قبل أربع سنوات قدم صحافي بارع العرض الملخص التالي لعهد بيبي نتانياهو في رئاسة الحكومة الاسرائيلية: "يقول بيبي عكس ما يفكر به ويفعل عكس ما يقوله. هذا لا يعني بالضرورة انه لا يعمل وفق ما يفكر به". لم يعد "بيبي" هذا موجوداً. لا بد أنه فكر ملياً بالأسباب التي كانت وراء فشله كرئيس وزراء واستخلص بعض الدروس. عندما ينظر المرء الى أدائه في وزارة الخزانة - حيث كان عملياً زعيم الاقتصاد - خلال الأشهر ال13 الماضية، سيرى "بيبي" جديداً، أقل نزوعاً الى الانتقام وأكثر انضباطاً وتركيزاً للانتباه. وأقل استعداداً للاعتماد كلياً على العلاقات العامة. وهو، قبل كل شيء، رجل وضع في "الخطة الاقتصادية" التي قدمها الى الكنيست في آذار مارس 2003، خطة تطابق تماماً السياسات الثاتشرية التي كان يدعو لها علناً منذ فترة، وهيّأ بعدئذ وزارة الخزانة للتحرك بلا هوادة في اتجاه الهدف المرسوم في هذه الخطة. ولم تتحقق بنود رئيسية كثيرة في الخطة أي اصلاح نظام الضمان الاجتماعي. لكن بنوداً أخرى كثيرة تحققت، ولم تشمل هذه البنود التجميل المعتاد للموازنات فحسب، بل أيضاً اصلاحات هيكلية، مصممة للحد من تدخل الحكومة المباشر في الاقتصاد، وتقليص القطاع العام، وغير ذلك. وصممت كلها في النهاية، من قبل خبراء يهتدي بهم "بيبي"، لاعادة اطلاق النمو الاقتصادي بعد سنتين من الركود المزري. وما أثار دهشة الجميع تقريباً من ضمنهم على الأرجح شارون ان نتائج فعلية تحققت، في تناقض صارخ مع السجل الرديء لسلف "بيبي" القليل الحظ، سيلفان شالوم 2001 - 2003. تم اصلاح نظام صندوق التقاعد، الذي كانت حكومات حزب العمل فشلت أيضاً في اصلاحه، بتشريع قانوني جرى تمريره في الكنيست على رغم تظاهرات كبيرة واضرابات عنيفة نظمتها النقابات، وأخفقت النقابات على نحو مماثل في منع "بيبي" من خفض الإدارة المدنية بنسبة 6 في المئة، كما استطاع أن يخفض نسبة الزيادة في رواتب الموظفين الحكوميين الى النصف، وخفض الانفاق الحكومي الى حد كبير بما في ذلك نفقات الدفاع. وأنجز هذا كله عبر مفاوضات شاقة مع الهستدروت وممثلي النقابات المتشددين، ولكن من دون اذلالهم، وهو أمر اعتاد "بيبي القديم" التلذذ به عندما كان رئيساً للوزراء. وقدم بعض التنازلات كي يمكنهم من اعلان انتصار جزئي امام أعضاء نقاباتهم. وعلى صعيد السياسة النقدية، خفض "بيبي" بمرسوم الضريبة على الشركات الى 36 في المئة وينوي ان يخفضها أكثر. وتهدف هذه الخطوة، من بين أشياء أخرى، الى تشجيع الزيادة التي تحققت أخيراً في الاستثمارات الأجنبية الخاصة. وخفض ضريبة الدخل، بشكل أساسي للنصف الأعلى من العاملين بخفض المعدل الهامشي من 50 في المئة الى 43 في المئة وخفض ضريبة القيمة المضافة بنسبة 1 في المئة. ومن المفترض أن يؤدي هذا كله، وفقاً للخبراء الذين يهتدي بهم "بيبي"، أن يساعد أكثر على تقليص حجم الحكومة وزيادة الدخل المتوافر، وبالتالي تشجيع الاستهلاك والاستهلاك المحلي، وهو ما سيساعد الاقتصاد على الخروج من حالة الهزال. ولتحقيق الغرض ذاته، لجأ "بيبي" الى خفض الرسوم الجمركية المفروضة على المنتجات الاستهلاكية المعمّرة مصدرها في الغالب من أوروبا حيث يسعى الى مزيد من دمج اسرائيل في أوروبا. وبحلول آب أغسطس 2003، أعلن بنك اسرائيل، الذي يمثل السلطة النقدية العليا - وهو مؤسسة مستقلة ويعتبر في أحيان كثيرة المنافس لوزارة الخزانة - ان الركود قد انتهى. عبّر بيبي عن ابتهاجه الشديد. وسخرت الصحافة بالنبأ. لكن نتائج الربع الأخير من 2003 والربع الأول من السنة الجارية، اكدت صحة هذا التشخيص. فبعد سنتين تقريباً من التراجع في اجمالي الناتج القومي بدا معدل النمو واضحاً: صحيح انه متواضع، بالمقارنة مع فترة الانتعاش في التسعينات، لكن تم عكس الاتجاه، بالضبط كما كان "الدكتور بيبي" قد تكهن. وبحلول الربع الأخير من السنة، يتوقع ان يبلغ معدل نمو اجمالي الناتج القومي 2،3 في المئة. وشهدت الصادرات تحسناً كبيراً، على رغم ان السياحة، وهي احدى ضحيتي الاقتصاد الرئيسيتين جراء الانتفاضة - الضحية الأخرى هي صناعة البناء وسوق العقار، ما تزال تعاني الركود. وبدأت صناعة التكنولوجيا المتطورة - التي انفجرت فقاعتها قبل الانتفاضة بوقت طويل - تستقطب ايدي عاملة بوتيرة متزايدة من دون انقطاع. ورفع ارباب العمل مستوى توقعاتهم وشرعوا بسد النقص في مخزونهم. وبقي المستهلكون متشائمين لفترة من الوقت، لكن الآفاق بدت لهم اكثر إشراقاً في مطلع 2004. وكانت حمى التسوق عشية عيد الفصح اليهودي - الذي يماثل اعياد الميلاد بالنسبة الى اسرائيل - الأفضل منذ 2000. وفاقت ايرادات الحكومة من الضرائب التوقعات، والأرجح ان يتحقق هدف 4 في المئة الذي حدد للعجز بالاتفاق مع الولاياتالمتحدة للحفاظ على مكانة اسرائيل المالية، وهو شيء كان معظم خبراء الاقتصاد يبدون شكوكاً كبيرة بشأنه الى وقت قريب. "بيبي" ليس ساحراً. فقد ساعدته الى حد كبير عوامل خارجية: انتعاش الاقتصاد الأميركي، وحدوث توسع جديد في قطاع التكنولوجيا المتطورة على صعيد عالمي، وانتهاء فترة القلق قبل الحرب على العراق، والتراجع النسبي في ضراوة الانتفاضة. ومع ذلك، لا بد للمرء من ان يعترف انه افاد من هذه الظروف المؤاتية. كما انه قاتل بعناد من اجل اهدافه، بمكر وببناء تحالفات ذكية. وبالطبع، كان التلاعب بوسائل الإعلام، الذي برع فيه سابقاً، عاملاً مساعداً، خصوصاً في صراعه ضد النقابات لصوغ الأجندة العامة. ولا تخلو الصورة من ظلال. وهي قاتمة بالفعل. فالبطالة ما تزال مرتفعة، وتقترب من 11 في المئة. وإذا كان المرء عاطلاً من العمل، لن يشعر بارتياح يذكر لأن معدل التضخم اصبح صفراً وخفضت ضريبة القيمة المضافة. ويفاقم هذا الإحساس ان "بيبي" الثاتشري النزعة خفض المساعدات للعاطلين من العمل وهدد بأن يفعل الشيء ذاته بالنسبة الى الضمان الاجتماعي. كما يقاسي الفقراء من الشغيلة الذين تقل مداخيلهم عن 1000 دولار شهرياً، وهم يحتجون بصخب. وتبدو آفاق وضعهم قاتمة بالتأكيد. وتعاني الصادرات الى اوروبا الشريك التجاري الرئيسي للبلاد جراء قوة اليورو. وليس من المؤكد ما اذا كان سوق الصادرات في جنوب شرقي آسيا ستواصل التعويض عن الخسائر في اوروبا الغربية. مع ذلك، لا يمكن إنكار حقيقة ان "بيبي الجديد" ينظر إليه على نحو متزايد باعتباره يمثل نجاحاً، وربما كان هكذا بالفعل، جزئياً. ولا يوجد شك في النتيجة السياسية. إذ ان "بيبي" هو الآن، اكثر من اي وقت مضى، محبوب اعضاء ليكود، ونجمه في صعود في استطلاعات الرأي العام. وينظر إليه باعتباره الخليفة الطبيعي لشارون في حال اطيح بالأخير بسبب فضائح فساد. وكي يعزز "بيبي" موقعه لجأ خلال الأسابيع القليلة الماضية الى التودد لفئات الدخول الأدنى، فمنحهم خفوضات ضريبية. لكن ماذا في شأن العاطلين من العمل؟ يرد مستشارو "بيبي" السياسيون بأن العاطلين من العمل يفتقرون الى النفوذ السياسي: انهم غير منظمين ويميلون بأية حال الى عدم التصويت. وإذا أدلوا بأصواتهم فإنهم سيصوتون ل"شاس"، حزب اليهود الشرقيين، او لأحزاب عربية. إذاً لا داعي للقلق، ف"بيبي" يشارك بالتأكيد في اللعبة ويخوض السباق، مرة اخرى. * كاتب اسرائيلي.