فيصل السابق يتخرج من جامعة الفيصل بدرجة البكالوريوس بمرتبة الشرف الثانية    مشروعات تطوير البنى التحتية الجديدة في محافظة جزر فرسان تجاوزت ال 16.5 مليون ريال    مركز الملك سلمان للإغاثة يوقع على ميثاق صندوق العيش والمعيشة التابع للبنك الإسلامي للتنمية    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين جراء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة إلى 34.535 شهيدًا    التشكيل المتوقع لمواجهة ريال مدريد وبايرن ميونيخ    جامعة نايف العربية تفتتح في الرياض ورشة العمل الإقليمية لبناء القدرات حول مكافحة تمويل الإرهاب    محافظ الخرج يكرم الجهات المشاركة في حفل الأهالي لزيارة أمير منطقة الرياض    طعن واقتحام ودماء.. ثلاثيني يروّع لندن    الشِّعر والنقد يفقدان النموذج الإنساني «عبدالله المعطاني»    "ترابط الشرقية" تنال جائزتين من جوائز جلوبال العالمية في مراكش    الدفاع المدني يدعو إلى عدم الاقتراب من مجاري السيول وتجمعات المياه أثناء هطول الأمطار    إطلاق هاتف Infinix GT 20 Pro الرائد    الشراكة الاستراتيجية السعودية الصينية.. نجاحات متواصلة يعززها التعاون في قطاع الإسكان    برعاية ولي العهد..اختتام الاجتماع الخاص للمنتدى الاقتصادي العالمي بالرياض    «الصحة»: خروج أكثر من نصف إصابات التسمم الغذائي من العناية المركزة.. وانحسار الحالات خلال الأيام الماضية    الفرص مهيأة للأمطار    تراجع أسعار الذهب إلى 2320.54 دولارًا للأوقية    وزير الدفاع يحتفي بخريجي كلية الملك فهد البحرية    "هورايزن" يحصد جائزة "هيرميز" الدولية    تعاون "سعودي – موريتاني" بالطاقة المتجدِّدة    افتتاح معرض عسير للعقار والبناء والمنتجات التمويلية    بطولة عايض تبرهن «الخوف غير موجود في قاموس السعودي»    العميد والزعيم.. «انتفاضة أم سابعة؟»    حرب غزة تهيمن على حوارات منتدى الرياض    تسجيل «المستجدين» في المدارس ينتهي الخميس القادم    أخفوا 200 مليون ريال.. «التستر» وغسل الأموال يُطيحان بمقيم و3 مواطنين    أمير الشرقية يدشن فعاليات منتدى التكامل اللوجستي    دعوة عربية لفتح تحقيق دولي في جرائم إسرائيل في المستشفيات    برؤية 2030 .. الإنجازات متسارعة    أمير منطقة المدينة المنورة يستقبل سفير جمهورية إندونيسيا    العربي يتغلب على أحد بثلاثية في دوري يلو    «الكنّة».. الحد الفاصل بين الربيع والصيف    توعية للوقاية من المخدرات    للمرة الثانية على التوالي.. سيدات النصر يتوجن بلقب الدوري السعودي    (ينتظرون سقوطك يازعيم)    في الجولة 30 من دوري" يلو".. القادسية يستقبل القيصومة.. والبكيرية يلتقي الجبلين    لوحة فنية بصرية    وهَم التفرُّد    عصر الحداثة والتغيير    بالشراكة مع المنتدى الاقتصادي العالمي.. إنشاء" مركز مستقبل الفضاء" في المملكة    مسابقة لمربى البرتقال في بريطانيا    قمة مبكرة تجمع الهلال والأهلي .. في بطولة النخبة    تمت تجربته على 1,100 مريض.. لقاح نوعي ضد سرطان الجلد    إنقاص وزن شاب ينتهي بمأساة    الفراشات تكتشف تغيّر المناخ    وسائل التواصل تؤثر على التخلص من الاكتئاب    أعراض التسمم السجقي    السابعة اتحادية..    دافوس الرياض وكسر معادلة القوة مقابل الحق    ولي العهد ووزير الخارجية البريطاني يبحثان المستجدات الإقليمية والتصعيد العسكري في غزة    زرقاء اليمامة.. مارد المسرح السعودي    «عقبال» المساجد !        اليوم.. آخر يوم لتسجيل المتطوعين لخدمات الحجيج الصحية    إنقاذ معتمرة عراقية توقف قلبها عن النبض    أمير تبوك يطلع على نسب الإنجاز في المشاريع التي تنفذها أمانة المنطقة    كبار العلماء: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    هيئة كبار العلماء تؤكد على الالتزام باستخراج تصريح الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يقظة فنيغان ولوتشيا ... ابنة جيمس جويس
نشر في الحياة يوم 25 - 08 - 2004

ربما كان جيمس جويس اقل الكتّاب مقروئية، مع انه ربما كان اكثر كاتب كُتب عنه. ولا ادري كم قارئاً من الناطقين بالانكليزية، واللغات الاوروبية استطاع قراءة رواية "يقظة فنيغان" حتى النهاية. فما بالنا بمثقفينا العرب ممن يحسنون القراءة بالانكليزية لعلي استطيع ان استثني قراء معدودين، من بينهم الصديق صلاح نيازي، الذي يمكن اعتباره متخصصاً بجيمس جويس، طبعاً الى جانب اهتماماته الاخرى... على اي حال، استوقفني مقال بقلم الناقد والمفكر البريطاني المعروف تيري ايغلتون عن كتاب من تأليف كارول لوب شلوس بعنوان "لوتشيا جويس: الرقص في اليقظة". هذا الكتاب، والمقال عنه، يعالجان العلاقة بين كتاب جيمس جويس "يقظة فنيغان"، وابنته لوتشيا. لكن طريقة قراءة ايغلتون للكتاب تنسيك اي شيء آخر قبل ان تفرغ منها. ولعل هذا يندرج، ايضاً، في اطار ما استهللت به كلمتي هذه: انك تجد متعة في القراءة عن جويس، ربما اكثر من قراءة نصوصه هو، وفي الاحوال كافة، انك تجد نفسك ملزماً أن تقرأ المزيد والمزيد من الشروح عن نصوص جويس اذا غامرت في قراءته. فأنا لم استطع انهاء قراءة "عوليس" بنصه الانكليزي، مع انني حاولت ذلك غير مرة. وكانت اطول هذه المحاولات صبراً تلك التي تكللت بقراءة مئتي صفحة من الكتاب. ثم قطعت الامل، ورحت اقرأ مقاطع متفرقة منه. بل استطعت ان اقتبس منه في كتابي الاطروحة الفنتازية. لكنني لم افرغ من قراءة النص بكامله إلا بعد قراءة ترجمة محمود طه، التي وجد فيها الصديق صلاح نيازي عيوباً، بعد ان انبرى هو لترجمته ثانية.
أما "يقظة فنيغان" فدونها خرط القتاد، لأننا سنكتشف انها ليست رواية بقدر ما هي احجية كلمات متقاطعة. وأزعم انني اقتنيت نسخة من هذه الرواية في العراق، ربما في الستينات. لكنني لم افلح في مواصلة قراءتها مع انني اقتبست منها ايضاً في الاطروحة الفنتازية.
بعد هذا الاستطراد، اعود الى جيمس جويس وابنته. يؤكد تيري ايغلتون ان جيمس جويس اعطى اهمية لكل شيء، اذا كان ذلك حنطة معدّة للطحن في طاحونة فنه الرفيع في شكله. اما ييتس فقد تحمل "معمودية الدرك الاسفل من حضارة المدينة"، هابطاً الى العالم الدنس ليجعل منه شيئاً شعرياً خالداً. وقد كانت استيتيكا جويس كذلك افتدائية. لقد استطاع ان يكون مخلصاً لما كان عليه العالم: الكون نفسه، كما يعتقد، كان مجموعة من دورات مغلقة لا نهائية، وهو ما انعكس في فنه في نرجسيته الظاهرة.
وربما كانت تلك مشكلة ابنته، لوسيا لوتشيا ايضاً. كان جويس كاتباً من الطراز الفلوبيري، الذي كانت الكتابة عنده عملاً مضنياً، حيث يقتضيك اسبوع احياناً لنحت جملة واحدة. عندما قال بغزوره المعروف انه يتوقع ان يمضي قارئ "يقظة فنيغان" وقتاً في قراءته مثل الوقت الذي استغرقه هو في كتابته، كان يعني ان مؤلفاته انما كتبت لعزل القارئ عن الحياة اليومية مثلما تم ذلك عند تأليفها.
وهكذا استنزفت الكتابة وقته كله. والمشكلة الوحيدة كانت في ان لديه زوجة وولداً وبنتاً. وحتى ابنته، لوتشيا، كانت جزءاً من فنه اكثر منها كائناً مستقلاً بذاته.
ولدت لوتشيا في عنبر الفقراء في مستشفى بترييستا، ونشأت في عائلة معدمة كانت تنتقل باستمرار من غرفة بائسة مستأجرة الى اخرى. كانت العائلة تطرد من هذه الغرف بسبب افلاسها. وكان جويس غالباً ما يجد نفسه بلا قلم، وحبر. وكان وقته موزعاً بين الكتابة وشرب الكحول. لذلك انتهى الامر بابنه جورجو الى أن يكون مدمناً.
على ان جويس كان ذا ذهن موسيقي، وميالاً الى التلاعب بالكلمات، ومحباً لكتابة الشعر الفكاهي، والتزحلق على الدرابزونات، وأباً مسرفاً ومتسامحاً، كما تقول شلوس. وقد ساغ للوتشيانو هذا الجو الفوضوي روحياً، لكنها كأي طفل كانت تحس بالحاجة الى الطمأنينة. وعلى اي حال، كان تعليم الولدين متقطعاً. وكان الجوع مشكلة كبرى، فبدأ جورجو بالغناء في احد المقاهي منذ سن الثانية مقابل وجبات طعام للعائلة. وفي كتاب شلوس تظهر فوراً، زوجة جويس، التي تمقت السكر، امرأة تغار من ابنتها لوتشيا الى حد حرمانها من مواصلة عملها الرقص. فترك ذلك في نفس البنت حقداً دفيناً على امها. وتنعت شلوس الأخ جورجو بالوغد تجاه شقيقته التي كان يضربها. ولعل جويس نفسه كانت لديه مشاعر تجاه ابنته تندرج في اطار غشيان المحارم، كما يُعتقد ان علاقتها بأخيها كانت حميمية جداً. وأشار جويس نفسه الى ان لوتشيا "احبت اخاها بطريقة غريبة"، وتعرضت الى صدمة وحالة من الكآبة عندما تزوج.
كانت لوتشيا فتاة موهوبة وذات اهواء استقلالية مع شيء يذكّر بنزعة ابيها المتمردة. بعد انتقال العائلة الى باريس تمرنت مع ريموند دنكان شقيق الراقصة العالمية ايزا دورا دنكان. ومثلت لوتشيا في فيلم لجان رينوار، وكانت لها علاقات مع الوسط السريالي، وعلاقة مع صاموئيل بيكيت، ومثل ابيها كانت تستطيع الانتقال من اللغة الانكليزية الى الفرنسية والايطالية بكل يسر... لكنها تخلت عن الرقص فجأة مع ظهور بوادر مرض عقلي. على ان اكثر مقاطع الكتاب كتاب كارول شلوس عن لوتشيا جويس اهمية تناوله العلاقة المعقدة والغامضة بين جويس ولوتشيا. فجويس اهمل ابنته بالفعل، لكنه كان يحبها كثيراً في الوقت نفسه على ما يبدو. وكانت لوتشيا تعبد اباها، لكنها كانت ترفض بمرارة ان يكون دورها اشبه بعازف الكمان الثاني في "يقظة فنيغان"، كما يقول تيري ايغلتون. وينطوي هذا الغموض على شيء آخر: اذا كانت ترى كتاب جويس الهائل هذا كشقيق منافس، فقد كانت تعتبره في الوقت نفسه طفلها، ايماناً منها بأن الكثير منه جاء بوحي منها. ولم يشك العالم النفساني يونغ، الذي درس حالة لوتشيا في نطاق محدود وغير موفق، في انها كانت الدافع المبدع لوالدها... وعندما كانت لوتشيا في مستشفى الامراض العقلية قالت لأحد زائريها: "قل له انني احجية كلمات متقاطعة. واذا لم يكن لديه مانع في رؤية الكلمات المتقطعة، فليأتِ لزيارتي". وللعلم، ان الكلمات تتقاطع في "يقظة فنيغان".
وكان احد الاطباء النفسانيين يعتقد ان حالها عصابية وليست ذهانية. فهي لم تشكُ من هلوسة، او تسمع اصواتاً، او - مثل ابيها - مسكونة باللعب بالكلمات المحيرة. وبقدر تعلق الامر بالشيزوفرينيا، فقد كان جويس نفسه، او بعض كتاباته على اقل تقدير، يبدو حالات صالحة جداً للعلاج. على ان هناك تناقضاً بين نثره الغريب في تعدد اشكاله، الذي يطفو فيه اللاوعي كما هي الحال مع الشيزوفرينيا على السطح، وشخصيته السليمة العقل نسبياً في سلوكه الحياتي. ويتشظى المعنى في "يقظة فنيغان، ويذوب، على نحو بارع في صناعته، مثلما يجسد صاموئيل بيكيت الفراغ بدقة هائلة. على ان جويس لم يكن مجنوناً مثل كتاباته. ففي بعض الحالات، كان تقليدياً الى حد عجيب... وقد ألمح يونغ الى ان "عوليس" تنطوي على اعراض ذُهانية. ولم يتردد في انحاء اللائمة في شأن حالة لوتشيا على ابويها. فهو يعتقد ايضاً ان جويس كان يأبى الاعتراف بجنون ابنته لأن ذلك يعني ضمناً انه هو مصاب بالذهان.
في غضون ثلاث سنوات في ثلاثينات القرن العشرين، عاين لوتشيا 24 طبيباً. وكان ما يسعّر غضبها انها كانت تحت المراقبة. ويقول تيري ايغلتون ان فوكو كان يمكن ان يكتب عنها كتاباً شيقاً. فهل كانت هي مجنونة حقاً، ام مجرد حداثية؟ هل كانت مخبولة ام بوهيمية؟ هل كانت ملتاثة، وتتظاهر بأنها سوية العقل، ام هما الامران معاً؟ لعلها كانت فظة على نحو غير اعتيادي، كما يرى البعض.
كانت لوتشيا تشعر بأنها معرضة للمراقبة الدائمة من جانب ابيها البصاص الذي كان يختلس النظر اليها منذ طفولتها. وكانت تنظر الى نفسها كعلف لقصصه. وعندما نُقل اليها نبأ وفاته، قالت: "ماذا تراه فاعلاً تحت التراب؟... انه يراقبك كل الوقت". وأفضت الى صديقة بأن اي شيء كانت تقوله او تفعله يجد طريقه الى كتاب. وفي الوقت نفسه يبدو انها كانت تعتبر نفسها قارئاً مثالياً لمؤلفات ابيها، مثلما كانت تعتقد بأنه كان القارئ المثالي لها. وقد كتب جويس: "ليس لدى لوتشيا ثقة بأي كائن سواي، وهي تعتقد ان لا احد يفهم اي كلمة مما تفوه به سواي". لقد كان الاب والابنة نصين غامضين يتعذر سبر غورهما.
وأمضت لوتشيا الثلاثين سنة الاخيرة من عمرها في مستشفى للأمراض النفسية في نورثمامبتون، وتوفيت في 1982. واذا كان ابوها غير اعتيادي من بين كبار الحداثيين بسبب اعتيادية فنه الصارمة، فقد كان ايضاً استثناء في رؤياه اللاتراجيدية. فليس هناك تراجيديا حقيقية في مؤلفات جويس، لأنه لا يمكن ان تكون هناك خسارة مطلقة في عالم من التكرار الخالد. كل شيء تعاد دورته في النهاية كشيء آخر. ونحن كلنا مجرد انتحالات للماضي. لكن هذا لم يكن صحيحاً بقدر تعلق الامر بحياة جويس، التي كانت مسكونة بصورة لكورديليا ميتة في يديه، كما يقول تيري ايغلتون.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.