يقف قارئ رواية"لا مصير"للكاتب المجري الحائز جائزة نوبل امري كيرتس حائراً ازاء قدرة المؤلف على اقامة مسافة موضوعية شبه تامة بين الحياة واللغة بحيث يصعب على هذا القارئ أن يتعامل مع الرواية المذكورة بصفتها سيرة ذاتية لكيرتس نفسه. فلقد جرت العادة أن يجيء أدب المعتقلات والسجون زاخراً بالعاطفة والمشاعر الجياشة والوصف الانفعالي المثقل بالايديولوجيا والمواقف السياسية الواضحة التي غالباً ما تكون رد فعل طبيعياً على الضغوط النفسية والجسدية القاسية التي يواجهها الانسان في تجربة الاعتقال. واذا كانت التجربة بحجم معتقل أوشفيتز النازي الذي عرف بالمحرقة تبعاً للطريقة التي قضى من خلالها ملايين اليهود وغيرهم من معارضي النازية خلال الحرب العالمية الثانية، فإن من الصعب أن تنجو اللغة الخارجة من ذلك الأتون من أثر العصبية والانفعال والتوتر الحاد. غير أن كيرتس الذي يروي على امتداد ما يقارب المئتين والخمسين صفحة تجربة الفتى جورج كفش في المعتقلات النازية قبل أن يكمل الخامسة عشرة من عمره يحرص كل الحرص على تنقية الرواية من أية شبهة عاطفية أو دعوية تتضمن معنى الادانة والاستنكار وتأجيج المشاعر الوطنية على رغم انه كان يقدم من خلال الرواية تجربته الشخصية بالذات. لهذا السبب، ربما، لم يتحمس المجريون كثيراً لرواية امري كيرتس المعنونة"لا مصير"، وفق ترجمة ثائر صالح الصادرة أخيراً عن دار المدى، أو"كائن بلا قدر"وفق ترجمة أخرى للرواية التي صدرت في طبعتها الأولى قبل ثلاثين عاماً. فهم كانوا ينتظرون من مواطنهم وابن جلدتهم الذي سيق الى المحرقة في أواخر الحرب العالمية الثانية أن يقدم مطالعة سياسية وانسانية بامتياز في ادانة الحكم النازي ومظالمه وفظاعاته وفي اظهار الصمود الاسطوري للمجريين المعتقلين بما هو إحدى المقدمات الضرورية للانتصار. على ان كيرتس يكتفي بدلاً من ذلك بكتابة رواية تسجيلية مفرطة في برودتها الحيادية ازاء الأحداث، لا بل أنه يذهب في ما يشبه الفانتازيا الساخرة الى الحديث عن الجانب الممتع والطريف من تجربة الاعتقال والذي يعطي بعد الانفصال عنه شعوراً غامراً بالسعادة أو الحنين الى بعض اللحظات التي عاشها المؤلف/ الراوي مع زملاء له تحول بعضهم الى أصدقاء حميمين. لم يبخل كيرتس على قرائه من ناحية ثانية في ذكر عشرات الوقائع والتفاصيل التي تشير الى عذاباته الشخصية حيث يتعرض بطله لاصابة في ساقه نتيجة الركل والمعاملة القاسية، كما يتعرض آخرون الى القتل والتشويه الجسدي والتنكيل المنظم. لكنه يضع كل ذلك في اطار النتيجة الطبيعية، بل والحتمية، لمنطق الحرب وظروف الاعتقال. وحين يخرج البطل من المعتقل في نهاية الرواية يرفض أن يعقد مع أحد الصحافيين الذين يقابلهم من طريق الصدفة أية صفقة مادية أو دعائية تتعلق باعتقاله. كما انه يرفض التهويل في وصف ما حدث ليس على طريقة روجيه غارودي وبعض الذين تحدثوا عن المغالاة في أرقام اليهود القتلى بل انسجاماً مع منطق الحرب ووقائعها وظروفها. فالمعتقلات لا تنشأ في الأساس بصفتها منتجات سياحية للترفيه عن الزبائن بل لغاية قهر العدو واذلاله من أجل كسب الحرب. يتقدم السرد بطيئاً ولولبياً الى حد الاملال في رواية"لا مصير". فاللغة باردة ودقيقة وخالية من الاثارة والعبارات تدور على نفسها كما لو أنها بهذه الاستدارة وحدها يمكن أن تنقل للقارئ كل تلك الأيام والساعات والثواني التي تمر ثقيلة وبطيئة على الراوي المراهق. ومع ذلك فإنه في أشد اللحظات حرجاً ينبثق بحسب المؤلف ضوء انساني دافئ يمكن أن يأتي أحياناً من ناحية الضحايا كما يمكن أن يأتي أحياناً أخرى من ناحية الجلادين. لذلك فإن المؤلف/ الراوي يرفض أن يستجيب رغبة الصحافي، الذي أراد أن يستثمر تجربته، باطلاق صفة الجحيم على المعتقل."أنا أستطيع تخيل معسكر الاعتقال فحسب، لأنني أعرفه الى درجة ما، أما جهنم فلا أعرفها"يقول كيرتس في أحد فصول الرواية. الأمران الآخران اللذان تعرض لهما الرواية يتصلان بمسألة العلاقة بين الحرية والمصير من جهة وبمسألة النسيان والبدء من جديد من جهة أخرى. في الاطار الأول يذهب كيرتس الى ان الانسان بحد ذاته هو مصير نفسه، اذ"لو كان هناك مصير فالحرية غير ممكنة، ولو كانت هناك حرية فلا يوجد مصير"، على حد تعبير المؤلف الذي يبدو وكأنه يرد ضمنياً على أتباع الحرية والقدرية في آن واحد. أما في الاطار الثاني فيذهب المؤلف الى عدم قدرة الانسان على البدء من جديد، لأن الحياة تواصل واستمرار وليست ثوباً يمكن أن نخلعه بسهولة، كما لا يمكن أن نعطي الذاكرة أوامر الزامية بالنسيان. واذا كان المجريون نظروا الى آراء مواطنهم اللافتة والمحيرة بعين التوجس والريبة، فإن من الطبيعي أن يتعامل الألمان مع هذه الآراء بالكثير من الدهشة والترحيب. اذ لعله لم يحدث من قبل أن تعامل أحد مع المحرقة النازية بهذه الرؤية وذلك المنطق المواربين واللذين يخففان عنهم الكثير من عقد الذنب وتبكيت الذات، حتى ولو لم يكن كيرتس قد وضع هذه المسألة نصب عينيه.