناءات قليلة جدا، ليست من هؤلاء. الباقي الاعم، خليط حزبي وطائفي، هو إرث النظام السوري، ويدور حتى الآن في الفلك الدمشقي. المهم ان هناك محاولة غير موفّقة لإغفال الجانب المذهبي الطاغي على احتفال النصر الالهي، وذلك بإسم"وحدة وطنية"مزعومة. ففي الوقائع الحية، كما في هوية خطيبها، وفي مضمون خطابه ومتنه، قدر لا بأس به من المهدوية، يتفاعل معه جمهوره ويفهمه. فقد اعتاد عليه في جلساته الحسينية التي أطّرها"حزب الله"بأفضل الاطر. جمهور يتحدّى الخوف، ويحضر هادراً للإلتفاف حول من لا يطاوعه قلبه ان يبقى تحت الارض"فهو مختفٍ، كالائمة المنتَظرَين. يلبّون الدعوة كمن يتمرّن على اليوم العظيم، يوم ظهور المهدي... ولا مانع عند بعضهم من تجاوز الانتظار، واسقاط صفة المهدي على بطل"النصر الالهي"... يأتون لحمايته بمعنى ما ايضاً. ليكونوا الدروع البشرية التي سوف تصدّ اسرائيل عن القيام بأية محاولة لإغتياله. بهؤلاء ينتصر"حزب الله". بالذين افتدوا حياتهم لحماية زعيمه. هم هم نفسهم كانوا"يوم كانت اسرائيل تقصف منصّات الصورايخ المزروعة في وسطهم، وهم موزعون وسط القرى والحقول، ها هم اليوم يحمون الزعيم بجموعهم. الإلحاح على التأكيد على الانتصار. لماذا؟ تتساءل. بعد إنتهاء المعارك منع نصر الله الدخول في"سجال"حول الحرب. لا يستطيع ايقاف السجال. حتى وسط الطائفة التي يهيمن عليها. مع ان جو البلد ملبّد بالاسئلة وكلها تدور حول الحرب التي اشعلها الحزب بنفسه، بإعتراف زعيمه. هو لم يتمكن من السكوت والإسكات. يصدّ الاسئلة بمجرد التأكيد انه"إنتصر". لكن الاهالي الاوفياء متأرجحون، خائفون، حائرون، مهاجرون... أيضاً، بالرغم من"إنتصارهم". يريدون ربما اكثر من التأكيد التلفزيوني. يريدون طقوساً، ومشهدية، يصنعونها بحضورهم. وهم مستعدون لتحدّي اسرائيل لو لزم الامر. يستجيب"حزب الله"لهذه الوثبة، بذكائه الجماهيري العارف. فيكون مهرجان"النصر الالهي""مشهد سماوي، هدير سماوي... وعندما يطلّ البطل، يرتفع عرشه نحو سماء أعلى. ماذا يقول لهم البطل؟ يمتدحهم بكل اوصاف التفضيل الممكنة،"أطهر"،"أشرف الناس"، بلغة متمرّسة في الديماغوجيا. ومنذ البداية، وكل حجة، كل اشارة، ولو بعيدة، دليل على انتصار الحزب. وخذْ على وصفات جاهزة لتحقيقه: النصر قرار صغير وإرادة، النصر ايمان وتنظيم، النصر 400 مليون دلو ماء يسكب على اسرائيل... ثم تأكيد وإعادة تأكيد:"زمن الهزائم ولى"،"جاء زمن الانتصار"، و"من يعتبر انه هو الذي هزم والذي سقط يتحدث عن الهزيمة""السخرية والاستخفاف بمن لا يقول بالانتصار. ثم يعلي من شأن الصحافة الاسرائيلية، مرجعيته لتأكيد"نصره""ولا يرى ذلك عائد اساسا الى تعلم اسرائيل من تجاربها. لأنها دولة، وديموقراطية، وإن كانت عنصرية وعدوانية. فيما جماعته هو جماعة مسلحة، ضاربة لحدود الدول والاوطان، وغير مسؤولة ولا معنية بالخرائب التي تتسبب بها، بدليل زعمها الانتصار. لذلك، لا يقدر نصر الله على تحمّل التشكيك بانتصاره، او باتهامه بارتباطات اقليمية خطيرة، سورية-ايرانية: هذا كلام"لا يتحمّله انبياء"... لا يحاسبه أحد من جماعته"حُرّم عليها ذلك. ولا يقبل بأن يحاسبه احد من غير جماعته. يستهزىء بالاسرائيليين لأنهم يراجعون افكارهم وخططهم، مع انهم مرجعه في تأكيد"نصره"... ثم يحرّم المراجعة. لماذا؟ سقوط اسطورة دولة اسرائيل التي لا تُقهر؟ حسنا. هذا باتَ معروفا. ولكن ايضا سقوط نظريات"حزب الله""الاستراتيجية"التي بهرت غير عقل. نظرية توازن الرعب مثلا، او نظرية السلاح لحماية لبنان وجنوبه من الاعتداءات الاسرائيلية. سلاح"حزب الله"دمر لبنان خصوصاً جنوبه، ولم يحمهما. والرعب لم يكن متوازنا على الاطلاق، على رغم ردود"حزب الله"بالصورايخ على اسرائيل التي كان نصف ضحاياها من عربها. النظريتان سقطتا طبعا في قانا والضاحية، كما سقطتا في الخيام وبنت جبيل. بل نصر الله يقولها في نفس خطاب النصر، وحرفياً:"في السابق اي قبل الحرب عندما كانت المقاومة على الحدود مع اسرائيل، اي جرافة تدخل ولو لعشرة امتار كانت تضرب وتهرب، الآن الحدود باتت مفتوحة يدخلون أي الاسرائيليين الى اي مكان يريدون". كان الجنوب محررا، وبفضل"المقاومة"عاد الآن محتلا... من اسرائيل ومن جيوش العالم! وكلهم يرفضهم"حزب الله". إنتصار؟ حسنا! أي انتصار؟ انتصار لمن؟ اذا كانت النظرية سقطت، فما الذي انتصر؟ السلاح طبعاً. سقطت نظرية"حزب الله"الاستراتيجية، لكنه احتفظ بسلاحه، الذي به يؤكد انتصاره، ويخيف ويملي غلبته على الاضعف تماما مثل الجيوش العربية المهزومة. ليس هذا فحسب"بل هو يريد فوق ذلك ان نعتبر"نصره"الذي يتلخص بسلاحه، هو نصر لكل لبنان، تحت رايته الصفراء. نصر لكل الأمم. لكل المستضعفين. هذا السلاح نفسه، المفرَّغ الآن من"نظريته الاستراتيجية"، يستقوي به"حزب الله"على الدولة، ويستفزها به: 20 الف صاروخ صار عنده، بالرغم من المعارك، بالرغم من القرارات الدولية والوطنية التي وقع عليها وزارؤه. وبالرغم من انه كان اثناء الحرب يلهث خلفها لوقف اطلاق النار، ويرجو منها ان تحقق قرارات غير مذلة بالمطلق... ها هو"الحزب"الآن، يعود امينه العام يلعب مع الدولة لعبة البيضة والدجاجة. يقول انه يريدها كاملة الاوصاف القوية، العادلة، النظيفة، شرطا ليلتحق بها"لكنه يمارس كل شيء من اجل ان تبقى ضعيفة. يريدها دولة أفلاطونية، اي صورة عنه، ليقبلها ويعيد السلاح اليها. أي يريدها دولته هو. فما من دولة بهذا الكمال الا دولته التي يراد ترسيخها بوصفها مسلحة ومشرعة على الصراع الاكبر... انها دولة مهدوية، مرجعيتها خامنئي. ساعتها، وساعتها فقط، يكون سلاح الدولة هو سلاح"حزب الله". الذكورية، الشعبوية، الصلف. الصفات الثلاث تنسج بقية خطاب"النصر الالهي". وككل منتصر عربي مستعجل، نراه يوزّع الاستخفاف والاحتقار على خصومه الذين لا يصدّقون الانتصار ولا يريدون بقاء سلاحه. لا يكتفي بالاستهزاء بدموع اتت من غير معسكره. وبإشارات مغرورة باليد الى مسؤولين رسميين من دول بعينها. بل يذهب أبعد: يصف لبنان ب"قوة عظمى"... فيما عشرات الدول تغيث تلامذته غير القادرين على دفع اقساطهم الزهيدة في المدارس الحكومية، ولا قرطاسيتهم. يعتز بأنه ليس ابن بيك ولن يكون. لكنه لا يعلم بأن كبار الشموليين ليسوا ابناء بكوات، بل من اصول متواضعة. و"الشمولية"صفة يستعيذ بالله منها نصر الله:"لسنا حزبا شمولياً ... ولا فئة شمولية". يريد نصر الله من حنبلاط ان يعتذر على قوله بأن جمهوره"لا يفكر". كما في قضية البابا الاخيرة وامثالها. يطلب من المرء الاعتذار عما يفكر به. وهذه موضة"صراع الحضارات". لكن الاهم من طلب الاعتذار هو التفكير نفسه. هل يفكر جمهور"حزب الله"؟ الجمهور الضيق، النواة، اولا. وقد تمت تعبئته على مدار السنوات بكل الغيبيات التي تمكن"حزب الله"من بسط سطوته الايديولوجية عليه. الآن الكارثة حلّت عليه. يرفض التفكير بها، يخاف التفكير بها. يفضل الاحضان الدافئة التي صنع"حزب الله"اطرها غير المرئية، مثلها تماما مثل الانفاق ومنصات الصواريخ. وقريبا من هذه النواة: اقرأوا ما يكتبه عقلانيون واذكياء من ابناء النخبة والقلم، المناصرون ل"حزب الله". الاولون،العقلانيون، اعلنوها صراحة، تخليهم عن عقلهم، لأنهم لو استعملوه، كما قالوا، فسوف يقفون مع العدوان. اما الاذكياء، فاستقالوا من ذكائهم مقابل ذكاء الغلبة. الاثنان ضجرا ربما من مغالبة الامل، فلجآ الى اصطياد الاوهام. فاذا كانت النخبة لا تخاف على عقلها من النسيان والهذيان، فما بالك بالجمهور العريض؟