يفتح الطفل العربي سامي رواية "حارث النسيان" لكمال الخمليشي، بما يروي من سيرته في قرية تركيست، ابتداءً بإنقاذه صديقه الطفل اليهودي جوزي من موت محقق، وبلعبه مع المراهقة إيلينا، شقيقة جوزي. ومنذ هذه البداية نرى جوزي إذ يهينه أحد الأشرار، يتحدى المهين بوطنه الذي يرسمه في مخيلته، - أليست إشارة إلى إسرائيل؟ - فيسأله سامي: "عن أي وطن تتحدث يا أخي وأنت تعيش هنا غريباً مستضعفاً؟". ويرد جوزي: "سوف ترى". فيعاتبه سامي على عدم اعتبار المغرب وطناً له، فيبكي ويصمت. وجوزي الذي يتكلم الإسبانية والفرنسية، متعلق بالقرآن. وصديقه سامي يعلمه قصار السُّور ويجعله ينطق بالشهادتين وهو القائل: "المهم هو أن نعبد الله كما أمرنا، لكم دينكم ولنا ديننا". هكذا يبكر ضغط الأيديولوجي على الرواية عبر تلك المحاورة بين طفلين، فتسرع الفانتازيا إلى ما يبدو أنه تخفيف لضغط الأيديولوجي، لكنها سرعان ما ستغدو ضغطاً آخر وأكبر. والبداية الفانتازية تأتي في امتلاك جوزي فراسة خارقة تجعل أمه تحذره من البوح بما يمتلكه من طاقات روحية استثنائية. وهذه الممرضة اليهودية التي وُلِدَ سامي على يديها، تراه وُلِدَ محروساً بهالة من نور: "جئت إلى العالم مصحوباً بطاقة خارقة من طاقات العالم الخفي". قبل أن تتفجر الفانتازيا في الرواية يحدّث جوزي صديقه عن أجداده الذين فروا من إشبيلية أواخر القرن الخامس عشر، وعن أبويه اللذين نزلا في تركيست عام 1945 بحثاً عن مصير أحد أجداده إسحاق الإسلامي. وقد أسلم هذا الجد ثم اختفى، وقصد تركيست بحثاً عن كنز مدفون في قبر قديم الى جوار ضريح سيدي الحاج علي الخمليشي، كما يوضح هامش في الرواية، مغرياً بالسيرية فيها. يطلع جوزي صديقه على مخطوطة خريطة لموقع الكنز، محررة بخط سيدي العربي الغريب، وهو يهودي أسلم أيضاً، واستؤمن على الكنز من طرف صديق يهودي مقيم في القدس. وفجأة يغادر آل جوزي تركيست فينشب الفراغ الملتاع في روح سامي حتى ينتقل إلى بيت شقيقته في الدار البيضاء للدراسة. والشقيقة تقطن في عمارة معظم قاطنيها من اليهود، ربما استجابة لضغط الأيديولوجي أيضاً على الرواية، والذي سيجعل الفتى يقول: "ولكم كنت أرتاح لليهود وأسعد بمعاشرتهم، ربما لأنهم يعتبرونني غريباً مثلهم". ولسوف يصاب هذا الفتى المولع بطبق السبت اليهودي دَفِنَا بجرح في تظاهرة، ويحاول لوطي الاعتداء عليه، فتنقذه اليهودية سيمون، ويقيم معها، إلى أن يجمعه بيتها بوالدة جوزي التي لم تهاجر مثل الآخرين إلى فرنسا: "أنا بلدي هو المغرب". بحضور إيلينا ومداعبتها لسامي ستحرضه سيمون على الخوض معها في مثل هذه الأمور من دون تحفظ قائلةً: "فنحن وإن كان يجمعنا جدّ واحد، فإننا أكثر تفتحاً منكم في خصوص هذه المسائل، ونتعامل معها بعقلية أوروبية". وإيلينا نفسها ستكرر لسامي أن سيمون تتعامل مع هذه الأمور بعقلية عصرية غير العقلية التي تفكر بها أنت. ولن يكون ذلك هو الامتياز اليهودي الوحيد على المغربي في الرواية. على أن الفانتازيا تأخذ بالتفجر في الرواية بعدما يعطي جوزي لسامي ورقتين مكتوبتين بالعربي والعبريْ النص العربي ترجمة للعبري وقد وقع عليهما والد جوزي بفضل خريطة سيدي العربي الغريب. والورقتان تحيلان على مدفن آخر للكنز، بعد استخدام الطلسم السحري في إحداهما. وسيقود ذلك سامي إلى اقتناء كتب السحر والتنجيم، وإلى استشارة زوج شقيقته الخبير بها، كي يتمكن من التحضير للخلوة ومن استحضار الجن وخادم الطلسم مسرور. وسيقود مسرور الفتى إلى الطبقة السابعة من النار، وينبئه بأنه وُلِدَ صاحب سر، وأن الطلسم وسيلة التواصل بين أهل السر من الإنس والجن، وأن صاحب السر الأعظم اختار الفتى الذي سيبقى محروساً. أما وقت العثور على الكنز فهو بعد خمس مراحل نارية، أي "بعد عشر سنوات من سنواتكم". ويتابع سامي رحلته في مجاهل الأبدية في الأزمنة والأمكنة، وداخل نفسه، فتشتبك هذه السردية الفانتازية بسردية حياة سامي التالية في الرباط - بعد الدار البيضاء - وفي الحركة الطلابية والتقاء إيلينا وصديقتها جوزيفا وابنها سامي. فقد تزوجت إيلينا، وقضى زوجها في أميركا، ورحل أهلها إلى فرنسا. أما هي فلم ترحل، لأنها تحب المغرب - كأمها - ولا ترتاح في سواه. والآخرون سيعودون إليه في يوم من الأيام كما تؤكد. وإيلينا تؤكد أيضاً لسامي أن حبهما لن يعمر مدى الحياة قائلة في إشارة إلى الصراع العربي - الإسرائيلي: "وأنت تعرف السبب". لكن سامي يرى أن الحب لا تملكه السلالات ولا المعتقدات. وسيصادف في رحلته الفانتازية أمه في أبديتها، ويشكو لها الغول الذي يعلو على القانون في بلادنا، كما تقول الأم. وسيقع سامي في شرك العفاريت فينقذه مسرور، ويحمّله رقيماً ويحمّل إيلينا مثله بعدما اتحدا روحياً، وبات أي سوء يصيب أحدهما يصيب الآخر. تعرض سيمون الفتى على حزّان رجل دين يهودي يشخّص أن لا شكوى يتذمر منها سامي، وما به ليس سوى طاقة استثنائية لا صلة لها بعالم الخوارق. ومما تتبدى به هذه الطاقة تعطيل سامي لسيارة والد جوزي في المنام، وتحقق ذلك، في ما هو إشارة وحيدة في الرواية إلى ما يضمر العربي من شر لليهودي. وإذ يعلن مسرور أن وقت التنقيب عن الكنز قد حان، ولكن مع جوزي، يحضر الأخير من فرنسا مع صديقته، ويتوالى السعي بين الحسيمة وطنجة حيث يظهر العجوز اليهودي روبير، ويعلّم سامي ألاّ يعود إلى الوسيلة التي لم تمكنه من تحقيق غرضه، وأن لا وجود لليأس إلا في وهم الضعفاء. وسيتوسط العجوز سامي كي يوفّر له نظرة من صاحب السر الأعظم، فيجيبه إلى ما تمنى. وستتوالى في الطريق إلى الكنز المغامرات، حيث يحاول عفريت الفتك بإيلينا لأنها مرتبطة بسامي، ولأنها يهودية أيضاً. لروبير هو الآخر كنزه الذي ستكون منه حصة سامي مخطوطاً عتيقاً بالعبرية، تتحول حروفه إلى العربية حين ينظر إليها سامي. كما ستكون لسامي حصته من بيع كنز روبير في سويسرا على يد الجوهري اليهودي ديفيد. وهنا تقوم العلاقة الجسدية الفانتازية بين سامي وابنة الجوهري فادونيا العذراء التي سيفك سامي عقدتها من عذريتها، بينما تكرر ما سبق أن تباهت به سيمون وإيلينا: "هذه هي ثقافتنا، نتصرف بوضوح في جميع الظروف، وكل واحد منا يحترم الحياة الخاصة للآخر وحريته". وكذلك قولها: "والحياة الخاصة للفرد مقدسة عندنا، ولا يحق لأي كان أن يتدخل فيها". ومن فضل القول أن يطلع السؤال إزاء هذا الإلحاح الروائي عن صدقيته، لكأن اليهود كانوا دوماً ودائماً على هذا النحو. في نهاية هذا المطاف الفانتازي يعود سامي وجوزي إلى البحث عن الكنز اليهودي. وبعد لدغة الحية لجوزي يتراجع، ويتابع سامي وحيداً، لكنه يقع في شرك عفريت يقوده إلى مجاهل العالم اللانهائي، ويعجز مسرور عن إنقاذه: "حياتك الجسدية يا سامي ستستمر كعادتها من دون الطاقات الروحانية". وهكذا بقي سامي يعيش بطريقة عزيزية حياته على الأرض، إلى أن وافاه مسرور ملبياً طلبه الأخير: أن يصبح كاتباً مبدعاً، فقد اختار الكتابة عملاً بنصيحة المعلم اليهودي روبير، وإن كان ذلك سيقطع صلته بمسرور. وفي هذه النهاية، ولكي يتتوج الخطاب الأيديولوجي للرواية، لا يريد سامي أن تغيب إيلينا عن حياته، ويعزم على أن يسأل صاحب السر الأعظم تهيئة الأسباب لزواجه الجسدي من إيلينا لأنه وحده يقدر على ذلك. كما سيسأل سامي أن تتحدر منهما "تلك الذرية التي تنتظر أن تعيش في منأى عن جميع الصراعات الطاحنة". ويطمئنه مسرور: "كن على يقين من أن مهزلة تلك الصراعات ستنتهي في يوم من الأيام". من الجليّ أن الرواية ظلت رواية أطروحة بامتياز، فيما هي لا توفّر إلى التخييل وبه سبيلاً. ولئن علا فيها الوقع الأيديولوجي عبر تسريد الجسد - بعبارة سعيد بنكراد - وثنائية المذكر والمؤنث وفحولة سامي مع اليهوديات، فقد جاء ذلك الوقع أعلى وأكبر فجاجة كلما تعلق الأمر بالشخصية اليهودية وبالصراع العربي - الإسرائيلي، وليس بالصراع العربي - اليهودي كما تلامح بقوة في الرواية. والأهم هنا أن الرواية - وبعبارة سعيد بنكراد أيضاً - تشابه شرحاً لنص أيديولوجي سابق، وليس كما تقتضي كفنّ، أي أن تبنى فيها الأيديولوجيا من خلال بناء النص ذاته. صنّمت الأيديولوجيا طويلاً شخصية اليهودي والصراع العربي - الإسرائيلي في الرواية العربية. غير أن الرواية العربية شرعت تتحرر من هذا التصنيم، وتمضي - بما هي فن - بسؤال اليهودي، كما تدلّل بتفاوت روايات الحبيب السائح "تماسختْ" والزاوي أمين "يصحو الحرير" وغازي القصيبي "العصفورية"، وفيصل خرتش "الغرباء" وصنع الله ابراهيم "أمريكانلي" ورشيدة خوازم "قدم الحكمة" وسواها... أما رواية كمال الخمليشي "حارث النسيان" فيبدو أنها عادت إلى التصنيم، من دون أن يجدي احتماؤها بالفانتازيا.