يواصل الحبيب السالمي مغامرته الروائية وفق كتابة تتحيز للاقتصاد في اللغة والابتعاد عن الترهل البلاغي والاعتماد على الوصف البصري وتوفير الحبكة المحتضنة لأحداث النص. وهو في رواياته، وفيّ لهذا الاتجاه سواء استوحى فضاءات المهجر الفرنسي حيث يعيش منذ عقود او استحضر ذاكرة وطنه التونسي الذي أمده بشخوص متميزة في سحناتها وسلوكاتها وعلائقها بالعالم الخارجي... في رواية"أسرار عبدالله"دار الآداب، تعطي الأسبقية للوصف وتمثيل المشاهد من منظور فينومينولوجي يتحاشى التحليل البسيكولوجي للشخصيات ويعطي الاسبقية للسلوكات والعالم الخارجي على الذات واستبطاناتها. ويتولى السرد سارد عليم يتقمّص موقعي كلّ من الزوج عبدالله وزوجته الشابة خديجة. الا ان التبئير يظل أقرب الى وجهة نظر عبدالله المتحكم في اسراره التي تكوّن حبكة الرواية. وهو دركي متقاعد، عمل مع الفرنسيين خلال الفترة الاستعمارية واستفاد من وظيفته فاشترى قطعاً أرضية وأملاكاً عقارية، وطلّق زوجته الأولى دادا العكري التي أنجب منها ابنته زهرة المتزوجة ثم تزوج خديجة التي تصغره كثيراً وولدت له مصطفى. وهذه الاسرة المقسومة تعيش في قرية"العلا"، ويفصل سياج بين البيت الكبير الذي يسكنه عبدالله مع زوجته الجديدة، والبيت القديم الذي تسكنه العكري مع ابنتها زهرة وزوجها محمود وطفلهما الصغير. ويمضي عبدالله وقتاً طويلاً كل صباح، في التلصص على زوجته السابقة وابنته وزوجها محتمياً بسياج الصبار الذي يجعله يتابع حركاتهم من دون ان يروه. وما يتبقى له من الوقت يقضيه بين السوق والأكل ومضاجعة خديجة والاختلاء بوثائق أملاكه وتلقين محتوياتها لخديجة التي تجهل القراءة والكتابة... هذا الايقاع اليومي للحياة لا يكاد يتغير الا يوم عيد الأضحى حيث يحرص عبدالله على ذبح خروفين يوزع لحمهما على الزوار الوافدين من دوارة والدواوير المجاورة ليستمتعوا بجلسة العيد وينالوا نصيبهم من الصدقة:"يجول عبدالله بنظره في حشد الرجال الذي يحيط به من كل جانب، ليفرح ويحس بالاعتزاز. لقد كان دائماً يحلم بذلك. يحب ان يرى الآخرين يتجمعون حوله. يدينون له بشيء ما. يطيعونه". ص50. وزوجته الشابة هي الأكثر حرصاً على طاعته، فقد رضي عبدالله، الغني، ذو النفوذ والسلطة، ان يتزوجها هي الفقيرة التي كانت تعيش في شظف مع أسرتها. هي تطيعه وتخافه وتمتثل لاوامره حتى تلك المتصلة بمنعها من شرب الشاي:"... اذ انه يعتقد ان المرأة الصالحة التي يعول عليها حقاً لا يليق بها بتاتاً ان تشرب الشاي وأن تمضغ اللبان او تضحك كثيراً أو تتكلم بصوت عال امام الرجال خصوصاً اذا كانت في سنها". ص7. يتم السرد، غالباً، عبر فعل المضارع الذي ينقل أفعالاً ومشاهد وعلائق تجري في حاضر متكرر، متشابه، يغدو وكأنه ماض يستعاد من خلال طقوس ثلاثة: التلصص على بيت ابنته، استعراض مستندات ووثائق أملاكه، التردد على السوق واستطلاع الأخبار، لكن خبراً يبلغ سمع عبدالله يبدد طمأنينته ونظام عيشه: هناك"عصابة الغرابة"التي تغتال الأعيان في القرى المجاورة ومعظمهم كانوا يعملون مع الادارة الفرنسية. يحتاط عبدالله فيُخرج بندقيته القديمة ويهيئها للدفاع عن النفس من دون ان يُشرك زوجته خديجة. يطالع وجوه الناس في السوق ويستشعر كأنما هم ينتظرون حلول دوره لتغتاله العصابة في الاثناء، وخلال ساعات الأرق التي تحاصره، يستعيد عبدالله لحظات من حياته ويحن الى استرجاع زوجته الأولة"العكري"التي لم تكن تخشاه وكانت قوية الشخصية، ومعها كان يستطيع ان يفضي لها بخوفه وأن يستعدا لمواجهة الخطر. يقرر ان يفاتحها في الموضوع ويأخذ في ترتيب الخطوات، الا ان الموت يكون له بالمرصاد، ليس على يد العصابة وانما نتيجة أزمة قلبية! هذه النهاية غير المتوقعة، تجعل الرواية تبدو أشبه بعالم مغلق يتحرك داخله عبدالله حاملاً هواجسه ورغائبه وحرصه على أملاكه، ومعه خديجة بوعيها"التابع"والتي لا تقدر على الافصاح عن رغباتها المكتومة، والطفل مصطفى الذي لا نسمع صوته ولا نشاهد نزواته. ما نقرأه، يحيلنا على نوع من الوعي المحدود في اهتمامات عبدالله اليومية وحرصه على البقاء متحكماً في زوجته الخاضعة لسطوته. وعندما يحضر العالم الخارجي فإنما يتم ذلك بطريقة خطاطية مناسبة عيد الأضحى، زيارة السوق، متابعة أخبار عصابة الغرابة.... من ثم، يبدو عالم الرواية التخييلي جد خاص، وكأنه قائم بذاته، معزول عما حوله، أي عن الجدلية التي تؤثر في الوعي والمواقف وردود الفعل. كذلك، تبدو الشخوص سجينة تصرفات وعادات، مستسلمة لماض متكرر يحول بينها وبين استحضار المستقبل. انه عالم يحكمه منطق صارم والانسان داخله مرهون لقوى عليا، متعالية تعرب عن نفسها في شكل موت مفاجئ، كأنما تدخل الموت هو ما يحرر ذلك العالم المغلق الذي يمارس داخله عبدالله سلطته على خديجة ويستسلم لاستيهاماته المتصلة بزوجته الأولى وببنت صلوحة الجميلة التي كان يتمنى ان يتزوجها هي الاخرى... من هذا المنظور، تتسم قراءة"أسرار عبدالله"بنوع من التماسك المنسجم مع الكتابة الفينومينولوجية التي تسلط الضوء على الافعال والسلوكات والفضاءات. لكن، اذا أعدنا قراءة"أسرار عبدالله"من زاوية المتلقي الذي لا يكتفي باستبطان نيات الكاتب ومنطوقات النص، بل يسعى الى تأويل الرواية من وجهة نظره كقارئ يبحث عن دلالات اضافية ورؤية مقارنة، فإننا سنجد ان النص مسرف في الانغلاق والتباعد عن العالم الخارجي الضاج بالاحداث والتساؤلات والتبدلات. وأظن ان هذا الانطباع الذي تكوّن لدي، يعود الى ان أفق المستقبل داخل النص، يبدو غائباً، وعندما يحضر فإنما يتم ذلك في شكل موت، أي فعل"يعدم"ما سبقه ولا يوحي بأي صورة لاستمرار الحياة، وكأن الامر يتعلق بحيوات منتهية، منذ البدء، ما دامت مشدودة الى مصير عبدالله الذي طارده ماضيه وانتهت رحلته بطريقة عبثية. وهذا الشكل الروائي يحيلنا على البعد الميتافيزيقي الكامن وراءه، أي يحيلنا على دائرة الزمن المغلقة التي لا تُدخل المستقبل في الاعتبار. بعبارة ثانية، فإن"أسرار عبدالله"تنجح في ان تنقلنا الى عالم تخييلي يستمد مشاهده ومكوناته من الذاكرة والمعاينة، لكننا -ونحن داخل هذا العالم - نسأل: هل يمكن ان يقتصر التخييل على كتابة ترسم ألبومات تمتح من الذاكرة ومن مخزونات البصر من دون اقامة علاقة بين النص التخييلي وما حوله من تاريخ وعوالم راهنة وأسئلة تتعدى نطاق التمثيلية المحددة للرواية. بتعبير آخر، نتساءل عن صوت الروائي وعن الايحاءات التي تشير الى رؤيته الخاصة عن هذا العالم التخييلي المبتدع؟ أرى ان حرص الكاتب على التباعد والتواري خلف شخصياته، والاعتماد على التمثيل"الموضوعي"لمكونات الحبكة وشخوصها، يجعلني احس كأنه لا يريد ان يفتح أبواباً للدلالة تربط النص برؤيته الى العالم وتفتحه على تأويلات اخرى محتملة لدى القارئ. من ثم، اذا اكتفينا بالقراءة التي يتيحها تركيب النص، فإننا سننتهي الى القول إن"أسرار عبدالله"تؤكد على رؤية تندرج ضمن منظور ترانساتدانتالي يبرهن حرية الانسان لقوى علوية، خارجية هي، هنا، القدر أو الموت. وهذه القوى تتحكم في مصير الشخصيات الروائية وتجعل حياتها مكرورة، بلا معنى، لأن الحاضر يستعيد الماضي والقدر يتكفل بالمستقبل فيعدمه بالموت بعيداً من اختيارات الوعي ومناهضته لما هو قائم. أعتقد بأن معضلة كل نص روائي تتمثل، قبل كل شيء، في وعي الكاتب بمفهوم الزمن داخل الكون التخييلي الذي يبتدعه. ذلك ان العالم الروائي، مهما استقل وتمايز عن العالم الخارجي، فإنه يحيل عليه ويتيح المقارنة والمساءلة على ضوئه. ومشكلة الزمن بابعاده الثلاثة تنعكس على الدلالات التي قد يتخذها التاريخ والذاكرة والتخييل داخل النص الروائي. ولا يتعلق الأمر هنا، بافتراض علاقة ايجابية او انفتاح مصطنع على المستقبل، بل المقصود هو استحضار الزمن في وتجلياته الجزئية كذلك تمايز اللغة وتعددية مستوياتها وأصواتها، التفاعل مع الاحداث المؤثرة في مجرى الزمن، صوت الذات الذي يخلخل"موضوعية"الوصف وقوانين المؤسسة.... في"أسرار عبدالله"، نجد دينامية داخلية تقيم دعائم الحبكة والوصف والتشويق وخصوصية الفضاء والشخوص في تضافر محكم، لكن ما أفتقده نتيجة العلاقة مع الزمن التي أشرت اليها، هو قدرة النص على"الانقذاف الخارجي"ريكو الذي يجعل الرواية تنقذف خارج ذاتها لتولد عالماً يكسر حدود التخييل الأولى ويربطه بدلالات وأسئلة أخرى تعمق مسألة الوعي والحرية في السياق الراهن.