هل كان أحد يتوقع من الرئيس الايراني ان يقدم هدية مجانية للولايات المتحدة واسرائيل؟ طبعاً لا، لكن محمد أحمدي نجاد لم يفوت فرصة اعتلاء منبر الأممالمتحدة بل انتهزها لاستدراج مزيد من العروض للدول كافة كي تساهم وتستثمر في تخصيب اليورانيوم الايراني. ولعله لم يفعل سوى استعارة الأساليب التجارية الأميركية والاسرائيلية، رغم ان دعوته شكلت تحدياً واضحاً للاستهداف الذي تتعرض له ايران. وهكذا أسدل الستار على القمة العالمية على وقع التهديدات الأميركية بلسان كوندوليزا رايس، والتحديات الايرانية بلسان أحمدي نجاد. وبالتالي عاد قادة العالم الى بلدانهم متيقنين بأن الأزمة الايرانية هي المقلب الثاني للأزمة العراقية الراهنة. ولا يبدو أحد مقتنعاً بأن"الوسائل الديبلوماسية"التي اشارت اليها رايس هي التي ستأتي بالحل، فبين المطالب الاميركية والاسرائيلية وبين ما تعتبره ايران حقوقها فجوة واسعة اخفقت الجهود الأوروبية حتى الآن في ردمها. أكثر من ذلك، تتجه ايران احمدي نجاد بقوة الى تغيير قواعد اللعبة، ومن الواضح انها ترغب في توسيع حلقة التفاوض وعدم قصرها على الاوروبيين، وان كانت مستعدة موقتاً لمواصلة المحادثات مع"الترويكا"الأوروبية. لكن هذه"الترويكا"تتحرك في النطاق الضيق الذي حددته الولاياتالمتحدة واسرائيل، وفي هذه الحال قد ترعى طهران ان التحادث المباشر مع الاميركيين هو الأنجع، إذا قرروا التخلي عن الواسطة الأوروبية للدخول مباشرة على الخط. أما اذا استمروا في المنهج نفسه فإن ايران تدعو الى مفاوضات اكثر شمولاً لتضم روسيا والصين والهند وجنوب افريقيا. كان الرئيس جورج بوش أقر في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بأن لايران الحق في امتلاك طاقة نووية للاغراض السلمية، والارجح ان الدول الأخرى التي ترشحها طهران للمشاركة في المفاوضات تؤيد هذا الحق. لكن الشروط التي فرضتها المفاوضات مع الأوروبيين تركت هذا"الحق"معلقاً ومقيداً، لذا وجد الرئيس الايراني الجديد والمتشدد ان أمامه هامشاً للمناورة. ويعتبر خبراء ان التكتيك الذي اعتمده الأوروبيون سقط عملياً، وإذا أريد للمفاوضات ان تحصل على نتائج جدية فقد أصبح لزاماً على الاميركيين والأوروبيين والاسرائيليين ان يعترفوا لايران بحقها في امتلاك الطاقة النووية، وعندئذ فقط يمكنهم ان يتشددوا في شروط منع ايران من صنع أسلحة نووية. في هذه النقطة، تحديداً، ذهب احمدي نجاد أبعد مما توقعه المفاوضون الغربيون عندما اقترح تشكيل لجنة خاصة تابعة للأمم المتحدة لوضع معايير واضحة"لنزع السلاح بشكل كامل"، مركزاً خصوصاً على وجوب ان تحقق هذه اللجنة في الظروف التي وفرت لاسرائيل تكنولوجيا انتاج السلاح النووي، وكذلك ان تحدد اللجنة"السبل العملية لجعل منطقة الشرق الأوسط خالية من الأسلحة النووية". مثل هذا الكلام لا ترغب الولاياتالمتحدة ولا اسرائيل في سماعه، فالترسانة النووية الاسرائيلية ممنوعة من التداول الديبلوماسي خصوصاً عندما يتعلق الأمر بايران. لكن الواقع هو الواقع، وسيتضح أكثر فأكثر ان الإصرار على جعل ايران استثناء في المجال النووي لا بد ان يقود الى أزمة دولية متفجرة. مرة أخرى، يواجه نادي الدول النووية نتائج اخفاقه في عملية نزع السلاح، وعجزه عن وضع معايير وتطبيقها من دون تمييز. فاستثناء اسرائيل ايجاباً، بمعنى تمكينها من التسلح نووياً، لا يمكن استخدامه لتبرير استثناء ايران سلباً، بمعنى حرمانها من ذلك التسلح. وكانت اسرائيل اعترضت بقوة على ما سمته"القنبلة الاسلامية"التي توصلت اليها باكستان، إلا ان توازن الرعب الهندي - الباكستاني خفف من العربدات الاسرائيلية، خصوصاً ان الولاياتالمتحدة تمكنت من وضع الخطر الباكستاني تحت السيطرة. وعلى رغم ان أحداً لا يعتقد ان ايران تسعى الى قنبلتها فقط لأنها تستهدف اسرائيل، فإن دخول اسرائيل على الخط حجب المتضررين المباشرين في منطقة الخليج العربي من هذا التسلح الايراني، وأفسد بالتالي إمكان طرح خيار"منطقة خالية من السلاح النووي"بشكل موضوعي وسلمي. الأسوأ من ذلك ان إمكان اسرائيل في الرعونة، وضغطها على واشنطن، وتبرعها بضرب المنشآت الايرانية، تبدو كلها مشروعاً لإدخال المنطقة في"دوامة عراقية"شاملة. وللأسف، لا يمكن التعويل على حكمة اميركية، ولا على رؤية سلام أميركية للمنطقة، بعدما ذهبت اسرائيل بعيداً في تلقين العقل الاميركي بأن مصالح الولاياتالمتحدة في المنطقة لا يمكن ان تتحقق إلا في ظل حروب دائمة ومفتوحة. ولمزيد من الإغراء بجدوى ضرب ايران، يذهب الاسرائيليون في اقناع الاميركيين الى حد القول إن هذه، إذا حصلت، ستكون"الموقعة الأخيرة"التي يتم فيها القضاء نهائياً على الارهاب والتهديدات. أي على طريقة الافلام الهوليوودية التي تداعب مشاعر العظمة عند الاميركيين.