بعد عام على رحيله، ظلت أسباب وفاة الرئيس ياسر عرفات مجهولة ومحيرة، تماماً كما كانت حياته لغزاً محيراً استعصى فهمه على من لم يعرفه عن قرب. ولا يزال هناك من يعتقد بأنه كان انساناً جامداً معقداً قاسياً على نفسه وعلى الآخرين. لكن من عرفه عن قرب يشهد انه كان انساناً عاطفياً ودوداً خجولاً ومتواضعاً. وكانت له شخصيتان متعارضتان تعايشتا في جسد واحد: شخصية ياسر عرفات، رجل السياسة البراغماتي الذاتي الماكر المناور، وشخصية ابو عمار الرمز المبدئي الفدائي المناضل والأب. وكثيراً ما اصطدمت الشخصيتان في محطات اتخاذ القرارات الصعبة، وظل منحازاً لشخصية الوالد المناضل يحل التناقض لصالح"أبو عمار"الرمز. ولم يكن عرفات السياسي أو أبو عمار الرمز يسلم بسهولة بوقائع لم يرغب بها، انحنى أمام العواصف والضغوط لكنه لم يستسلم للخصوم والأعداء. أحب أبو عمار الحياة الدنيا حتى آخر لحظة في حياته. لكنه لم يستمتع بملذاتها التي تمتع بها الناس، وكانت له متع خاصة: عشق السلطة بشغف وكرس لها حياته. وفي مرحلتي الثورة والسلطة أمسك بمقدراتها واستمتع بتوابعها الجوهرية والشكلية، بدءاً من المشي فوق البساط الأحمر واستعراض حرس الشرف أينما حل، وأداء التحية عندما تعزف فرق الموسيقى النشيد الوطني، مروراً بلقاء زعماء العالم ومخاطبتهم وتمثيل فلسطين في المحافل الدولية، وانتهاء بسهر الليالي وعقد الاجتماعات الماراثونية للقيادة واصدار أوامر خطية وشفوية تتعلق بمسائل ادارية وعسكرية وتنظيمية أساسية وتفصيلية. الى ذلك، يصعب الحديث في تاريخ فلسطين السياسي ومسيرة الحركة الفلسطينية في النصف الثاني من القرن الماضي بمعزل عن سيرة عرفات الشخصية والنضالية. ويعترف له خصومه وأنصاره على حد سواء بأنه نجح بجدارة في طبع مرحلة كاملة من تاريخ القضية وحياة الحركة الوطنية بطابع"عرفاتي"مميز يصعب محوه من الذاكرة الفلسطينية. وأبو عمار محمد عبدالرؤوف القدوة لم يرث الزعامة عن أب أو جد، وهو أصلاً ابن اسرة متواضعة الحال. بلغ موقع قائد"فتح"ومنظمة التحرير ورئيس دولة فلسطين بجهده الشخصي، وعرف بصبره وشجاعته وقت الشدائد والمحن. بعد تشكيل الزعماء العرب العام 1964 منظمة التحرير خشي أبو عمار تجدد الوصاية الرسمية العربية على الفلسطينيين وعجل في اطلاق رصاصة الثورة وأعلن الكفاح المسلح وسيلة رئيسية لتحرير فلسطين، ولم ينضبط لقرار اخوانه الذين دعوا للتريث واستكمال عمليات التحضير اللازمة. ورأى في هزيمة الجيوش العربية في حرب حزيران يونيو 1967 مدخلاً لانبعاث حركة فلسطينية مقاتلة مستقلة. ورفع شعار"أرض فلسطين المقدسة تفلحها عجولها فقط"، وانتقل الى الضفة الغربية واتخذ من مدينة نابلس وريفها مقراً لقيادته. وهناك عرفه الفلاحون باسم"الحاج أبو محمد". وبدا له ريف الضفة قاعدة مثالية للعمل الفدائي. وارتدى لباس الفلاحين واعتمد مثلهم الحطة"الكوفية"غطاء للرأس. ومنذ ذلك التاريخ وحتى وفاته لم تغادر الحطة رأسه الا ما ندر، واستحسن في المرحلة الأولى اللون الأبيض اسوة بالوجهاء وكبار السن، ولاحقاً، اعتمد حطة مرقطة بخطوط سود، وقلده ربعه من الفدائيين، وبعدها صارت شعاراً ورمزاً للمناضلين في العالم من أجل الحرية والداعمين لها. كان ابو عمار قائداً ميدانياً شارك المقاتلين حياتهم ومعاركهم وظل قريباً منهم يهتم بأوضاعهم ويزورهم في مواقعهم، والموقع الذي لم يزره في النهار زاره في الليل. وحفظ عن ظهر قلب أسماء الكوادر وكانت أبوابه دائماً مفتوحة لهم. وبنى لنفسه رصيداً نضالياً كبيراً وراكم خبرة غنية، وبهما عزز مكانته في صفوف شعبه وكرس شرعيته التاريخية. وعندما سمحت الظروف العام 1996 انتزع بجدارة شرعيته الدستورية والقانونية عبر الانتخاب المباشر. وبعد انتخابه أول مرة رئيساً لدولة فلسطين في المجلس المركزي في تونس في ربيع 1989 تغلبت شخصية ابو عمار الفدائي على الرئيس عرفات. وقال في أكثر من مناسبة:"لا تخطئوا، انتخابي رئيس دولة واصطفاف حرس الشرف لأداء التحية واستقبال زعماء العالم لا يغريني ولن أتخلى عن بندقية الثائر، ولا تنسوا أنني لم أخلع بدلتي العسكرية بعد". يومها قال له أحد المقربين مازحاً: تعبنا من السير الطويل معك، هل ستخلع البدلة العسكرية بعد دخول القدس؟ رد: ربما ولكن مش أكيد. وبعد عودته الى أرض الوطن العام 1994 وانتخابه رئيساً للسلطة بالتصويت الشعبي الحر المباشر حافظ على شخصية الفدائي ولم يتخل عنها. على مدى أربعين عاماً لم يشاهد أبو عمار يرتدي ملابس مدنية سوى ملابس النوم"بيجاما". كان يبدي اعجابه بملابس المحيطين به ويثني على الأنواع الفاخرة الجميلة، لكنه ظل يرتدي ملابس عسكرية. وبدا لمن لا يعرفه وكأنه لا يملك سوى واحدة واختها فقط، وأشهد ان خزانة ملابسه لم تحتو بدلة مدنية. في"زمن الدولة"وقبله زمن الثورة، ظل ابو عمار حريصاً على استقلال الحركة الوطنية واستقلال القرار الفلسطيني. وامتاز بطاقة عالية على العمل وظل سنوات يعمل أكثر من خمس عشرة ساعة يومياً، ولم يبق مجال عمل لم يتدخل فيه. وكرس عادات ثابتة فرضت نفسها على العمل الفلسطيني. كان منتصف الليل ذروة نشاطه وقمة صفاء ذهنه. شغله الجدي يبدأ بعد الثامنة مساء ويواصل السهر حتى الفجر ونادراً ما نام قبل الرابعة صباحاً. عادات تناول الطعام عنده ثابتة، يتناول العشاء قبل أو بعد منتصف الليل بقليل ثم يصلي الفجر وينام. كان يكره الجلوس على مائدة الطعام بمفرده ويستدعي المرافقين والمراسلين ومن يوجد في مكتبه الى مائدته اذا غاب الضيوف. بعض المقربين توقعوا بعد زواجه حدوث تبدل في عاداته لكنه خيب ظنهم. وكثيراً ما سببت عادة العمل طوال الليل ازعاجاً للصحافيين والسياسيين. المرحوم كمال جنبلاط كان واحداً منهم، دعي ذات مرة منتصف الليل لحضور اجتماع القيادة المشتركة، وعندما تكررت الدعوة تساءل لماذا تتشابه القيادة الفلسطينية في عملها مع العاملات والعاملين في النوادي الليلية. ظل ياسر عرفات يتصرف كخبير في جميع ميادين العمل، بدءاً من بناء الجسور وشق الطرق كونه درس الهندسة في الجامعات المصرية وعمل مهندساً مدنياً في الكويت، وحتى ادارة المفاوضات مع أعظم الرؤساء وأعرق الخبراء. اشتغل في كل شيء بدءاً من صرف ملابس المقاتلين وأحذيتهم وأسلحتهم وذخيرتهم وانتهاء بلقاء الزعماء وعلى رأسهم بريجنيف حسب تعبير الشهيد سعد صايل مدير غرفة العمليات في زمن دولة الفاكهاني في بيروت. كان لأبو عمار حياته الخاصة كرجل، لكنه بقي أعزب ستين عاماً وظل يفتخر بزواجه من القضية ومعها بندقية. وكان يستمتع بإزعاج اخوانه ورفاقه المتزوجين باستدعائهم في أوقات متأخرة من الليل. وفي احدى السهرات، بعد انتخابه رئيساً لدولة فلسطين في تونس مطلع نيسان ابريل 1989، سأله أحدهم: تخيل أبو عمار اننا نجحنا وطردنا الاحتلال وأقمنا دولة مستقلة فهل ستتزوج وتنهي غيرتك من المتزوجين، وتتركنا ننام من دون استدعاءاتك المعهودة بعد متنصف الليل؟ رد بسرعة وقال مازحاً: لن أترككم تنعمون بما لا أنعم به. وأضاف بجدية: زواج ما رح أتزوج. أنا راجل كبرت وصرت عجوزاً ولن أجد من تقبل بي. ثم كيف أتزوج وهناك في العروبة والاسلام من يتآمر على القضية. الزواج يلهيني بعض الوقت عنهم وهذا تقصير خطير لا أتحمل مسؤوليته أمام الله والتاريخ. وعندما تزوج لم يقم الأفراح ولم يحي ليالي ملاحاً، ولم يمنح نفسه اجازة ولم يغير نمط حياته ولم يول الحياة الزوجية أهمية وظلت القضية زوجته المفضلة. امتاز عرفات بقدرته على التعامل مع جميع صنوف البشر، وظل يحب التفاصيل ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة. ولم يكن يتحمل وشوشة اثنين في حضرته حتى لو كانا أقرب الناس اليه، وكان يتدخل ويحاول معرفة ما يدور بينهما، وكثيراً ما نهض وفرقهما وجر أحدهما بيده الى مكان قريب منه. بقي أبو عمار حتى مماته يعتز بأنه قائد شعب الجبارين، وفي أحد زياراته للهند قيل له هناك شاب فلسطيني نجح في تقلد موقع الأب الروحي لطائفة دينية كبيرة يرغب باللقاء بكم، ويتمنى عليكم اظهار احترامكم له ولتقاليد جماعته. وافق ابو عمار على الطلب واستقبل"الراب"وفقاً للتقاليد، وفي الخلوة الثنائية شكر الشاب الفلسطيني أبو عمار على حفاوة الاستقبال ووضع نفسه تحت تصرفه. وسأله ابو عمار كيف وصل الى المرتبة الدينية العالية، وروى الشاب القصة بصدق وصراحة. وتفاخر الشاب بعدد اتباعه البالغ 12 مليون انسان وسأل كم عدد اتباعك يا ابو عمار؟ رد ابو عمار:"أنت لديك 12 مليون انسان عادي لكنني أقود 6 ملايين فلسطيني كل واحد فيهم يعتبر نفسه زيك". كان ابو عمار رجلاً مؤمناً يصلي ويصوم ويقرأ القرآن في شهر رمضان، لكنه لم يكن متزمتاً في الدين ولم يطلب من أحد الصلاة معه ولم يقاوم عدم التزام المقربين منه بالصيام. ولم يتورع عن استخدام الدين لأغراض سياسية وكثيراً ما تعمد ابقاء ديبلوماسيين ينتظرون حتى ينتهي من صلاة طويلة أمامهم، وكانت لصلواته رسالة سياسية خلاصتها انه رجل مؤمن صادق في ما يقول. في حصار بيروت العام 1982 اعتمد عرفات على"الاستخارة"من القرآن في رفض عرض المبعوث الاميركي فيليب حبيب الخروج بلباس الصليب الاحمر الدولي. يومها خرج من اجتماع القيادة واختلى بنفسه وتوضأ وفتح القرآن وعاد يقول هبت رياح الجنة، القرآن أمرني مواصلة القتال ورفض عرض"حبيب"الاميركي. وغادر الاجتماع مسرعاً الى غرفة العمليات وواصل القتال حتى انتزع خروجاً مشرفاً. تعرض ابو عمار في حياته لمحاولات قتل واغتيال عدة، وبحدسه الأمني نجا مرات كثيرة من موت محقق، وكثيراً ما تم تشييعه الى مثواه الأخير لكنه في كل مرة كان ينهض من نعشه ويشد أزر المشيعين. صحيح انه كان رجلا قدرياً آمن بالقضاء والقدر، لكنه آمن ايضاً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم"اعقل وتوكل". وظل يولي أمنه الشخصي أهمية استثنائية ويشرف عليه بنفسه وعندما شعر بأنه اصيب بالسم قال"يبدو انهم نجحوا في الوصول الي هذه المرة". وعندما حام الموت حول ابو عمار سخر منه وتمرد عليه مرات كثيرة، اشهرها عندما سقطت طائرته في الصحراء الليبية. ونجا باعجوبة مرة ثانية عندما طارده شارون بالمدافع والدبابات والطائرات في بيروت العام 1982. وعندما اشتد الحصار ودقت جرافات شارون جدران غرفته في"المقاطعة"قاوم الموت بشراسة ولم يركع، وقال جملته الشهيرة:"يريدونني طريداً أو أسيراً وأريدها شهيداً شهيداً شهيد". ولم يشك أحد في صدقه ومات واقفاً في الميدان يوم 11 تشرين الاول نوفمبر 2004، ودفن في ساحة المقاطعة حيث خاض آخر معاركه القاسية. ونال وسام البسالة والصمود بجدارة. كاتب فلسطيني، رام الله.